الرئيسية / أخبار سوريا / من هم السريان الاشوريين في سوريا

من هم السريان الاشوريين في سوريا

10 juli 2019

نص المحاضرة التي قدمها الرفيق كرم دولي عضو المكتب التنفيذي للمنظمة الآثورية الديمقراطية عن السريان الآشوريين في سوريا، في ندوة وطن التي ينظمها ” مشروع وطن للحراك المدني”.
ندوة تعريفية بالسريان الآشوريين في سوريا
السيدات والسادة الافاضل في ندوة وطن، احييكم جميعا انا كرم دولي، ويسعدني أن أكون معكم مرة ثانية في هذه الندوة السورية التي أكن لنشاطها وأهدافها النبيلة كل التقدير والاحترام.
ندوتنا اليوم تاتي في سياق تحقيق مزيد من التعارف والتثاقف بين اعضاء المجتمع السوري، الأمر الذي يساهم في إتاحة الفرصة للتعرف على (الآخر)، كما يقدم هو نفسه ، وبالتالي تقليص المسافة بين ماهو عليه وبين تصوراتنا عنه، والتي هي – أي المسافة – في جانب كبير منها محصلة لمسار تاريخي طويل ومعقد ساهم في رفع حواجز عالية بين الجميع وأنتج مصفوفة سمات او قوالب وفي الكثير من الأحيان ، أحكاماَ نمطية عن ذلك (الآخر).
في السياق ذاته، علينا قبل الخوض في موضوع ندوتنا ( السريان الآشوريين في سوريا )، أن ندرك بأنه لا توجد سردية واحدة فقط عن (النحن) في مستوى الهوية، خاصة عندما يكون الحديث عن هويات تاريخية موغلة في القدم لا تزال علوم التاريخ والانثروبولوجيا عاجزة عن تقديم سردية واحدة متماسكة عنها وفق ادوات المنهج العلمي، وعليه فنحن في تعريفنا لهوياتنا سنكون أقرب للحديث عن السرديات الأكثر حضورا في وعي اي جماعة لذاتها وعن السمات او الملامح العامة لهذا الوعي.
كماعلينا أن ندرك أيضاً، أن الهويات بتمظهراتها وتعبيراتها عن ذاتها هي غير ثابتة بل متبدلة تبعا لطبيعة القيم والمفاهيم السائدة في كل عصر من العصور (التعريف بدلالة الدين والقومية نموذجا).
اتمنى لكم استماعا ممتعا مع املي بان تساهم اسئلتكم وافكاركم في اغناء الندوة واستكمال تحقيق المرجو منها.
اولا: تمهيد تاريخي
يعتبر الآشوريون بتسمياتهم المختلفة (السريان، الكلدان، الآراميين) من أقدم الشعوب التي استوطنت المشرق، وتحديداً وادي الرافدين وبلاد الشام ، وتؤكد ذلك المكتشفات الآثارية في العديد من دول المنطقة.
ويعتز غالبية أبناء هذا الشعب اليوم بأنهم يشكلون امتداداً واستمراراً حيا ومتواصلا للأكاديين والآشوريين والبابليين والآراميين، الذين بنوا حضارة عريقة في هذه البلاد، وأقاموا دولاً وممالك منظمة لها دساتيرها وقوانينها وأنظمتها المميزة لمدة تتجاوز 3000 عام قبل الميلاد. وهم يشكلون بما يحملونه من ملامح ثقافية واجتماعية الوريث الأكثر حفاظا على ذلك الموروث الذي ظل متصلا من خلالهم ليربط الماضي بالحاضر، ويعتبرهم البعض بانهم الحبل السري الذي لا يزال يربط سوريا باسمها.
بعد سقوط آخر دولهم (بابل) عام 539 ق.م، بقي السريان في المنطقة وانتشروا على كامل رقعتها الجغرافية، حيث سادت ثقافتهم ولغتهم الآرامية ـ السريانية لقرون طويلة بالرغم من فقدانهم السلطة في بلادهم. الأمر الذي يفسر جانبا مهما من غيابهم او تغييبهم عن مسرح الأحداث التي شكلت لاحقا مانحن عليه اليوم، وتضارب السرديات حول طبيعة وجودهم ودورهم وعلاقاتهم بمحيطهم، وربما تفسر ايضا جانبا مهما من نزوعهم اللاحق لاعتناق المسيحية بما حملته من افكار انسانية اممية لا تخص أمة أو سلطة بعينها ويتساوى فيها الجميع في علاقة الاخوة مع البشر في رعاية الله الاب. وقد عزز ذلك ايضا ما لمسوه من انسجام مع الميتافيزيقيا النهرينية التي تتقاطع العديد من مروياتها ومفاهيمها مع جوهر المسيحية وعمودها الفقري القائم على سري التجسد والفداء عدا عن التشابه الكبير بين السردية التوراتية في التكوين والخلق مع الاساطير الراسخة في البلاد منذ عهود سحيقة.
لذلك كان الآشوريون (السريان) من أوائل الشعوب التي اعتنقت المسيحية، وساهموا في انتشارها وأوصلوها لتخوم الهند والصين، ( إذ لا يزال هناك في الهند اكثر من 3 مليون من اتباع الكنيسة السريانية الارثوذكسية يتبعون بطريركية السريان في دمشق) وبنوا الكثير من الكنائس والأديرة في وادي الرافدين والشام. كما أنشؤوا العديد من المراكز الحضارية والثقافية، أشهرها مدارس نصيبين والرها وقنشرين.
في الحقبة المسيحية ترسخت التسمية السريانية كتسمية لجميع مواطني ASSYRIA التي – تعني آشور وسوريا – وكذلك لجميع الامم التي اعتنقت المسيحية، لأن المسيحية جاءتهم من سوريا واهلها هم السريان ، وطغت على غيرها من التسميات وعرف هذا الشعب بالاسم السرياني. وهكذا أصبح الاسم السرياني في هذه الحقبة محصلة تاريخية وثقافية جامعة لمجمل حضارة سوريا ومابين النهرين.
تعرّض هذا الشعب لنكسة قاسية في القرنيين الرابع والخامس للميلاد، تمثلت بالانقسامات التي شهدتها الكنيسة، وغذّاها كل من الفرس والبيزنطيين، واتّخذوها ذريعة للإمعان في اضطهاده. توالت بعدها الانقسامات في كل كنيسة، فظهرت العديد من الطوائف المسيحية. ويتوزع السريان اليوم على كنائس وطوائف عديدة وهي : 1 . كنيسة السريان الأرثوذكس. 2. كنيسة السريان الكاثوليك. 3. كنيسة بابل الكلدانية. 4. كنيسة المشرق القديمة. 5. كنيسة المشرق الآشورية. 6. الكنيسة السريانية المارونية. كنيسة السريان الملكيين (روم أرثوذكس وكاثوليك)، كذلك السريان من اتباع الكنيسة الانجيلية. بعض هذه الكنائس بسبب عوامل جغرافية وسياسية وعقائدية طرأت عليها تبدلات وتحوّلات طالت هويتها ولغتها وانتمائها القومي مثل طوائف الروم وغيرها، بينما بقيت الكنائس الأخرى وأتباعها، متمسكة بأصولها وهويتها وثقافتها ولغتها، ومكّنها هذا من خلق وعي قومي، تبلور لاحقاً في الأوساط الشعبية ولدى النخب العلمانية التي تنتمي لهذه الكنائس، في قيام جمعيات ومنظمات وأحزاب قومية تسعى يشكل سلمي ديمقراطي مطلبي من أجل الحصول على الحقوق الثقافية والاجتماعية، وتثبيت هويتها وخصوصيتها ضمن إطار وحدة الدول التي تعيش فيها.
