ياسين حاج صالح
6 أذار 2011
قبل أيام، اكتشف الرئيس اليمني علي عبد الله صالح أن الحركات الاحتجاجية العربية، ومنها التي تستهدف نظامه، محركة من إسرائيل والبيت الأبيض الأميركي. ومثله اكتشف معمر القذافي أن وراء الانتفاضة ضد حكمه خلايا نائمة لتنظيم القاعدة، تستخدم حبوباً مخدرة لدفع الشباب الليبي إلى التظاهر والاحتجاج.
لكن لا يبدو أن اليمنيين يصدقون الكلام الذي يوجههم لهم الرجل الذي يحكمهم منذ 33 عاماً، ولا أن الأميركيين والقوى الغربية يصدقون ما يوجه إليهم من كلام حاكم ليبيا منذ 42 عاماً. على أن كلام الحاكميْن المفكّك بفعل تفكك نظاميهما يكشف جانباً من آليات الحكم الاستبدادي في البلدان العربية. أمام محكوميها، اعتادت نظمنا التخويف من التهديدات والأخطار الخارجية. هذا يفيد في صنع قضية مشتركة مع المحكومين، وفي عزلهم عن العالم، وفي تخوين من يعترض عليها عند اللزوم. وكانت هذه الخطة فعالة دوماً، تعزز من فاعليتها العدوانية الحقيقية للمحور الأميركي الإسرائيلي.
وأمام القوى الغربية، بما فيها المحور المذكور، كان يقال إن البديل الوحيد عن الحاكمين هو الإسلاميون، وبين هؤلاء لا فرق بين معتدلين ومتطرفين. هذا ما تكشّف مؤخراً أن نظام مبارك كان يبيعه للأميركيين والإسرائيليين، وما يبدو أن القذافي أيضاً لا يملك غيره يبيعه للغرب. والغرض هنا أيضاً صنع قضية مشتركة مع تلك القوى الدولية الفاعلة، وإقامة حواجز نفسية وسياسية عالية بينها وبين مجتمعاتنا. هل أبطلت الثورات والانتفاضات الجارية هذه الآليات الذهبية؟ قوضت صدقيتها إلى حد بعيد. لقد اقتضت تلك الآليات على الدوام تعهّد أزمة ثقة عميقة بيننا وبين العالم حولنا.
نحن لا نثق به لأنه عدواني ومتربص وغير ودي، وهو موقف يسّرت العدوانية الإسرائيلية انتشاره وتعميمه. وهو لا يثق بنا لأننا متعصبون وعدوانيون. ولقد وفّرت حركات عنفية إسلامية أسباباً لضعف التشكك الغربي في هذه الصورة. والواقع أنه قلما توقف الأمر عند تشكك سياسي، مشروع دائماً، بل ضروري. لقد تعداه إلى «ممانعة» ثقافية وقيمية، وإلى انعزال ثقافي وأخلاقي عن العالم، تضررنا منه أكثر بما لا يقاس مما تضرر منه الغرب، وإسرائيل. بل إنه لا ريب أن انعدام الثقة المتبادل بيننا وبين الغرب، يبهج قلب الإسرائيليين، بخاصة مع تخطيه مجال السياسة إلى الثقافة، وتحوله «صراعاً حضارياً»، وبقدر ما نزين لأنفسنا الانعزال في اختلافنا عن المشاركة في عالم واحد، متفاعِل.
على أن تغذية أزمة بين مجتمعاتنا والعالم من حولنا، والغرب منه بخاصة، وجه واحد فحسب لسياسة تعتمد جوهرياً على صنع أزمات الثقة. داخل بلداننا نفسها تحرص نخب السلطة على ألا يثق محكوموها ببعضهم، وأن يخافوا من بعضهم. هذا يناسبها لأنه يجعل منها مصدر الأمن العام، والحل الوحيد لخطر «الفتنة» أو النزاع الأهلي الذي يبدو محدقاً دوماً. إلى جانب الكلام الهاذي على القاعدة وحبوب الهلوسة، استظهر القذافي وابنه معرفة سوسيولوجية رثة بالبنية القبليّة للمجتمع الليبي. القبائل تتقاتل وتتنازع مثلما توجد. تنازعها طبيعي. ومثلها الطوائف التي لطالما اعتبر وجودها بحد ذاته منبعاً فياضاً للطائفية والحرب الأهلية. وطوال عقد مضى، على الأقل، ترسخ الاقتناع عند كثيرين بأن اختلافنا الديني أو المذهبي وحده يضعنا في حالة تأهب للإطباق على أعناق بعضنا ما إن تسنح الفرصة. وأن الشيء الوحيد الذي يحول دون سنوحها هو وجود سلطات حازمة، تحجزنا عن بعضنا.
