كنا قد بينا رأينا في الماضي بالناحية الدينية في الإيضاحات الفكرية بشكل عام أتثبتنا انه لا تناقض بين الدين والقومية لان لكل منهما مجاله الخاص ،فالكنيسة مجتمع روحي وديني وعلاقتها مع الله ،وهي مخصصة للعبادة وتبرئة ذمة الإنسان مع خالقه فالكنيسة شيء جامع يجتمع تحت لوائها البشر من كافة الجهات والأطراف ،فهي مبدأ عاما لكل البشرية لكونها تبشر بالعقيدة الدينية بين جميع الناس وقد ينتمي الى الكنيسة الواحدة أفراد من قوميات متعددة ،أما القومية فهي سمة مميزة لشعب معين ذو صفات معينة وخاصة وتتميز القومية بغيرتها على هذه الصفات والمحافظة عليها من الانقراض وإحياء ما أندثر منها وتطوير ما تبقى منها للمحافظة على سماتها المعينة.
ولو عدنا الى التاريخ القديم قليلا ولو من باب الإيضاح فأننا نرى أن القومية والدين شيئان مختلفان وغير متناقضان فالصراع الديني يجري أحيانا بين أبناء القومية الواحدة وسيطرة فئة على أخرى دون فقدان أية سمة قومية ،وانتقال دين من قومية الى أخرى دون التدخل في الشؤون الخاصة لتلك القومية ففي الهند مثلا كان الصراع الديني بين البراهمة و البوذيين في أعنف مراحله وكثيرا ما كانت تسيطر البوذية أو البراهمة إلا أن معتنق البوذيين أو البراهمة كان يبقى هنديا من الناحية القومية كما أننا نرى انتقال البوذية الى الصين ونشوء تناقض بينها وبين الكونفوشية وحيثما كانت تسيطر البوذية كان الفرد يعتنق دينيا المبدأ البوذي وقوميا يبقى صينيا ،وحيثما كانت الكونفوشية مسيطرة كان الفرد يعتنق المبدأ الكونفوشي من الناحية الدينية ويؤمن بقوميته الصينية فبالرغم من أن البوذية قد انتقلت من الهند الى الصين فأنها لم تحمل معها أية عقائد قومية هندية لكونها مذهبا دينيا وهي عبارة عن علاقة بين الفرد وخالقه ، و كذلك الآشوريون أبان سلطتهم السياسية فما أكثر الآلهة التي كانوا يؤمنون بها وكثيراً ما كانوا يبدلونها بأخرى وغالبا ما كان يسيطر مردوخ أو آشور أو آنوا وإنليل إلا أنهم لم يغيروا شيئاً من صفاتهم القومية ،وهكذا نرى بوضوح إنه منذ القديم هناك تمايز بين القومية والدين فللدين شؤونه وأشغاله الخاصة وللقومية اعتباراتها ومميزاتها الخاصة وحتى في الوقت الحاضر نرى تمييزا بين الناحية القومية والناحية الدينية ،فالقومية الواحدة تحوي عدة كنائس والشعب الواحد يعتنق عدة مذاهب دينية ،حتى أفراد الأسرة الواحدة قد يعتنقون مذاهب مختلفة فمثلا فرنسا تحوي كنائس كاثوليكية وبروتستنتية وكذلك بريطانية ومعظم الأمم الأخرى وحتى الأديان الأخرى القديمة والى هذا اليوم لا يزال هناك البوذي الصيني والبوذي الهندي والمسلم الباكستاني والمسلم الإيراني والمسلم العربي ،فالدين ليس محصورا بقومية أو دولة معينة أما القومية فمحصورة بخصائص وصفات معينة ويعتبر خارجا عن هذه القومية من لم تتوفر فيه تلك الصفات والخصائص ،فإذا كانت الأمور واضحة من هذه الناحية ،فلماذا نرى أو بالأحرى كيف يمكننا أن نرى شعبنا الآشوري المنتمي الى عدة مذاهب دينية ،وقد أنطلق ليجعل من كل مذهب ديني قومية بذاتها ولم تتوضح هذه الفكرة في أذهان بعض من أبناء شعبنا متناسين الناحية القومية ،أو أنهم لم يعد بإمكانهم التمييز بين ما هو ديني وما هو قومي لذا وقبل أن نبحث عن هذه النقطة موضحين رأينا بها ،لابد من العودة قليلا الى الوراء لنرى الأسباب التي أدت الى رسوخ مثل هذه الأفكار وأسباب هذه التناقضات ومنشأها التاريخي.
