جوزيف بشارة
ايلاف ++ كثيرة هي الإحباطات التي تواجه الإنسان في الوقت الراهن. وعلى الرغم من توافر أدوات السعادة مثل الأديان والفلسفات والعلوم والتكنولوجية، إلا أن الإحباطات الإنسانية لم تتوقف على الإطلاق. أسباب الإحباطات الإنسانية عديدة وهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بعومال مثل تمتعه بالحب وعيشه في سلام وتحقيق أحلامه وبلوغ طموحاته ومستوى معيشته. تختلف الإحباطات باختلاف الأفراد والأمكنة والظروف، وبالمثل تتراوح شدتها وتأثيرها بحسب هذه العوامل. ولكن أشد الإحباطات مرارة برأيي هي تلك التي ترتبط بالانفصال عن الوطن. والانفصال هنا قد لا يكون انفصالاً جسدياً ولكنه ربما يكون انفصالاً انتامئياً وجدانياً أو نفسياً أو عقلياً، وهو وهو انقطاع لروابط الإنسان المشتركة مع الوطن وشركائه وقضاياه ومصيره. أنه نفي في الوطن.
لا شيء يعادل مشاعر الانتماء للوطن بالنسبة للإنسان، وإذا كانت علاقات الفرد الأسرية والعائلية تأتي على رأس ارتباطاته، فإن علاقته بالوطن تبقى من أهم ما يشكل ويحدد ملامح شخصيته. يخطيء من يعتقد أن الوطن هو مجرد موقع جغرافي بترابه وسمائه وهوائه كما تصور لنا الأغنيات الوطنية الهزيلة التي يتم الغناء بها في الأعياد الوطنية وأوقات النصر الكروي. فالوطن أكبر وأهم بكثير من ذلك، لأن التراب والسماء والهواء أشياء مشتركة في كل المواقع الجغرافية وهي لا تميز موقعاً عن أخر من مفهوم إنساني. ولكن ما يميز وطناً عن أخر هو المكونات الديموغرافية للموقع الجغرافي. نعم، الإنسان هو ما يشكل الموقع الجغرافي و يجعل منه وطناً ينتمي إليه بكل مشاعره وجوارحه. ومن ثم فإذا ما انقطعت روابط الإنسان المشتركة مع المكونات الديمغرافية للموقع الجغرافي فهذا هو الانفصال عن الوطن أو النفي في الوطن الذي نتحدث عنه هنا.
والمنفيون في أوطانهم هم من يتعرضون للتمييز وللاضطهاد ليس من قبل الأنظمة الحاكمة فحسب، وإنما أيضاً من قبل الأهالي شركائهم في الوطن. ولعل أهم أعراض النفي في الوطن هي تربص الأغلبيات بالأقليات وما يتبع ذلك من عدم التمتع بالحقوق الإنسانية الكاملة، والتمييز العنصري والديني والإثني، وغياب الحريات، والاضطهاد.
من المؤكد أن المسيحيين الذين يعيشون في بلدان تسكنها أغلبيات مسلمة يعانون بشكل أو بأخر من مظاهر النفي في الوطن بسبب كل أنواع الألام التي يحتملونها جراء الاضطهاد الذي يتعرضون له بصورة يومية وبشكل منظم ومنهجي من قبل شركائهم في أوطانهم. ولست أبالغ حين أقول بأنه لا يكاد بلد تتشاركه أغلبية مسلمة وأقلية مسيحية تنجو فيه أقليته المسيحية من الاضطهاد والتمييز والتعنت. للدلالة على صدق ما أتناوله هنا أذكر القاريء بأن الشهر الحالي شهد جرائم دامية قامت بها الأغلبيات المسلمة (أهالي وليس تنظيمات) ضد الأقليات المسيحية في عدد من الدول منها نيجيريا وماليزيا ومصر وباكستان وراح ضحيتها العشرات من الأبرياء المسيحيين. هذا ناهيك عن الاضطهاد المنتظم الذي يتعرض له المسيحيون في بلدان أخرى كالعراق والجزائر والسودان وتركيا واندونيسيا وغيرها.