وبعد دخول جيوش العرب المسلمين البلاد، لعب السريان دوراً هاماً في إرساء دعائم الدولة الإسلامية وبناء حضارتها في عهد الخلافتين الأموية والعباسية، من خلال مشاركتهم في الدواوين والإدارات الحكومية، ومن خلال ترجمة العلوم والفلسفة اليونانية إلى العربية، وبرز رجال أمثال سرجون بن منصور في العهد الأموي، وآل بختيشوع و حنين وغيرهم في العهد العباسي.
وعلى العموم فقد نعم الآشوريون (السريان) بشيء من الأمن والاستقرار في ظل الدولة الإسلامية، لكنهم عانوا من وضعهم كذمّيين، وأرهقت كواهلهم الجزية ، ولم يسلموا من الظلم والتمييز في عهود بعض الخلفاء دون ان يتحول ذلك الى اضطهاد عام او ممنهج وفق اغلب المصادر التاريخية ، لكنه بعد قرن من الزمان تقريبا دفع الكثير منهم لاعتناق الدين الإسلامي، والتخلّي عن ثقافتهم ولغتهم السريانية، وحدث ذلك في المدن الكبرى اكثر من الارياف البعيدة عن مراكز السلطة والمصالح المرتبطة بها، الامر الذي قد يفسر استعراب غالبية السريان في سوريا مقابل استمرار المسيحية واللغة السريانية في الارياف الى عدة قرون لاحقة . وهو موضوع لا يزال يحتاج الى المزيد من البحث ومقارنة مختلف الروايات حوله. وقد ازداد وضعهم سوءاً إثر الاجتياح المغولي للمنطقة، ومن ثم في ظل السلطنة العثمانيية.
في أواخر الحكم العثماني، وإبّان الحرب العالمية الأولى 1915 ـ 1919 تعرّض الآشوريون (السريان) على أيدي الحكومة الاتحادية التركية لواحدة من أبشع حملات الإبادة الجماعية مع الأرمن وباقي مسيحيي السلطنة العثمانية، أودت بحياة ما يقارب النصف مليون إنسان من أبناء هذا الشعب، وتشريد مئات الآلاف منهم الى سوريا والعراق وفلسطين ولبنان والى امريكا الشمالية والجنوبية، وغيرت وجه المنطقة الديمغرافي وساهمت في تشكيل ذاكرة مثخنة بالجراح والمآسي والخوف والحذر من الآخر.
ثانياً: مسميات متعددة لهوية واحدة:
الانشقاقات في الكنيسة المسيحية، ببعديها السياسي واللاهوتي، اعتبارًا من القرون الميلادية المبكرة، لعبت الدور الأبرز في تمزيق هذا الشعب إلى مِلل وطوائف حتى بدت وكأنها تسميات لعدة شعوب، نتيجة للتأثير الطاغي للعقيدة الدينية واحتلالها مركز الهوية في ثقافة هذا الشعب وبقية شعوب المنطقة لمراحل تاريخية طويلة، يضاف لذلك، الدور المشبوه للبعثات التبشيرية الكاثوليكية والبروتستانتية في تغييب الحس بالهوية والثقافة الخاصة والتأسيس لمرجعيات روحية ومن ثم ثقافية غربية أسهمت بدورها في تعميق الانقسام”. هذا عدا عن “سياسة العثمانيين في تكريس نظام (الملة) والتي تعني (شعب) بصيغة وسياق مطابق للطائفة. لذلك تبرز التسميات التي تطلق اليوم على هذا الشعب من قبل الكثير من أبنائه والشعوب المحيطة به متطابقة مع اسم الكنيسة التي يتبع لها كالسريانية أو الآشورية أو الكلدانية”. فمثلا يعرف اليوم لدى العامة الاشوري بانه فقط من رعية كنيسة المشرق او الكنيسة الاشورية الشرقية ونفس الامر بالنسبة للكلدان والسريان.
اسم سوريا والسريان: لا يعرف على وجه التاكيد من هو الذي اطلق اسم سوريا على هذه البقعة الجغرافية، لكن ما ذهب اليه الكثير من المؤرخين ومنهم المؤرخ اليوناني الشهير هيرودوت (ابو التاريخ)، أن اليونانيين هم الذين اطلقوا عليها هذا الاسم اعتبارا من القرن الرابع قبل الميلاد، فدعوها اشوريا او اسوريا نسبة الى الآشوريين . ووفق اللفظ اليوناني الذي لا يحتوي على اللفظ (شين)، لفظت ASSYRIA وسكانها ASSYRIAN ونحت هذا اللفظ الجديد من خلال اللغة الآرامية التي كانت لغة عموم الإمبراطورية الآشورية بـ (سورويو) أو (سورايا) بحسب اللهجة السائدة في كل منطقة، ومنها جاءت لفظة (السريان) إلى اللغة العربية، وقد أكد هذا الاشتقاق اللغوي بين الاسمين السرياني والآشوري الكثير من المؤرخين والباحثين الثقاة” ( هبرودوت وهوميروس وثيودور نولدكه واباء الكنيسة السريانية ورواد النهضة القومية عند السريان الاشوريين )، وباللغة الارمنية يطلق لفظ (اسوري ) على جميع السريان الاشوريين. أما لفظ (آثوري) فليس إلا اللفظ السرياني لكلمة آشوري، إذ يتم التعبير عن الكلمة (آشوري) باللغة السريانية بلفظة (أوثورويو أو أثورايا)، وهي التسمية التي يطلقها العراقيون على الآشوريين.
وعلى الرغم من وجود روايات اخرى تقول احداها بان الاسم سوريا مشتق من اصل بابلي نسبة الى مقاطعة شمالي الفرات كانت تسمى (سوري) واخرى تنسبها الى مدينة صور إلا أن نظرية ان اسم سوريا واسيريا وآشور و تسمية سكانها سريان وآشوريين كالفاظ لمسمى واحد، هي التي تدفع الكثير من النخب السياسية والثقافية الآشورية لايراد الاسم الآشوري مرادفا للسرياني او استخدام احدى المفردتين بحسب السياق ولكن بدلالة واحدة دون ان يعني ذلك تغييب اي تسمية تاريخية لهذا الشعب العريق من الاكادية الى البابلية فالآشورية والآرامية والسريانية والكلدانية كمدلول قومي او إثني مع الانتباه الى ان التسمية الكنسية وخاصة السريانية تتجاوز تلك الحدود الى شعوب وامم اخرى كالعرب والفرس وغيرهم .
