مسيحية قلقة !

ميشيل كيلو

الحوار المتمدن ++ تعطي المسيحية العربية الانطباع بأنها قلقة وخائفة، وتتصرف بروحية متوجس يتعرض لتهديد يقوض وجوده. أما الأمثلة التي تؤكد ذلك، فنجدها في الموقف من حقوق الفلسطينيين المدنية في لبنان، التي تبدو الكنيسة كأنها ترى فيها شيئا يتجاوز حقوق هؤلاء المدنية، له آثار سلبية على مجمل علاقات وتوازنات الطوائف اللبنانية، مثلما نعثر عليها في موقف الكنيسة القبطية من قرار اعتمدته الدولة يبيح زواج المطلق.

رغم القلق والخوف المشتركين، ثمة اختلاف بين حالتي الكنيستين، يرجع في لبنان إلى تداخل الدين مع السياسة تداخلا يجعل السياسي والحزبي يتصرف كرجل دين ورجل الدين يبدو كأنه سياسي، في حين يفرضه في حالة مصر عقل كنسي يبدو كأنه متمسك بنظام الملل العثماني، الذي اعتبر زعيم كل ملة دينية ممثلا لها أمام الدولة، وكرس وجود الملل كدويلات دينية/ سياسية صغيرة داخل الدولة، أعاد الضعف الذي أصاب الدولة في رئاستي السادات ومبارك إنتاج جوانب من نظام الملة، كانت قد تلاشت بصورة تكاد تكون تامة خلال الحقبة الناصرية، مع توطد دور الدولة المركزية الشامل.

في الحقبة بعد الناصرية، برز دورا الأزهر والكنيسة القبطية من جديد باعتبارهما مركزين لحياة مصر الدينية، مع ما انطوى ذالك عليه من نتائج سياسية، بلغت حد الاشتباك مع الدولة في أكثر من مناسبة، مع ما نجم عن هذا التطور من مشكلات تحدت الحكومة. برز دور الكنيسة القبطية عندما تراجع دور الدولة، حتى ليبدو وكأنها تريد العودة إلى نظام الملل العثماني أو ما يشبهه، وأنها تعمل لفرض نظامها الخاص على نظام الدولة، بذريعة اختلاف طبيعة المسيحي الشخصية، المحددة حصرا بنصوص دينه، عن أحوال غيره من مواطني مصر.

يلاحظ من يراقب أحوال وتصرفات كنيسة لبنان المارونية أنها ما زالت تعين نفسها من خلال خصوصيات تخطاها الزمن وقوض أسسها، أهمها التعامل مع بلدها بافتراض أنه مسيحي (مع أن أغلبية سكانه ليست مسيحية)، وأن للمسيحيين فيه حقوقا خاصة ليست ولا يجوز أن تكون لغيرهم، وتحصن الكنيسة موقفها بنمط من العلاقات بين الدين والسياسة مستمد من علاقة الدين بالسياسة في بيزنطة، وهي تقوم على وحدة المجتمعين السياسي والديني، وعلى أخذهما بنظام يوحدهما، يختلط فيه الزمني بالروحي ويقبل أحدهما الآخر.

ومع أن المارونية تعترف بسلطة البابوية، فإنها لم تقبل الفصل الجذري، الذي اعتمدته البابوية تاريخيا بين النظام المسيحي والنظام السياسي، واحتفظت بما أخذته المارونية عن الكنيسة الشرقية بعد سقوط القسطنطينية، ألا وهو سلطان الكنيسة الذي يفرض على الساسة ربط مصيرهم بها. هذه الخصوصية، الآتية من ماض بعيد، خلطت الديني بالزمني/السياسي، وجعلت الكنيسة مؤسسة سياسية أيضا، تعمل لتوطيد وإدامة أمر قائم يستند الى توازنات حساسة، يهدده أي اختلال أو اضطراب فيها، حتى إن كان عابرا أو جزئيا.