لقد كان شعبنا الآشوري يعبد آلهة متعددة أثناء سلطاته السياسية المستقلة وكان لكل مدينة آله خاص بها أحيانا فهو حاميها وشفيعها وكثيرا ما كانت تتبدل الآلهة ولكن اسم الشعب يبقى هو فكل ملك كان يفرض آلهة معينة يبني لها الزقورات والهياكل إلا ان هذه الأمور تغيرت بعد سقوط الدولة الأشورية البابلية عام 539 ق.م،فمنذ تلك الفترة لم يقم للشعب الآشوري سلطة سياسية مستقلة وبالرغم من انه حافظ على آلهته فترة زمنية كجزء من التراث المتبقي (كالغريق الذي يمد يده للقشة) إلا ان ذلك لم يفده شيئا لكونه كان واقعا تحت سيطرة سلطات سياسية متعددة تعبث به على هواها، تعمل على تشتيته بشتى الوسائل حتى لا يعيد جمع شمله مرة أخرى لأن الكل كان يخشى قيام سلطة سياسية آشورية جديدة فعانى شعبنا الويلات على أيدي الغرباء مئات السنين فيأس من آلهته التي لم تفده شيئا ولم تخلصه من هذه المظالم (كما كان يعتقد) الإله آشور حامل القوس والنشاب ولا مردوخ كبير الآلهة في هذا الواقع وفي هذه الأثناء بدأت الأفكار المسيحية بالانتشار تدعو الى المحبة والتسامح والإخاء ونشر السلام بين ربوع البشرية وكانت هذه الأفكار هي التي يحتاج إليها شعبنا الآشوري لكونه مضطهدا مظلوما ومغلوبا على أمره ،لذا نراه يحملها بإخلاص ويجاهد من اجل نشرها إلا ان بقية الأقوام كالفرس والرومان لم يكون بحاجة الى مثل هذه الأفكار في تلك الفترة لكونهم في مركز السلطة التي تمكنهم من فرض ما يرغبون بدون ان تكون هناك حاجة للتسامح والإخاء بل نراهم قاوموا هذه الأفكار السماوية بالقوة لمنعها من الانتشار بين أفراد شعبهم وبما ان شعبنا لم يتمكن من بناء سلطة سياسية يقودها قادة سياسيون يقودون هذا الشعب وتمن من إيجاد قادة روحيين بأسم الكنيسة فتبعهم معظم أبناء الشعب الآشوري فأصبح رجال الدين هم الذين يمثلون هذا الشعب سياسيا وناطقين باسمه اجتماعيا ولهم حق التفاوض لتقرير مصيره فاستفاد زعماء الدول المسيطرة على هذا الشعب من هذه الناحية كثيرا وخاصة بعد الانقسامات الدينية بين أفراد شعبنا لاستغلال هذا الشعب وتوجيهه حيث تقتضي مصالح هذه الدول عن طريق زعمائه الدينيين بمجرد حصول هذه الدول على موافقة رجال الدين كانت تستخدم الشعب الآشوري التابع لها بأبشع الوسائل والأساليب لتحقيق أغراضها تحت غطاء موافقة زعمائه الروحيين ولم يكن لرجال الدين قوة عسكرية يواجهون بها زعماء هذه الدول إذا نكثوا بوعودهم وهذا ما كان يحصل دائما كما ان المفاوضات على مصير الشعب بالكامل كانت تجري من قبل رجال الدين دون منازع ولم يكن هناك من يجرؤ على معارضة ذلك لكون رجال الدين كانوا هم ممثلي الله على الأرض وبسبب السيطرة القومية على الشعب بأسم الدين وحتى المفاوضات في الحرب العالمية الأولى كانت تجري عن طريق رجال الدين فإذا كنا قد سردنا مثل هذه الأمور التاريخية فإننا نوردها كأمثلة لسوء استخدام السلطة الدينية وبعدها عن حقيقتها الروحية فممثلي السيد المسيح قد خالفوا تعاليمه (اعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله) ، أما الآن وفي نهاية القرن العشرين وبعد ان أنهت معظم القوميات رسم معالمها القومية منذ اكثر من قرن من الزمن ،فما هو دورنا نحن كمنظمة آثورية ديمقراطية وكطليعة سياسية للشعب الآشوري ،وما هو المطلوب من رجال الدين في هذه الفترة بالذات وبعد ممارسة دور التخريب القومي من قبل رجال الدين لأكثر من ألف وخمسمائة عام تقريبا.فنحن كمنظمة قومية شاملة للشعب الآشوري ما يهمنا هو تاريخنا وحضارتنا لغتنا عاداتنا وتقاليدنا ،مصير شعبنا حاضرا ومستقبلا ،هذه هي أهم الأمور الجوهرية التي حولها تدور أهداف ومبادئ منظمتنا الآثورية الديمقراطية ،أما الأمور الدينية الخاصة بالحياة الآخرة والتفسيرات الفلسفية لنصوص الإنجيل.