ملاحظة: هناك خلاف داخل البيت السرياني حول أصل السريان هل هم آشوريين أم آراميين، ويبني دعاة الاصل الارامي اعتقادهم على قناعة تقول بان الآراميين دعيوا سريانا بعد اعتناقهم المسيحية مع اعتقادهم ايضا بانها جميعا تسميات لشعب واحد، بينما يذهب البعض الاخر لاعتبار ان الاشوريين الحاليين هم اراميين ايضا وبان الاشوريين القدماء انقرضوا ولم يبق لهم اي وجود .
أما التسمية الكلدانية فتعود بمدلولها المتداول اليوم إلى منتصف القرن الخامس عشر، عندما أعلن نساطرة قبرص المؤمنين بعقيدة الكنيسة الشرقية النسطورية خضوعهم للكنيسة الكاثوليكية الرومانية و قبولهم لمعتقدهم اللاهوتي، حينها أصدر البابا أوجين الرابع في 7 آب من سنة 1445 م برائته الشهيرة في شأن هؤلاء المهتدين و فيها يأمر بأن لا يسموا نساطرة فيما بعد بل كلدانا ً.
عموما فان اصدق تعبير عن اسم اي شعب هو ما يتداوله العامة بلغتهم الام فاتباع كل تلك الكنائس يعرفون عن انفسهم بلفظة ” سورويو (باللهجة الغربية ) و سورايا (باللهجة الشرقية ) وهي تعني حرفيا (سوري ) باللغة العربية .
ثالثا: الآشوريون (السريان) في سوريا:
يرتبط الآشوريون (السريان) ــــــ أياً كانت جنسياتهم الحالية والبلدان التي يعيشون فيها ــــ برباط عاطفي متين بسوريا، كونها حملت اسمهم، وكونهم يحملون اسمها، وينظرون إليها باعتبارها وطن الآباء والأجداد. وفي الحقيقة فأن الوجود الآشوري (السرياني) في سوريا يمتد لآلاف السنين، وهناك المئات من المواقع الأثرية في الجزيرة وعلى امتداد رقعة الوطن السوري، تدلّ على آثارهم، وتؤشّر بوضوح إلى عراقة وقدم الوجود الإنساني والحضاري الآشوري في هذه المنطقة، حيث تزدان المتاحف الوطنية السورية والمتاحف العالمية بكنوز هذه المواقع. لهذا يعتبر الآشوريون (السريان) أنفسهم جزءاً أساسياً وأصيلاً من النسيج الوطني الاجتماعي في سوريا. و لا يزال الموروث الثقافي واللغوي والميافيزيقي للثقافة واللغة السريانية حاضرا في وقتنا الحاضر في الموسيقى والغناء الشعبي والعديد من التعابير في اللهجة المحكية وفي اسماء مئات المدن والقرى التي لا يمكن فهم معانيها الا باللغة السريانية. فعلى سبيل المثال تدمر تعني الاعجوبة.
يعيش الآشوريون (السريان) في العديد من المدن السورية كدمشق، وحلب، وحمص(وريفها)، وتعتبر الجزيرة السورية من أهم معاقلهم، حيث نزحوا اليها من مدنهم وقراهم (التي هي اليوم ضمن حدود تركية الحالية ) مثل ماردين وديار بكر وأورفة ومديات ومن جميع قرى طور عبدين وبرية نصيبين ومن مئات القرى الاخرى بعد المذابح التي تعرضوا لها . ففي مدن القامشلي والحسكة وعامودا والمالكية وراس العين والقحطانية تسمع لحد الآن بان فلانا ميردلي والآخر دياربكرلي او اورفلي او مدياتي او عين وردي او ازخيني او غرزي او بشيري او تمرزي …… ويتردد ايضا صدى هذه التسميات المكانية ولو بشكل اقل في حلب ودمشق وزحلة والقدس، وغالبية هؤلاء هم من اتباع كنيسة السريان الارثوذكس.
أما سكان الخابور فهم بغالبيتهم من اتباع كنيسة المشرق والكنيسة الشرقية الآشورية والكلدانية ( وهم من يطلق عليهم بالتعبير الدارج (الآشوريين ). اما مكان قدومهم فهو من العراق وتركيا الحالية حيث تم تهجيرهم من قبل الحكومة العراقية بعد المجزرة التي ارتكبتها بحقهم القوات العراقية النظامية مع بعض المرتزقة من العشائر الكردية في 7 آب 1933 في بلدة سيميلي حيث تم ترحيلهم بعدها الى سوريا واسكنتهم سلطة الانتداب الفرنسي في مخيمات على ضفتي نهر الخابور ليحولوها خلال بضعة سنوات الى مساحات خضراء تزرع بجميع انواع المحاصيل وخاصة كروم العنب ( لا يزال الآشوريون يطلقون عليها الكمبات واما اسماء القرى العربية فيقابل كل منها اسم المنطقة التي جاؤوا منها او العشيرة التي ينتمون اليها).
وقد شهدت مدن وبلدات محافظة الحسكة ، قياساً إلى عمرها القصير، نهضة كبيرة، وعرفت واحدة من أخصب المراحل، وأكثرها حيوية في تاريخ السريان المعاصر، وفي مختلف المجالات الفكرية والثقافية واللغوية والاجتماعية. ولعب الآشوريون (السريان) دوراً أساسياً في بناء العديد من المدن والبلدان في الجزيرة: مثل القامشلي والقحطانية والمالكية (ديريك) وعامودا والدرباسية، وأعادوا إعمار رأس العين والحسكة، وذلك بالتعاون مع شركائهم وإخوتهم من العرب والأكراد والأرمن ومن مختلف الاديان مسلمون ومسيحيون ويهود وإيزيديين . كما ساهموا في إعمار عشرات القرى في حوض الخابور. وكان لهم دور فعال في إحداث الفورة الاقتصادية التي عرفتها الجزيرة آنذاك على الصعيد الزراعي والصناعي والتجاري، ولم تقتصر اهتماماتهم على هذا المجال بل سعوا وبكل قوّة في بناء المدارس، والأندية الرياضية، والكشفية، والجمعيات الخيرية وساهمت هذه المؤسسات في إنشاء جيل متعلم واع ومدرك لواقع واحتياجات وطنه.
وعلى الصعيد الوطني، لعب الآشوريون (السريان) دوراً هاماً في النضال من أجل الاستقلال، وتفويت الفرصة على المستعمر الفرنسي في فصل الجزيرة عام 1937.