لا عجب أن هذا الوضع أنتج حالة من القلق والتوجس لدى أنصار النظام الكنسي، تعود إلى صعوبة ضبط العلاقة بين السياسي والديني في المستويين المسيحي الخاص واللبناني العام، ومن التداخل ،غير المنضبط في حالات عديدة، بين مواقف قادة الأحزاب والميلشيات ورجال الدين، وأخيرا من عدم استقرار وضع مسيحي يجمع بين السياسة والسلاح والإيمان، يزداد ضعفا بسبب تناقض فرضيته الهشة عن «لبنان المسيحي» مع تنوع لبنان الديني القاسي، الذي أحدث تغيرات متتالية في علاقات قواه وطوائفه ونمط سياساتها، غير أن الكنيسة بفرعيها السياسي والديني سعت لاحتجازها، ورأت في الاعتراف بنتائجها انقلابا على النظام، ومشروع حرب أهلية !.

في هذا الواقع، الذي تجعل توازناته وتحولاته السلام هدنة بين حربين أهليتين، يصعب إصلاح النظام أو إعادة إنتاجه بما يتفق مع تحولاته ويعبر عنها، ويغدو أي تبدل سياسي أو ديموغرافي انقلابا على الأمر القائم يقوض أسسه، وينتشر قدر من القلق يسهم أكثر فأكثر في محو الفوارق بين رجل السياسة ورجل الدين، ويجعل الدفاع عن التوازن الذي يضمن «مسيحية لبنان» دفاعا عن الوطن وهويته وتفرده وسط محيطه العربي المتأخر. مرت المسيحية في أطوار من الاضطراب استمرت قرونا عديدة، وغطت الشرقية والغربية منها، وطاولت عقائدها وتياراتها وركائزها الفكرية والروحية. لكن الاضطراب لم يضعفها أو يحد من سلطانها على النفوس، مع أنه قلص سلطان الكنيسة كمؤسسة.

اجتازت المسيحية مخاطر وتعرضت لتحديات أكبر بكثير مما تشهده الكنائس العربية، التي حظيت غالبا برعاية دولها وتفهم مجتمعاتها العربية/ الإسلامية. ليست المسيحية كدين وكمؤسسة في خطر، لأن فلسطينيا يطالب بحقوقه المدنية المشروعة في لبنان، ولأن زوجة كاهن قبطي فرت مع رجل مسلم أحبته في مصر، أو لأن الدولة تتدخل هناك في أحوال الأقباط الشخصية، والواقع يفرض على المسيحية القبول بتغيير نظرتها إلى نفسها وغيرها في لبنان. مع ذلك، يوجد ثمة مشكلة حقيقية في الحالتين، تتخلص في أن الكنيسة الدينية/ السياسية تتغرب أكثر فأكثر عن واقع تفقد أكثر فأكثر السيطرة عليه، ولا تجد ما تواجهه به غير التمسك بحال فات زمانها، والانغلاق على الذات، وعقلية الملة.

إن الإشكال الأكبر الذي تواجهه المسيحية العربية اليوم يأتي من أخطاء كنائسها: من فهمها للواقع ودورها فيه. من الخطأ بمكان أن ترى الكنيسة في واقعها الخاص واقعا مستقلا أو منفصلا عن واقع مجامعاتها العام، أو أن تعتبر واقعها كل الواقع، فتجنح إلى الانغلاق على ذاتها ورفض التفاعل بإيجابية مع بيئتها ومحيطها، فإن اضطرتها ظروفها للتعامل معهما، فعلت ذلك بروحية مليئة بالتوجس والخوف، ورأت فيهما منبع أصولية إسلامية متطرفة عليها مقاومتها بأصولية مسيحية مضادة. من الخطأ أيضا تقسيم المجتمع إلى ملل ونحل مختلفة في كل شيء لمجرد أنها تنتمي إلى أديان متنوعة (هانتينغتونية عربية) ، لكل منها عالمه وخصائصه النوعية التي تجعله مختلفا عن غيره، يجب أن يبقى التعايش معه في أدنى الحدود، وإلا أطاح الاختلاط والتفاعل بالجميع. أخيرا، من الخطأ الفادح أن ترى الكنيسة العربية في المسيحيين ضيوفا على بلدانهم، وإلا فهم خصوم لبقية أبنائها، وأن تقف جانبا أو على الحياد في معارك أوطانها ومواطنيها.