ولقد كان العراق يبدو مثالاً مخبرياً لهذا الواقع المحبط، الذي تكفل مثقفون كثيرون بتحويله إلى علم أنثروبولوجي ناجز. وفي غير قليل من الحالات، كانت عشائر وطوائف هي الأطر الاجتماعية الحاضنة لإنتاج هذا الضرب من المعرفة، المثبِّتة بدورها للطوائف والعشائر كوقائع نهائية لا تقبل التجاوز ولا التفاهم. هذه خصوصيتنا، وهذا استثناؤنا! اليوم، وبفضل الثورة المصرية بخاصة، وما تكشف عن ضلوع أجهزة مصرية في صنع «الفتنة الطائفية»، تثار تساؤلات مشروعة حول هذا العلم، وحول الوقائع التي تمفصل عليها.
ويظهر أكثر وأكثر أن الفتنة صناعة سياسية، تشرف عليها بالضبط الجهات الرسمية التي يفترض أنها تحول دونها. وعلى الفور أخذت تخطر في البال أسئلة بسيطة، كان قصف فكري وثقافي مُركّز قد غيّبها: هل بالفعل إن «السبب اللازم والكافي» كي نقتل بعضنا هو اختلافاتنا الدينية والمذهبية والإثنية؟ وهل يمكن أن يقتل الناس بعضهم بالمئات والألوف، وطوال سنوات، من دون وجود قوى منظمة وتمويل وفير وتحريض مكثف، وقيادات سياسية، ونضال إيديولوجي دؤوب؟ وبتأثير هذه التساؤلات المحتومة، يمثل كثيرون اليوم إلى أن الطائفية أمر صنعي ومتعوب عليه سياسياً، وأنها لا تتولد عن مجرد اختلافاتنا الدينية والمذهبية، وأن معظم نظمنا القائمة أقرب في الواقع إلى مضخات للطائفية و «الفتنة».
قبل شهور قليلة فقط كان تحليل كهذا يواجه بالرفض، أو بالصمت في أحسن الأحوال. اليوم يتطوع كثيرون لترويجه والدفاع عنه، ويتفكرون في سبل إبطاله. هذا لأن التجارب ناطقة. لقد رأينا الحزب الدستوري التونسي والأجهزة الأمنية لنظام بن علي تحرض على أعمال النهب والتخريب إثر فرار رئيسها. رأينا نظام مبارك يفلت المجرمين والبلطجية على شعبه. والقذافي يتكلم على القبائل للداخل، وعلى «القاعدة» للغرب. ولطالما وظف حكم علي عبد الله صالح التمايزات المذهبية (شيعة وسنة) والجهوية (جنوب وشمال) والقبلية إلى منبع لشرعيته ورفع الطلب عليه. ومثل ذلك في سورية بصورة، وفي لبنان بصورة، وفي العراق أيضاً. المبدأ واحد: فرق تسد! الطائفية هي الشكل القياسي للتفريق فحسب.
في المحصلة العامة تبدو هذه السياسة ورعاية اللاثقة بين السكان هي منهج السلطات المفضل في بلداننا للحكم، وبدرجة تتنـاسب مع سعيها للخلود فيه. ينبغي حفر خنادق عميقة بين المحكومين والعالم، وبين المحكومين أنفسهم، كي يكون الحكام المؤبدون مركز التقاطع والتواصل الوحيد بين داخل وخارج وبين الدواخل الاجتماعية المحـــكومة. هذا يمنحهم موقعاً ممتازاً للســيطرة الســـياسية والتحكم الاجتماعي والشــرعية الدولية. يحصنهم، بالتالي، ويضمن دوامهم. إن كان هذا التحليل صحيحاً، على ما نقدر، فإن بناء الثقة يمسي عنوان السياسة المقاومة للاستبداد. ثقة المحكومين ببعضهم، والثقة المبدئية بالعالم من حولنا، بحيث نتحرر من الخوف من غيرنا ومن الانكفاء على أنفسنا.
هذا جهد سياسي وثقافي، لا يتفوق عليه شيء من أجل محاصرة الاستبداد والتغلب عليه. وحدها نخب الحكم المسيطرة هي من يتعين عدم الوثوق بها.