كما كان لهم دوراً بارزاً في تثبيت دعائم الحكم الوطني وترسيخ مؤسساته بعد الاستقلال، وذلك من خلال انخراطهم في الأحزاب الوطنية ومشاركتهم في الحياة العامة، والاستحقاقات الوطنية المختلفة كالانتخابات النيابية وغيرها، وخلال هذه الحقبة سعوا بكل إمكاناتهم للاستقرار والتجذّر في أرض الوطن معتمدين على حيويتهم وإمكاناتهم الذاتية وشراكتهم القائمة على الأخوّة والاحترام مع كافة الشرائح الوطنية،
تعتبر اللغة السريانية، اللغة الأم للكثير من الآشوريون (السريان) في منطقة الجزيرة، إذ تنتشر اللهجة السريانية الغربية (لهجة طورعبدين) في مدن القامشلي والقحطانية والحسكة ورأس العين والدرباسية والمالكية وبشكل أساسي لدى أتباع الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، كما تنتشر اللهجة السريانية الشرقية في قرى الخابور لدى أبناء الطائفة الشرقية الآشورية وعند طائفة الكلدان أيضاً. كما لايزال بعض اهالي معلولا وجبعدين وبخعة يتحدثون بلهجة سريانية (أقرب في اللفظ للهجة الشرقية ).
وعلى الرغم من صعوبة التفاهم بين متحدثي اللهجتين الغربية والشرقية نتيجة دخول الكثير من المفردات العربية والفارسية والتركية (بحسب منطقة الاحتكاك ولغة السلطة) إلا أن الجميع يشترك باللغة الفصحى والتي تسمى (كثوبونويو) وهي وفق معظم المصادر لهجة مملكة (أورهي ) وبالعربية الرها المعروفة حاليا ب أورفة . وتكتب بعدة خطوط .
تنشط في صفوف السريان الآشوريين تنظيمات وأحزاب قومية تتبنّى نهجاً سلمياً مطلبياً، وتدعو إلى الاعتراف بالشعب الآشوري (السرياني) كأحد المكونات القومية للشعب السوري واعتبار التراث والثقافة واللغة السريانية تراث وثقافة ولغة وطنية، وذلك ضمن إطار السيادة والوحدة الوطنية للبلاد، وعلى الصعيد الوطني تدعو إلى بناء مجتمع ديمقراطي علماني ينعم جميع أبناؤه بالعدالة والمساواة على قاعدة الشراكة والمواطنة الكاملة، وهي تنظيمات غير مرخصة ومن أبرزها المنظمة الآثورية الديمقراطية، وحزب الاتحاد السرياني والحزب الآشوري الديمقراطي، ولهذه التنظيمات امتداد لدى الجاليات السريانية الآشورية في المهجر.
نزيف الهجرة :
شكل السريان الآشوريون نسبة ربع الى ثلث محافظة الحسكة واكثر من 60 الى 70 % في مراكز المدن الرئيسية كالقامشلي والحسكة وراس العين والمالكية والقحطانية والدرباسية وذلك حتى عقد السبعينيات لكنها تراجعت كثيرا اعتبارا من منتصف الثمانينات حيث تزايدت معدلات الهجرة بشكل ملحوظ. وتعود بدايات الهجرة الى عقد الستينيات وترافقت مع عمليات التاميم لمنشات زراعية وصناعية ومدارس خاصة واغلاق بعض المؤسسات الثقافية والرياضية للسريان كنادي الرافدين وبروز دور الاجهزة الامنية وتدخلاتها في حياة المواطنين والتي تغولت بشكل ملحوظ في الثمانينيات وتعرض الكثير من الناشطين السريان الاشوريين من كوادر المنظمة الآثورية الديمقراطية للاعتقال والتعذيب اضافة الى الاسباب العامة الدافعة للهجرة كالحالة الاقتصادية المتردية في عقد الثمانينات والتسعينيات، ومع دخول الالفية الجديدة تراجعت معدلات الهجرة بشكل ملحوظ وبدت ملامح تعزيز الاستقرار عبر التوسع العمراني واقامة العديد من المشاريع الاقتصادية بالتعاون مع المغتربين إلا ان ما حملته السنوات الثماني الماضية كان كافيا لتهجير نسبة كبيرة ممن تبقى منهم في الجزيرة وحلب ودمشق ودير الزور وحمص والرقة وغيرها.
العلاقات الاجتماعية: ما يميز هذه المحافظة هو انها تجمعات سكانية جديدة قامت على الشراكة والتكامل بين مختلف الاطياف وبين الريف والمدينة، ويشعر فيها الجميع بانهم شركاء واخوة. كما ساهم النشاط الزراعي في خلق علاقات اجتماعية تجاوزت حدود الهويات الدينية والقومية في مشهد قل نظيره من الثقة والاحترام والتعاضد الاجتماعي والامثلة كثيرة جدا وفي كافة المستويات. لكن المراقب للوضع يلحظ تراجعا وتصدعا في بنية هذه الشبكة الاجتماعية الاقتصادية اعتبارا من منتصف التسعينيات حيث بدأت تتصاعد شيئا فشيئا هواجس وحساسيات هوياتية دينية وقومية نتيجة جملة من العوامل الذاتية والموضوعية وتأتي على رأسها ممارسات النظام الامني التي استغلت كل مكامن الهشاشة في المجتمع والدفع للامعان في اخضاع الناس ورفع الحواجز بينهم. وايضا تاثرت شيئا فشيئا بما تبثه القنوات الفضائية الدينية والتي اثرت سلبا باتجاه ارتفاع مستوى التدين وما ترافق معه من مظاهر لم تكن منشرة بشكل ملحوظ في المجتمع مع نزوع اكثر نجو الانغلاق في ما يشبه الغيتوهات ضمن الاحياء لكن بالمقابل شهدت ايضا تزايد وتعميق للعلاقات الثقافية والسياسية على مستوى النخب لكنها لاتزال غير قادرة على نقله الى المستوى الشعبي بالشكل المطلوب.
ثالثا: المشهد السياسي:
تنطوي البيئة الاجتماعية للسريان الآشوريين على تنوع في الانتماءات والمواقف السياسية مثلهم مثل بقية اطياف الشعب السوري. ومنذ تاسيس الدولة السورية انخرطوا في الاحزاب السورية بكل تنوعها قبل وبعد الاستقلال وايضا بعد استلام البعث للسلطة فكان منهم الشيوعي والبعثي والسوري القومي. ويشهد لهم بالتفاني والاخلاص ونكران الذات. وتجربتهم في هذا لا تختلف كثيرا عن رفاقهم في بقية المحافظات ومن بقية الوان الطيف السوري. إلا انهم وبفعل العوامل الموضوعية التي لم تعد تخفى على احد فشلوا في النفوذ الى عمق المجتمع والتاثير فيه وهنا ايضا المشهد متشابه في كل انحاء البلاد.
قد يتساءل البعض مستفهما او مستنكرا… لماذا نشات احزاب على اساس قومي . وللاجابة عن هذا السؤال علينا العودة قليلا الى الماضي للتعرف على تلك الاسباب وفهم طبيعة ومنشا النزعة القومية الاثورية والتي لا تختلف كثيرا عن طبيعة ومنشا النزعات القومية لدى بقية الشعوب الاخرى المجاورة كالعرب والاكراد وغيرهم من الشعوب التي كانت خاضعة للسلطنة العثمانية.