فليست من مجال اختصاص رجال الدين فلهم حق التباحث والمناقشة فيها بعيدا عن أعين السياسة أما في هذه الأثناء اختلطت المفاهيم وقد تكون عن نية سيئة او حسنة بالرغم من ان أهدافنا واضحة وموقفنا من الدين واضح كما جاء في إيضاحاتنا الفكرية إلا انه لا يزال هناك من يحاول ممارسة أساليب التشويش فكثيرا ما رأينا او سمعنا رجال الدين يتهمون المنظمة بأباطيل طائفية وأخرى لا أساس لها من الصحة ويقصدون من وراء ذلك تنفيذ غايات دنيئة وكان لابد لنا ان نقطع الطريق بمن يريد الإساءة الى فكر المنظمة الآثورية ويحاول التشويش عليها وهنا نوضح ما هو دور رجال الدين في المجتمع الآشوري حسب رأينا وما هو دور المنظمة في هذا المجال ،لقد أكدنا مرارا ان رجال الدين هم قادة روحيون وعلاقة الإنسان بالدين هي علاقة الفرد بخالقه وبالحياة الآخرة ،فليس للدين تدخل في الشؤون السياسية والمجالات العامة بل ينحصر دور رجال الدين في جعل أجسادهم هيكلا للروح القدس والمناداة بالسلام والمحبة والإخاء حيثما حلوا ليس فقط بين أبناء الشعب الواحد ،بل بين جميع شعوب العالم ،ويكونوا بمثابة رسل سلام للإنسانية جمعاء دون اللجوء الى نشر الخلاف والبلبلة بين صفوف الشعب الواحد وتشتيته الى عنصريات دينية بمفهوم قومي لأن هذه الأساليب هي ممارسات خاطئة لحقيقة الدين والقومية بآن واحد لأنها من رواسب الماضي كما لا يهمنا ان كانت جنة السماء تحوي متعة مادية او معنوية او نار جهنم تحوي صرير الأسنان أم هي مجرد حرمان الفرد من التمتع برؤية خالقه ،وهل العذراء احتفظت ببتوليتها بعد ولادة السيد المسيح أم لا ،أم ان الطبيعة الألهية فارقت السيد المسيح على الصليب أم بقيت مرافقة له فهذه التفسيرات للأمور الدينية ليست من مجال اختصاصنا لكونها لا تمس الأمور القومية التي نحن بصددها لبحث قضايا شعبنا الاجتماعية ،فهذه الأمور أشبعت بحثا ونقدا وتمحيصا على مــدى /1500 عام/، دون الوصول الى قناعة موحدة بين رجال الدين ونزلت الى عامة الشعب ،وتحول الشعب الآشوري الى مؤيد لهذا المذهب الديني او ذاك ثم تلهى شعبنا بالتفسيرات الميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة) وتناسى واقعه المر وحياته المؤلمة ومستقبله الغامض بل نراه في فترة من الفترات ينكر الحياة الدنيا ويعتبرها مجرد مرحلة لا تستحق الاهتمام لكونها زائلة وما عليه الا ان يهتم بالحياة الآخرة التي هي أبدية برأيه ،ونتيجة لذلك اجتاح شعبنا موجة عارمة من التنسك، فنادرا ما كنا نرى او نسمع عائلة لم يتنسك منها شخص او اكثر، وكان التنسك يعتبر مفخرة ودلالة على زيادة التقوى والأيمان ،كل هذه الأمور الغيبية والتفسيرات الميتافيزيقية أنهكت قوى شعبنا وجعلته في مصاف الشعوب المتأخرة بعد ان كان من رواد الشعوب المتقدمة.