ثمة هنا نقطة مهمة تتصل بصلب مشكلات الكنيسة (والمسجد)، وتتعلق بالآثار الخطيرة التي أنتجها غياب المواطنة، وما يرتبط بها من سيادة قانون وحقوق إنسان ومواطن، عن مجتمعاتنا ودولنا، ووضع القانون في خدمة تكوينات جزئية وخاصة (هذا هو تعريف الاستبداد عند فرويد)، ترى مصالحها ووظائفها بدلالة تشكيلات وفئات نافية للمجتمعية، تقوض الواقع السياسي بما هو واقع إنساني. في هذا الوضع، تتحول الكنيسة بدورها إلى مؤسسة جزئية أو خاصة تعزف عن رؤية المواطن في المسيحي، وترفض أن ترى فيه عربيا مسيحيا وليس مجرد مسيحي وحسب، بلا جذور وطنية أو قومية، يعبر اقتناعه بدينه عن خصوصيته كمواطن يعيش في مهد المسيحية الأول، ليست كنيسته وطنه، بل وطنه هو كنيسته، التي تعزز ما يجمعه مع بقية أبناء مجتمعه : رابطة المواطنة المتخطية لأي دين أو طائفة أو مذهب، التي تحول المسيحي إلى إنسان ومواطن في الدولة والمجتمع، تخضع صلاته مع غيره لحسابات تتعدى الدين، لكونها تنبع من الحقل المدني، الإنساني والمجتمعي، وتتنافى مع الطائفية، لأن هذه تلغي أسس وجوده المدني/المجتمعي، وتشكل خطرا عليه وعلى الهيئة المجتمعية العامة.

لا مخرج للمسيحي (والمسلم) ـ وللكنيسة (والمسجد) ـ بغير مجتمع المواطنة المدني، المتعين بالإنسان كذات حرة وغير المتعين بالمؤمن: مسيحيا كان أم مسلما.
لا حل لمشاكل المسيحية خارج مجتمعها العربي، أو ضده.
لا حل لمشاكل المجتمع العربي على حساب الكنيسة، خارج أفق المسيحية وضدها. ذلك إن وقع، فسيكون كارثة تنزل بالمجتمعات العربية، ليس فقط بسبب الأهمية الرمزية والفعلية للعرب المسيحيين، بل كذلك لأن المجتمع سيكون قد اختار إبعاد نفسه عن مفهوم ونظام المواطنة، وغرق في نظام الملل والطوائف، الذي فيه نهايته كمجتمع.
لا حل لمشاكل المسيحية بوصفها مشاكل كنسية أو من اختصاص الكنيسة وحدها. المسيحية شيء والكنيسة شيء آخر: المسيحية دين والكنيسة مؤسسة.

وإذا كان الدين يبقى دون مؤسسة فإن المؤسسة لا تعيش دون دين. لذلك، لا يحق للمؤسسة إغلاق الدين على نفسه وإخضاعه لمصالحها وإلحاقه بها وعزله عن محيطه، وعليها أن تكون ساحة يتفاعل فيها بانفتاح وتكامل مع نفسه وعالمه، ليتحول إلى ما أراد دوما أن يكونه : أداة لتحرير الإنسان من الخوف، ولتكامله مع مثيله والمختلف عنه في إطار لحمته المحبة وسداه التسامح.

ليس المسيحي غير إنسان ينتمي إلى عالم قد لا يقاسمه إيمانه وعقيدته، لكنه يشترك معه في الإنسانية، التي لم يميز المسيح بين أبنائها، حين افتداها بجسده ودمه، على ما تخبرنا الأناجيل!

شاهد أيضاً

دكتاتوريات العالم العربي ها هي تتنحى

أشور العراقي ++ نعم ها هي الدكتاتوريات التي كانت تحكمنا بقبضات من حديد تنهزم بل …