ارهاصات نشوء الوعي القومي:
مثل جميع الشعوب التي خضعت للسلطنة العثمانية، تأثر السريان الآشوريون بالأفكار القومية، وأفكار النهضة والتنوير القادمة من أوربا وانتشرت في أواسط القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وارتكز نمو وتطور الفكرة القومية لديهم بدايةً على نهضة ثقافية ولغوية، عززت الشعور بالوحدة والانتماء المشترك، انطلاقاً من المشترك الثقافي المتمثل باللغة السريانية التي تربط جميع الطوائف وكذلك الشعور المشترك الذي عززه الظلم والاضطهاد الذي وقع عليهم من قبل حكومة الاتحاد والترقي التركية أثناء الحرب العالمية الأولى بسبب انتمائهم القومي والديني. بالاضافة للتاريخ المشترك سواء قبل المسيحية أو بعدها. هذا التاريخ الذي خلق منظومة ثقافية حضارية أغنت الإنسانية جمعاء. وظّلت على الدوام مثار فخر واعتزاز لجميع أبناء هذا الشعب الذي أفصح عن إرادة وتطلع مشتركين للتحرر والإنعتاق من نير الحكم العثماني أسوةً بجميع شعوب المنطقة التي خضعت له.
هذه التطورات دفعت السريان الآشوريين إلى إنشاء جمعيات اجتماعية وثقافية، صدر عنها صحف ومجلات قومية ، دعت إلى الإصلاح والنهضة. تأسست في مدن آمد (ديار بكر) وخربوت وأورميا على أيدي رواد النهضة القومية ، في زيادة زخم المد القومي. الذي ما لبث أن توقف بفعل سيف الاضطهاد الذي طال هذا الشعب على أيدي السلطات التركية، حيث سقط حوالي نصف مليون شهيد، وهجّر وشرّد مئات الألوف من أبنائه، وأبعدوا عن مدنهم وقراهم، وجرى تدمير تجمعاتهم السكنية واغتصابها، ما أدى إلى تغيير الخريطة الديمغرافية لكثير من هذه المناطق.
وجاءت اتفاقية سايكس بيكو لتفصل بين ابناء الشعب الواحد في عدة دول: تركيا و العراق وسوريا وايران بعد ان ساهم الآشوريون في انتصار قوات الحلفاء في الحرب العالمية الاولى في مسعى للتخلص من نير العثمانيين ولتحقيق تطلعاتهم التي تجلت بالمطالبة بالحكم الذاتي حينها والتي اصطدمت بخيانة البريطانيين لوعودهم (كما فعلوا مع بقية شعوب المنطقة) وبالتالي فشلت كل محاولات حصولهم على حقوقهم القومية. واستكملت فصول المأساة على يد الحكومة العراقية في مذبحة سيميلي في آب 1933، والتي شكلت لمعظم المراقبين والمؤرخين الموضوعيين، بداية التحول نحو الفكر الشوفيني والإقصائي الذي دفع إلى بناء مشوّه للدولة العراقية، فرض لاحقاً أثماناً باهظة ما زال يدفعها الشعب العراقي بمختلف مكوناته القومية والدينية..
تأسيس أول حزب سياسي للسريان الاشوريين:
في الجزيرة السورية عاش السريان بمختلف طوائفهم حالة من الاستقرار أنستهم الآلام والمآسي التي ألمّت بهم طيلة العقود الماضية. وكان من نتيجة ذلك أن بلغوا في عقد الخمسينيات مرحلة من التطور في كافة المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، عززت من حالة الاستقرار، وقوّت روابط الانتماء للمكان، وزادت التفاعل بين طوائفه من جهة ومع شركائه في الوطن من جهة أخرى، إلا أن تصاعد الخطاب القومي العربي الناصري والبعثي الذي مثل نهجا وفكرا احاديا يلغي حقيقة وواقع التنوع القومي والثقافي في البلاد وسعى الى تذويب وصهر الاخر ضمن البوتقة العربية ، إضافة الى فشل الحكومات والأحزاب الوطنية في إنجاز عملية التحول الديمقراطي وتحقيق العدالة والمساواة لجميع المواطنين، وتنامي النزعة القومية وصعودها لدى الشعوب الأخرى في الوطن. دفعت الشباب المثقف للتفكير بتشكيل حركة سياسية خاصة بالسريان الآشوريين، قادرة على تجسيد طموحاته وتطلعاته القومية والوطنية. فجاء ميلاد المنظمة الآثورية الديمقراطية في الخامس عشر من تموز عام 1957 كأول تنظيم سياسي في تاريخ هذا الشعب، على يد مجموعة من الطلاب المتحمسين، ولم تكن مصادفة ان ياتي ذلك بعد شهر واحد من تاسيس اول حزب كردي في سوريا رغم عدم وجود اي علاقات سياسية حينها فهي تؤشر الى تشكل ظرف موضوعي يدفع بهذا الاتجاه داخل المجتمع السوري حينها.
المنظمة الآثورية الديمقراطية اكدت منذ نشاتها على الربط بين النضالين القومي الاشوري والنضال الوطني الديمقراطي مستندة على قاعدة انه لا يمكن للسريان الآشوريين العيش بحرية وكرامة الا في ظل الدولة الوطنية والنظام الديمقراطي. وقد واجهت في مسيرتها الكثير من التحديات منها ما هو ذاتي متصل بطروحاتها في المستوى الفكري حيث مثل فكرها القائم على وحدة هذا الشعب بمختلف طوائفه ومسمياته تحديا وثورة فكرية على واقع طائفي ترسخ عبر عشرات القرون وشكل لكل طائفة عالمها الخاص وايضا ما مثلته من منافسة وتهديد لدور وهيمنة البنى التقليدية الاجتماعية وخاصة لدور مؤسسة الكنيسة الذي تكرس كممثل لابناء هذا الشعب امام السلطات الحاكمة على مر العصور، اما التحديات الموضوعية فهي لا تختلف كثيرا عن تجربة بقية احزاب المعارضة السورية ( او المحظورة) التقليدية وأن تميزت بطبيعة خطاب السلطة ومحاولتها التهويل من خطورة هذا الطرح القومي ووسمه بالانفصالية والعمالة للصهيونية والرجعية و تقاطعت حينها مع خطاب مماثل من قبل الاحزاب الشيوعية والقومية العربية والسورية القومية موالاة ومعارضة والصقت به تهم الشعبوية والانغلاق والماضوية. لكل ذلك كانت العقود الاولى حتى منتصف الثمانينات مرحلة تبشير قومي ثقافي تمكن من احداث تحولات بارزة على صعيد نمو الوعي القومي والارتقاء بالمستوى الثقافي لدى جيل الشباب كما شهد توسعا تنظيميا كبيرا خاصة بين صفوف الشباب الجامعي وشكلت كل من جامعتي حلب ودمشق مناخا نموذجيا لتمدد المنظمة وتوسعها تنظيمبا. وفي منتصف الثمانينات تعرضت المنظمة الى حملة اعتقالات شملت الدفعة الاولى منها اعتقال 22 من قيادات الصف الاول والثاني حيث تعرضوا الى تعذيب شديد لا زال قسما منهم يدفع ثمنه من وضعه الصحي لغاية هذا اليوم رغم قصر مدة اعتقالهم.هذا الامر شكل هزة للمنظمة وبث الرعب في اوساط مناصريها وباتت الآثورية تهمة جاهزة لدى الاجهزة الامنية وازلامها للانقضاض على اي شخص لا ترضى عنه الاجهزة الامنية. وبعام 1990 استطاعت المنظمة ان تصل الى مجلس الشعب باسمها وبمقدراتها المتواضعة وكانت المرة الاولى التي تختبر فيها رصيدها الجماهيري. وعلى الرغم من ان الاعتقالات والمضايقات الامنية والفصل من الوظائف لم تتوقف الا ان تلك التجربة اكسبت المنظمة المزيد من الجراة والثقة بالنفس ووسعت من دائرة علاقاتها الوطنية. وكانت جاهزة للمشاركة بفاعلية في مختلف نشاطات الحراك السياسي والثقافي السوري الذي تصاعد بعيد استلام بشار الاسد للسلطة في ما سمي بربيع دمشق عبر المنتديات ولجان الدفاع عن الحريات ولجان احياء المجتمع المدني وصولا الى اعلان دمشق.
