بقلم: أسامة أدور موسى *
++ لم يكن الثامن من آذار العام 1963 حدثا عابرا في تاريخ السوريين الذين فرض عليهم عبر انقلاب عسكري نظام بوليسي يستبيح الدستور ويقمع المواطنين ويصادر الحريات ويغلق أبواب الديمقراطية، ويشطب الحياة السياسية ويزج بالأحرار في قلاع التعذيب، ويلغي مفاهيم التعددية، ودائما على ايقاع طبول الطوارئ.
في موازاة ذلك أعلن الحكام العرب "أحوال الطوارئ" في عموم البلاد العربية منذ نحو نصف قرن بحجة "الصراع العربي الصهيوني" عبر انقلابات عسكرية أسبغوا عليها صفات وأسماء حسنى من قبيل أنها "ثورات مجيدة حققت انتصارات إلهية"، زاعمين أن "لاصوت يعلو فوق صوت المعركة حتى تحرير كامل الأرض المحتلة ورمي اليهود في البحر واستعادة القدس". وما كان من الشعوب العربية أمام هذه الشعارات البراقة الا خيار الصمت والإذعان، فقد كانت معارضة هذه الشعارات تستدعي اتهامات بالخيانة العظمى والعمالة آنذاك.
اليوم وبعد نصف قرن من الدجل الرسمي، وبعد انطلاق ثورات الخبز والحرية في العالم العربي، والانكشاف المدوي للنظم والنخب العربية المرتبطة بها على السواء، لم تعد هذه التهم السخيفة تنطلي إلا على السذج، ولم يعد ينادي بها إلا الأنطمة وزبانيتها.
فما حدث على الأرض منذ أن سادت قوانين الطوارئ كان عكس ما أعلن، واليكم بعض الأمثلة:
أولا : تضاعفت الهزائم العربية المخففة لفظاً الى "نكبات ونكسات"، وخسر العرب المزيد من الأراضي، واقتطعت أجزاء من دول عربية، وتقهقرت الجيوش العربية مجتمعة، وفرضت معاهدات السلام والاستسلام، واتفاقيات وقف النار، وشهدت الحدود هدوءا وسلاما لامثيل لهما. وتقاتل العرب فيما بينهم وتآمروا ضد بعضهم واحتلت الجيوش العربية دولا عربية أخرى، وسحقت ثورات شعبية صارعت من أجل الخبز والحرية، وفرضت وحدات عربية بين عدد من الدول انتهى جلها بالفشل الذريع. في المقابل ازدادت اسرائيل قوة وبطشا، وبنت جيشا قويا متفوقا لا يقهر، وامتلكت سلاحا فتاكا بما فيه السلاح النووي، عملت من خلاله على حماية مواطنيها وتوسيع حدودها باحتلال المزيد من الأراضي. وبناء المزيد من المستوطنات وفرض المزيد من الشروط.
ثانيا : سحق جميع مظاهر الحرية في العالم العربي، وكم الأفواه ومصادرة الحريات العامة والخاصة، وسحق المعارضين واغتيال المناوئين وسجن المثقفين والمتنورين، وتدمير الحياة السياسية والحزبية والديمقراطية، وسيطرة أجهزة الامن والمخابرات وتسلطها على رقاب الناس وتفاصيل حياتهم، ما أدى الى تفسخ مفهوم المواطنة وانتفاء شعور الانتماء والولاء للوطن. في حين شهدت اسرائيل تثبيت النظام المدني الديمقراطي وسط مظاهر التداول السلمي للسلطة واحترام حقوق الانسان والمواطن بما فيهم عرب اسرائيل طبعا.
ثالثا : جنوح الشعوب العربية نحو المزيد من التطرف والعنف والتخلف وارتفاع نسب الأمية والجهل بمعدلات مخيفة، وتراجع نسبة التعليم ونوعيته وتدني مستوى التعليم في الجامعات وتزايد النعرات الطائفية والمذهبية والنزعات الانفصالية للفئات والجماعات والأقليات العرقية والقومية والمذهبية.
إضافة الى ازدياد معدلات الجوع والفقر والبطالة بسبب تسلط الحكام العرب وأقاربهم وحاشياتهم على الاقتصاد الوطني ونهبهم لثروات البلاد وسيطرتهم على مقدراتها، واستخدام الدساتير وسن القوانين وتعديلها لخدمة مصالحهم الخاصة، وتفشي الفساد على نحو جعل الدول العربية تتصدر قوائم الدول الأكثر فسادا في العالم. قابله في اسرائيل انخفاض نسبة البطالة، والأمية (2 بالمائة)، وارتفاع ميزانات التعليم ( 30 مليار دولار عام 2008 )، وارتفاع معدل دخل الفرد السنوي ليبلغ حوالي ثلاثين ألف دولار وهي من أعلى النسب في العالم.
من خلال هذا الاستعراض السريع لحقائق ووقائع معروفة لا يمكن لعاقل أن ينكرها، يتبين أن المستفيد من فرض قوانين الطوارئ منذ نصف قرن هم جهتان لا ثالث لهما: الأنظمة الدكتاتورية وإسرائيل، وأن المتضرر الأوحد هو المواطن. ورغم أنني لم أعد اكتشاف العجلة ان قلت ما قلت، فهذه حقائق يعرفها الجميع، إلا أن المستغرب هو استمرار بعض النظام الرسمي العربي، حتى بعد حقبة ثورات الخبز والحرية المستعرة، باجترار ذات الخطاب المنتهي الصلاحية بالحديث عن "استعادة الأرض المحتلة" و"خيار المقاومة" و"أنظمة الممانعة" و"قلاع الصمود"، واستمرار بعض المومياءات العربية بتوجيه تهم العمالة والخيانة لكل حر يرفع صوته مطالبا بالخبز والحرية وإسقاط هذه الدكتاتوريات الفاسدة.
اليوم، الثامن من آذار 2011، وعلى امتداد الساحات في العالم العربي بما فيها سورية، تفجر مشهد المطالبين بالخبز والحرية من أبناء جيل الطوارئ بعد أن ساهم القمع والطوارئ في تهيئة الظرف المناسب لاقتلاع هذه الأنظمة عملا بالنظرية اليسارية القائلة بالتراكم الكمي البطيئ الذي يؤدي الى التغيير الكيفي السريع، وكأن لسان حالهم يقول للطغاة العرب بابتسامة لاتخلو من الخبث والشماتة: طوارئ على مين ؟؟!!
* أسامة أدور موسى – ناشط وكاتب سوري