من هذه المقدمات يتضح ما هو مطلوب من رجال الدين تجاه المجتمع والشعب الآشوري عامة فمجتمعنا الآشوري يحوي عدة طوائف دينية ،كالنسطورية واليعقوبية والكلدانية الآن (الآشوريون الكاثوليك) والبروتستنتية ،ونحن كمنظمة لا نتدخل في الشؤون الدينية الخاصة بكل طائفة ،فلا نطلب من الطائفة النسطورية مثلا تغيير مراسيمها الدينية الكنائسية الخاصة بها ولا نسمح لأنفسنا بالتدخل فيها وكذلك بقية الطوائف ،فالمراسيم الكنائسية الدينية والتفسيرات الميتافيزيقية في نصوص الأنجيل هي من حق رجال الدين ،أما وكما حصل ان يتدخل رجال الدين في الشؤون القومية والاجتماعية لشعبنا الآشوري وإطلاق تسميات طائفية وقبلية بمفهوم قومي على فئات معينة من شعبنا وممارسة أساليب التخريب ونشر الخلافات ودعمها بين أبناء شعبنا فأننا عندئذ لن نتسامح في مثل هذه التصرفات التي هي خارج نطاق وصلاحيات رجال الدين ،فكما إننا لا نسمح لأنفسنا بالتدخل في الشؤون الخاصة لرجال الدين كذلك لا نسمح لرجال الدين التدخل في الشؤون الخاصة لقوميتنا كتسمية الشعب والتاريخ والعادات والتقاليد واللغة ومصير شعبنا حاضرا ومستقبلا او النطق باسمه سياسيا واجتماعيا وهذا لايعني كما قد يفسره البعض بأننا نحرمهم من مواقفهم الاجتماعية والإنسانية كتصفية القلوب بين المتخاصمين والمواساة في المآتم ومساعدة الفقراء ورعاية دور العجزة والأيتام وغيرها.
كل هذه الأمور هي من صلب اختصاص رجال الدين بل هي من صلب أهداف الكنيسة بالذات ،فكما نرى ان معظم كنائس العالم يعظم دورها في مثل هذه الأعمال الإنسانية الخيرية ،بينما يبقى دور كنائسنا قاصرا جدا في هذا المجال ،هذا بالرغم من ان القومية الآشورية ليست مقتصرة على فئات مسيحية فقط وان كان في الوقت الحاضر لا يمارس مقومات القومية الآشورية وينادي بأحيائها سوى القسم الذي اعتنق الديانة المسيحية ووعى نفسه قوميا بسبب سبقه الثقافي على بقية الفئات التي اعتنقت ديانات أخرى ولازالت تعيش في المرحلة الدينية كالتكارتة والمحلميين والصابئة فهؤلاء جزء من الشعب الآشوري وان كانوا في الوقت الحاضر لا يعون ذاتهم قوميا بشكل جيد بالرغم من انهم يمارسون معظم العادات والتقاليد الآشورية فليس من أحد يستطيع ان ينكر آشورية هؤلاء عندما يعوا ذاتهم ويطالبوا ان يكونوا جزء من القومية الآشورية لكونهم أبناء حضارة بيث نهرين ،وان كانت ظروفا معينة أرغمتهم على سلوك اتجاه معين او اعتناق مبدأ ديني معين وان كان ذلك خوفا على حياتهم او خوفا من الفقر والاضطهاد فقوميتنا قومية إنسانية غير متعصبة دينيا ،وان كان الدين قد مارس دورا هما بها (الدين المسيحي) حيث كان للكنيسة دورا عظيما في المحافظة على قسم كبير من تراث شعبنا كاللغة والعادات والتقاليد ،وان كان قد هدم قسما كبيرا منها أيضا والآن وبعد ان أوضحنا معالمنا القومية وحقيقية انتمائنا الآشوري فان الدين يبقى من صلاحيات رجال الدين أما السياسة فهي من اختصاص بقية أبناء الشعب.