ومع انطلاقة الثورة السورية لم تتردد المنظمة الآثورية في الانخراط في الحراك الشعبي المطالب بالحرية والكرامة وكانت عضوا مؤسسا في المجلس الوطني ومن ثم في الائتلاف وفي هيئة التفاوض ولها حاليا ممثلين في اللجنة الدستورية.
السريان الآشوريون و الثورة السورية:
يمكنني اختصار الموقف لعامة الناس من السريان الآشوريين بالقول، ان بناء دولة القانون والمؤسسات القائمة على المواطنة واحترام حقوق الانسان هي في مركز تطلعاتهم ومبتغاهم ومصالحهم. ولكي نكون دقيقين اكثر، فإن توصيف الموقف الذي بدا مساندا للنظام لا يصف حقيقة موقفهم، بل يمكن القول بان غالبية نسبية منهم بالنهاية لم يساندوا الثورة، وان كان لقسم منهم في بداياتها مواقف ايجابية وتطلعات لانجاز التغيير الديمقراطي المنشود.
في القامشلي وعامودا اطلق الشباب الكرد شرارة المظاهرات الاولى ابتداء من الاول من نيسان 2011 وجاءت اول مظاهرة حاشدة ومنظمة في 8 نيسان وشهدت مشاركة من قبل كل اطياف المجتمع وقواه السياسية وان بشكل متواضع بالمقارنة مع الكرد ثم عمت المظاهرات في كل مدن المحافظة وشارك فيها الجميع.
كيف تعامل الشارع السرياني مع الحدث؟
المزاج العام لدى الشارع السرياني لم يكن مرتاحا لاسباب عديدة اهمها الخشية من وقوع العنف والانفلات الامني الامر الذي يذكرهم بما حدث لاهلهم في العراق حيث كانوا الخاسر الاكبر. لكن لم يتم التعبير عن ذلك بشكل واضح في الايام الاولى التي يمكن توصيفها بمرحلة الترقب لمآلات هذه الانتفاضة، خاصة ان الكنيسة السريانية كانت قد اصدرت بيانا طالبت فيه النظام باجراء اصلاحات وربما كانت المرة الاولى التي تستخدم تعابير تشير الى اصلاحات سياسية ايضا وليس فقط اقتصادية. كما ان الكنيسة الاكبر وهي السريانية في المحافظة نجحت في الاشهر الاولى في مقاومة ضغط النظام وازلامه عليها لاخراج مظاهرات تاييد له من امام ابوابها. ودفع مطران ابرشية الجزيرة والفرات للسريان الثمن لاحقا و اضطر للفرار بعد تعرضه للتشبيح والتهديد بالقتل اكثر من مرة لمجرد انتقاده لبعض ممارسات النظام وتراخيه في حماية امن وسلامة الناس وتلميحه الى وجود اصابع للنظام في عمليات الخطف التي تعرض لها ابناء رعيته وايضا لتركيزه في اكثر من خطبة على ارسال رسائل ايجابية لكل من الكرد والعرب واهمية التلاحم بين الجميع دون ان يمالء النظام في تعابيره كما جرت العادة لدى رجال الدين عموما.
مطران حلب للسريان المختطف من العام 2013 مع مطران الروم، كانت له مواقف وتصريحات على نطاق واسع في وسائل الاعلام العربية والدولية ان لم نقل بانها كانت معارضة لكنها على الاقل وجهت انتقادات لاذعة للنظام، عدا عن التحركات الكبيرة والعلاقات الايجابية الواسعة التي بناها المطران مع العديد من فصائل المعارضة ازعجت النظام الذي تحوم حوله الكثير من الشكوك من انه وراء تغييبه .
النظام كان حاضرا عبر اعلامه الذي ركز على نظرية المؤامرة والبديل المتطرف وايضا عبر ازلامه حيث لجأ الى البعض من ضعاف النفوس والمرتهنين لاوامره لبث الذعر في النفوس واشاعة وتضخيم المخاطر والمخاوف من الاخر.
هكذا كان الحال خلال الاشهر الاربعة الاولى بعدها غيبت اجهزة الشرطة والامن الجنائي وشرطة المرور نفسها عن المشهد وانزوت في مربعها الامني في المدن الرئيسية القامشلي والحسكة واعطت اشاراتها لكل المكونات لملء الفراغ وغضت الطرف عن التسلح وانتشار السلاح الفردي في الشوارع. بالمقابل شهدت المظاهرات زيادة نسبية في مشاركة السريان الاشوريين ليس فقط من انصار المنظمة الآثورية بل من قبل اعضاء من حزب الاتحاد السرياني و وأفراد آخرين آمنوا بشعارات واهداف الثورة مع تراجع النظام وانكفائه وعدم وجود خطر على المتظاهرين كبقية المحافظات، رغم الاعتقالات التي طالت كوادر وناشطي المنظمة الآثورية التي طالت العشرات منهم في محافظة الحسكة وحلب.
سياسيا شاركت المنظمة الآثورية الديمقراطية في تاسيس المجلس الوطني السوري في الوقت الذي لم تكن مجموع الاحزاب الكردية قد حسمت خيارها اتجاه الانضمام لاي من اطر المعارضة.و لم يكن ذلك الخيار سهلا على المنظمة أمنيا واجتماعيا ايضا، فجميع قياداتها مقيمون في القامشلي والحسكة في ظل وجود النظام امنيا وعسكريا.