حرمان المسيحي من علاقة انتماء دافئة حميمة مع وطنه في البلدان ذاوت الأغلبيات المسلمة عملية يتم التخطيط لها وتنفيذها بدهاء بغرض قطع روابط المسيحي مع وطنه ومن ثم نفيه وجدانياً ونفيساً وعقلياً وربما جسدياً في أو عن وطنه. إنه مخطط يستهدف إما إجبار المسيحيين على الإسلام أو إبعادهم عن أوطانهم. المخطط المشئوم هذا يضع خطوطه العريضة مشايخ ورجال دين متطرفون ويقوم على تنفيذه مسلمون لا يؤمنون بالتسامح ولا يعتقدون بالتعددية ولا يقبلون بالسلام ولايقبلون سوى ببني دينهم. لم تعد القضية، كما كنا نظن، مسألة تنظيمات متطرفة وإرهابية، إنما أصبحت القضية مسألة مسلمين منتشرون في كل البلدان والمدن والقرى يكرهون المسيحيين ولا يقبلون بوجودهم. فمن قاموا بالعمليات الإرهابية الأخيرة في مدن وقرى ماليزيا ونيجيريا ومصر وغيرها من البلدان لم يكونوا أعضاءً بتنظيمات إرهابية، بل كانوا من الأهالي المسلمين الذين كانوا يوماً مسالمين ومتسامحين قبل أن يتحولوا إلى وحوش متطرفة.
وإذا كان أهالي مسلمون يلعبون دور البطولة في نفي المسيحيين في أوطانهم، فإننا لا يمكن أن نتحاهل الدور الذي تلعبه الحكومات الإسلامية التي تحكم الدول التي تتعرض فيها الأقليات المسيحية للاضطهاد والتمييز، إذ تشارك هذه الحكومات بفاعلية في إذكاء نار التطرف ولهيب الإرهاب بمجاملة المتطرفين، وبتجاهل حقوق هذه الأقليات، وبالتعامي عن الجرائم التي ترتكب ضدها، وبعدم محاسبة مشايخ التطرف والإرهاب. المثير أن الحكومات الإسلامية هذه تغضب أشد الغضب حين تننتقدها الدول الحرة لعدم توفيها الحد الأدنى من الحماية للأقليات المسيحية، ولخرقها مباديء حقوق الإنسان أو لعدم توفيها الحد الأدنى من الحقوق والحريات. بل أن الحكومات الإسلامية تضغط بقوة على زعماء الأقليات المسيحية وتستصدر عنهم تصريحات وردية تنفي الاضطهاد والتمييز ضد شعوبهم. وليس أدل على ذلك من الضغوط التي يتعرض لها المسيحيون في مصر حالياً لنفي الدوافع الطائفية لمذبحة نجع حمادي، وهي الضغوط التي تستهدف تجميل صورة النظام الحاكم القبيحة خلال زيارة وفد لجنة الحريات بالكونجرس الأمريكي لمصر.
الأمور في البلدان ذات الأغلبيات المسلمة والأقليات المسيحية تبدو محبطة للغاية في ظل التدهور المستمر للأوضاع بها. تهوين الأمور عبر الاكتفاء بيانات الإدانة أصبح أمراًً سخيفاً وغير مجدي. الأمر يتطلب تعاملاً حاسماً مع كل من لا يحارب التطرف والإرهاب ومع كل من يعرقل منح الأقليات حرياتهم الكاملة سواء كان هؤلا وأولئك دول أو حكومات أو تنظيمات أو أفراد. الإصلاح، برأيي، لن يكون حقيقياً ما لم يبدأ من الداخل. لابد للمسلمين من البحث عن أسباب الكراهية التي تكنها أعداد مهيبة منهم للمسيحيين. دعونا نتكلم بصدق.
ما نراه بأعيننا وما نسمعه بأذاننا عن أوضاع الأقليات المسيحية بين الأغلبيات الإسلامية أصبح ينفي عن الإسلام والمسلمين صفات التسامح والتعايش والمسالمة. فماذا يعيب قرية مصرية أن يتم بناء كنيسة بها لأداء الصلوات؟ وماذا يهين المسلمين الماليزيون إذا استخدم المسيحيون لفظ الجلالة؟ وماذا يضير المسلمين النجيريين إذا عاش المسيحيون بينهم؟ إنها كلها أمور تعكس غياباً تاماً لروح التسامح عن مسلمين رافضين للمسيحيين. وإنه لمن المهم أن يعود المسلمون لتسامحهم الإنساني حتى يعود المسيحيون من منافيهم في أوطانهم، فكم هي إهانة محبطة للإنسانية أن يتم نفي المسيحيين في أوطانهم.
– السبت 23 كانون الثاني 2010