الضربة القاصمة للثورة وتصاعد العداء لها والخوف منها بدا يظهر بشكل بارز مع انتشار عمليات الخطف وطلب الفدية حيث تعرض اكثر من 65 شخصا للاختطاف وطلب الفدية تلا ذلك في اواخر العام 2012 دخول بعض الفصائل المسلحة الى راس العين ومن ثم قرى الخابور الاشورية وقيامها بممارسات مسيئة جدا بعيدة كل البعد عن شعارات الثورة هذا عدا عن تسمياتها وراياتها الاسلامية وكان من بينها جبهة النصرة الامر الذي عزز هواجس الناس ومخاوفهم من المستقبل، وأضفى على جانب كبير من المشهد سمات اسلامية متطرفة، عززت لدى البعض قناعات مسبقة بأنها ثورة ذات طابع اسلامي، ومثلت انحرافا خطيرا لدى البعض الآخر، وقدمت بالمقابل الكثير من المسوغات لسردية النظام مما دفع بالكثير من المترددين والمراقبين الى مناهضة الثورة واعتبار بقاء النظام افضل من بديل اسلامي متشدد.
التسلح:
تشكلت هيئة اهلية للسريان باسم هيئة السلم الاهلي شاركت فيها الكنيسة والاحزاب وبعض الروابط والتجمعات المدنية بداية العام 2013 وسارعت لوضع خطة لتقديم الخدمات ولحماية الاحياء المسيحية والاملاك العامة والخاصة خشية من اعمال اواعتداءات على خلفية جنائية وايضا لضبط الشباب المسلح الذي يجوب الشوارع للقيام باعمال الحراسة والحماية ( والذي كان قسم منهم مرتبطا بالنظام ) وتشكل مكتب الحماية (سوتورو) وتعني الحماية، كحالة شرطية لا ترفع اي علم لا النظام ولا الثورة. لكن سرعان ما تدخلت اجهزة النظام وشقت صفوفه، فانسحب قسم، ووجد من تبقى نفسه مضطرا للانضمام الى ميليشيا الدفاع الوطني إما عن قناعة لدى البعض، او لكونه الخيار الافضل من بين الخيارات المتاحة لدى البعض الآخر . القسم الذي رفض الانضمام للدفاع الوطني وهم من انصار حزب الاتحاد السرياني حافظ على نفس الاسم (سوتورو) و انضم لاحقا الى الادارة الذاتية والاسايش ووحدات حماية الشعب التي يسيطر عليها الpyd.باسم المجلس العسكري السرياني.
مع توالي الاحداث وبروز داعش كخطر مهدد بدا بالاقتراب من تخوم المحافظة ومن ثم سيطرته على جزء كبير منها بموازاة تصاعد حالات الفصائلية والخطاب التحريضي والطائفي في الاعلام وتصاعد الخشية من بديل اسلامي متطرف، وعدم نجاح المعارضة السياسية في تقديم سلوك وخطاب مقنع، كلها ساهمت في دفع الغالبية من العامة لمناهضة الثورة.
كان النظام اعتبارا من العام 2012 قد بدأ بتسليم القرى والمدن لحزب الاتحاد الديمقراطي pyd والذي قام بدوره بقمع المظاهرات والسيطرة على اماكن التجمع والانفراد بطرح شعاراته الخاصة، والتحضير لانشاء الادارة الذاتية ثم مشروع فدرالية روج افا ومن ثم سوريا الديمقراطية. هذا ايضا لم يلق قبولا لدى غالبية السريان الاشوريين حيث اقتصرت المشاركة على حزب الاتحاد السرياني.
بموازاة ذلك فشلت مبادرة المنظمة الآثورية اوائل العام 2013 في عقد مؤتمر وطني لأبناء المحافظة من اجل تشكيل الهيئة الوطنية في الجزيرة السورية بعد دعوتها لممثلين عن مختلف القوى الكردية والعربية والسريانية الاشورية حيث عقدت عدة اجتماعات للتشاور واعداد ورقة مبادئ ورؤية سياسية منسجمه مع اهداف الثورة من جهة ومن جهة اخرى تجنيب المحافظة ان تتحول الى ساحة اقتتال، وتجريم الاقتتال بين فصائل الجيش الحر ووحدات الحماية الكردية باعتباره لا يخدم الا النظام، إلا ان المشروع لم يكتمل .
كذلك الامر ساهمت الاحزاب والكنائس السريانية في تشكيل هيئة السلم الاهلي في المحافظة والتي ضمت ممثلين عن جميع الفعاليات السياسية والدينية والاجتماعية والمدنية، والتي سعت لانشاء شبكة حماية اجتماعية و لتوسيع دائرة ادارة وتوزيع الخدمات وايضا لتشكيل وحدات حماية من كل المكونات للقيام باعمال الحراسة وحماية المنشات الخاصة والعامة لكنها اصطدمت بتفرد ال pyd واصراره على ادارتها بمفرده.
في نهاية العام 2013 وبداية 2014 اعلن عن تشكيل الادارة الذاتية من قبل الpyd ولم ينضم للمشروع من السريان سوى حزب الاتحاد السرياني ولاحقا بعام 2016 انضم الحزب الاشوري الديمقراطي الى مجلس سوريا الديمقراطية وفدرالية شمال سوريا.
في 23 شباط 2015 قام تنظيم داعش باجتياح قرى نهر الخابور (34 ) قرية ودمر العديد من الكنائس والأديرة واختطف حوالي 235 من النساء والشيوخ والشباب ليتم اخراجه بعدها من قبل الوحدات الكردية ، واليوم هو تحت سيطرة قسد وافرغ من اهله وسكانه الذين فروا الى مدن اخرى وهاجر غالبيتهم الى اوروبا واستراليا واميركا. كما لم تسلم الاحياء السكنية في كل من القامشلي والحسكة من التفجيرات الارهابية التي راح ضحيتها عشرات الشباب.
لغاية العام 2013 قلة قليلة من السريان قررت الهجرة وبقيت الغالبية على امل انتهاء الازمة الا ان زيادة العنف وانسداد افاق الحل دفع بالكثيرين اعتبارا من العام 2014 لمغادرة البلاد . اليوم لا يتجاوز عدد السريان الاشوريين في محافظة الحسكة 30 الف نسمة بعد ان كان تعدادهم يقارب 150 الف نسمة بالعام 2011.
ان ماذكرته على الرغم من انه يركز على محافظة الحسكة إلا انه متشابه في الكثير من جوانبه مع واقع السريان في بقية المحافظات.
وبمكن تكثيف الموقف من خلال تناول مواقف كل من الاحزاب والكنائس.
1- موقف الاحزاب السياسية القومية الناشطة بين صفوف السريان الآشوريين.
تأتي المنظمة الآثورية الديمقراطية في مقدمة هذه الاحزاب واعضاءها ومناصريها هم من كافة الطوائف والمناطق. وقد انخرطت بصفوف الثورة والتحم كوادرها بصفوف المتظاهرين منذ الايام الاولى. وتعرضت للاعتقالات والملاحقات ومداهمة مقراتها، ولحملة تخوين واتهامات طالت ناشطيها في الجزيرة وحلب. وموقفها هذا جاء استمرارا لمواقفها السابقة ولنهجها السياسي في النضال من اجل التغيير الديمقراطي وكانت من اوائل من رفضوا التسلح وعسكرة الثورة، ولم يقتصر دورها في الحراك الشعبي والسياسي والمدني والإغاثي على سوريا، بل لعبت ولا تزال دوراً بارزاَ في سوريا وعبر ناشطيها وفروعها في اوروبا وامريكا لدعم ومساندة مطالب الشعب السوري وعلى كافة المستويات.
وينشط ايضا ايضا حزب الاتحاد السرياني وهو حزب ظهر مع بداية الثورة واعلن موقفا واضحا ضد النظام وشارك ايضا في المظاهرات والحراك السياسي. وهو تاريخيا قريب من حزب العمال الكردستاني وحاليا هو جزء من الادارة الذاتية ومن مجلس سوريا الديمقراطية وقوات سوريا الديمقراطية ممثلا بالمجلس العسكري السرياني كجناح عسكري وقوات السوتورو كقوات امن داخلي. وقد زاد حضوره في اوساط السريان نسبيا اكثر من مرحلة ما قبل الثورة.
الحزب الآشوري الديمقراطي: يقتصر حضوره ومناصريه على ابناء الكنيسة الاشورية وينشط في الخابور هو اقرب لما يسمى قوى معارضة الداخل رغم انضوائه مؤخرا ضمن مجلس سوريا الديمقراطية.
2- الكنيسة: يمكن تلخيص موقفها عبر مرحلتين. المرحلة السلمية في الاشهر الاولى ولغاية صيف 2011 كانت تدعو لملاقاة مطالب المتظاهرين و اجراء اصلاحات اقتصادية وسياسية، لكنه سرعان ما تحول الى موقف مناهض للثورة و يعود ذلك لانحراف الثورة عن مسارها السلمي وعناوينها الوطنية الجامعة، والخشية من البديل المتطرف والدولة الدينية. بالمقابل لا يمكن فهم وتبرير بعض المواقف الداعمة والمساندة للنظام بعيدا عن فهمنا لطبيعة مؤسسة الكنيسة كمؤسسة خاضعة تاريخيا للسلطات الحاكمة و حرصها على العمل ضمن قواعد وشروط السياسات الرسمية، على اعتبار أنّ الكنائس هي مؤسسات رسمية معترف بها، وبالتالي لا تخرج عن التوجهات والخطوط المرسومة لها، فتقبل في أحيانٍ كثيرة مسايرة المواقف الرسمية للنظام، وتبنّي سردياته،وطبعا هذا لا يبرر مغالاة بعض رجال الدين في دعم النظام والتطبيل له بشكل يخرج عن حدود وطبيعة الدور الروحي المناط بهم.
قبل ان انهي التسجيلات، ساسمح لنفسي باستثمار وجودي بينكم في هذا المنبر الوطني لأنقل لكم الأماني والتطلعات المشتركة التي لا يختلف حولها جميع السريان الاشوريين في سوريا والمهجر، بمختلف مسمياتهم ومواقفهم السياسية معارضين كانوا ام موالين :
يعتز السريان الاشوريين على اختلاف مسمياتهم بان يتم التعاطي معهم بدلالة اسمهم القومي وليس الديني رغم اعتزازهم بعقيدتهم المسيحية التي هي جزء من ثقافتهم وشخصيتهم.
يفخرالسريان الآشوريون بانتمائهم لهذه البلاد، يحملون اسمه ويحمل اسمهم، ومن حقهم ان يحظوا باعتراف دستور بلادهم بهم كأحد المكونات القومية للشعب السوري. الأمر الذي سيحول الملايين منهم الى طاقات داعمة للدولة السورية وحماية سيادتها واستقلالها وخدمة مصالحها السياسية والاقتصادية لما يمتلكونه من طاقات هائلة اقتصادية وعلمية وعلاقات سياسية واجتماعية وايضا سيوفر لسوريا جيوشا من السفراء غير الرسميين المعبرين عن مصالح سوريا وخدمة تطورها وازدهارها.
يتطلع السريان الآشوريون لقيام دولة القانون والمؤسسات التي تبنى وتدار على قاعدة المواطنة الكاملة والمتساوية للجميع. دولة تحترم وتصون حقوق الأفراد والجماعات وفق المواثيق الدولية لحقوق الانسان، دولة الادارة والخدمات لا الدولة الامة، باعتبارها منتج قانوني وفضاء مشترك للجميع بعيدا عن اي ملحق او صبغة دينية او قومية او ايديولوجية، وهي بهذا المعنى دولة كل المواطنين السوريين الذين يشعرون جميعهم بالانتماء لها بقدر ما يتكرس ذلك في مؤسساتها العامة، التعليمية والاعلامية والقضائية والتشريعية، وفي رموزها الرسمية، من شعور لدى الجميع بانهم جزء حقيقي منها، الدولة التي تحترم الاديان والعقائد وتقف على مسافة متساوية منها وتنظم مكان تفاعلها وتدعم وتنظم نشاطها في المجتمع المدني. فالدين والقومية والاديولوجيا هي سمة الافراد وليست سمة للدول.
كما لا يستقيم الحديث عن هوية سورية جامعة و متصالحة مع ذاتها دون ان تنهل من حالة التنوع القومي والديني والثقافي ومن مجمل المسار الحضاري والتاريخي لسوريا.
وايضا فان الاقرار بالحقوق والحريات يجب ان يرتكز على ما جاءت به المواثيق والعهود الدولية لحقوق الانسان ومتمماتها وان لا ترتبط بعدد افراد الجماعة القومية الاثنية او الدينية او اللغوية وعكس ذلك يعني دولة الغلبة لا دولة الحقوق والحريات مع الابتعاد عن منطق المحاصصات الطائفية والقومية التي تكرس البنى مادون الوطنية.
ان الاهتمام باحياء وتدريس ونشر اللغة السريانية كلغة وطنية سورية، التي اختزنت ثقافة وحضارة المنطقة لعصور طويلة، ليس شأن السريان الاشوريين وحدهم بل هو مسؤولية وطنية تقع على عاتق كل السوريين.
ويعمل السريان الآشوريون بالتشارك مع الكثيرين من ابناء الشعب السوري لبناء دولة تنتفي فيها ثنائية الاكثرية والاقلية بدلالة الهويات، الى اكثرية واقلية بالمعنى السياسي، وفق قيم ومفاهيم وجوهرالنظام الديمقراطي.
ختاما، أجدد شكري وتقديري للقائمين على ندوة وطن ، ولكم اهلي واحبائي لتحملكم مشاق الاستماع مع اعتذاري عن الاطالة.

شاهد أيضاً

المنظمة الآثورية الديمقراطية تصدر بياناً في ذكرى تأسيسها الرابعة والستين

15-07-2021 بيان صادر عن المنظمة الآثورية الديمقراطية في ذكرى تأسيسها الرابعة والستين تنامى الوعي القومي …