منذر خدام
الحوار المتمدن
6 أذار 2011
نعم هي الأوامر العليا التي تتدخل وتقرر أية صغيرة وكبيرة في أنظمة الاستبداد العربي، فتخذل إرادة الشعوب، و تحول جميع هيئات المجتمع المدنية والنقابية والحزبية التي تسمح بها على صورتها إلى أجهزة لتوصيل الأوامر وتطبيقها، ويكاد يكون النظام الذي تقدمين خدماتك له نموذجا صارخا عنها. أنت فعلا كتبت عن أنظمة عربية لا تمثل تطلعات شعوبها، ولذلك فإنني أعلن على الملأ تضامني معك ضد من يتهمك بذلك.
بتاريخ20 كانون الأول من عام 2003، نشرت مقالة في جريدة تشرين السورية الرسمية بعنوان " إفلاس العقلية الفردية " تناولت فيها الشأن العراقي ودور النظام الاستبدادي الحاكم فيه في تخريب العراق وإذلال شعبه.. في ذلك الحين كتبت بدوري مقالة بعنوان " المجتمع يشارك بفعالية إذا كان حراً "، أناقش فيها ما ورد في مقالتك، وطلبت منك أن تحذفي كلمة العراق أو النسبة إليها من مقالتك وتضعي بدلا منها كلمة سورية، فسوف تجدين أن ما ورد في مقالتك ينطبق أشد الانطباق على النظام الحاكم في سورية، مع فارق وحيد لكنه جوهري، وهو أن مقالتك كانت سوف تكتسب مصداقية أكثر، بدلا من النفاق أكثر الوارد فيها. وإذ تدعينا في مقالتك التي نحاورها الآن لننظر كيف " تتصرف " هذه الأنظمة التي "لا تمثل شعوبها" بموارد هذه الشعوب ومقدراتها، وأنت تقصدين طبعا النظام المصري والنظام التونسي وربما الليبي، والمقدرة " بالمليارات من الدولارات التي هربت ووضعت في حسابات في البنوك الأجنبية من قبل الطغاة وأولادهم وزوجاتهم وأقاربهم، فيما يذل الشباب العربي بالفقر وبالبطالة في بلادهم…".
مرة أخرى ادعوك يا دكتورة لتنظري من حولك، إنما بعيون مفتوحة، وإذا فعلت فسوف تجدين المشهد هو ذاته يتكرر كما في كل الأنظمة الاستبدادية العربية، وربما هو أفظع بالقياس إلى ثروة الشعب السوري المتواضعة، وبالقياس إلى إدعاء الصمود والتصدي والممانعة. فهل يتم الصمود بإفقار الشعب وإذلاله. هل تعلمين أن نحو 33% من الشعب السوري يعيش اليوم تحت خط الفقر( نحو 3000 ل.س/شهر) بحسب المصادر الرسمية، وهناك أكثر من مليون شخص عاطل عن العمل جلهم من الشباب وخريجي الجامعات. هنا أيضا جرت سرقة منظمة لثروة الشعب من قبل رجالات النظام وعائلاتهم وأقربائهم ونقلت إلى الخارج، وهي أيضا تقاس بعشرات المليارات من الدولارات. هل علينا أن نذكرك بثروة رفعت الأسد أو عبد الحليم خدام المهربة إلى الخارج، والتي أصبح الحديث عنها بعد انشقاقها لا يثير مشكلة مع النظام، أو بثروة آخرين(نتحفظ على ذكر أسمائهم) لم ينشقوا بعد، وهي أكبر بكثير.
والأخطر من ذلك فقد فتح النظام شهية كل من يتولى وظيفة عامة إلى استغلال منصبه من أجل الإثراء غير المشروع، حتى تحول الفساد والإفساد في سورية إلى أسلوب في إدارة المجتمع والدولة. ألا تتساءلين من أين جاءت الأموال التي بنيت بها هذه القصور المنتشرة في كل مكان من سورية، والتي يفوق بعضها خيال الحالمين في أبهته، هل سمعت بما يسمى "التفييش" المتفشي في الجيش، هل سمعت بشراء الوظائف في الدولة والتي زاد ثمن الرشوة المدفوعة لقاء الحصول على بعضها المليون ليرة سورية. وإذا كانت" الأمور في غاية التعقيد" كما تقولين، ألا تتساءلين من المسؤول عن تعقيدها، أليست هي الأنظمة الاستبدادية عينها ومن يدور في فلكها ويقدم خداماته لها؟!.
أليست هي التي سدت الأفق أمام أي تطور سلمي طبيعي للدول العربية ومنها سورية بالطبع. تقولين " إذا كنا نريد أن نكون مساهمين في صناعة مستقبل عربي زاهر بالحرية والكرامة نتطلع إليه منذ قرون، ونعمل من أجله منذ عقود جيلا بعد جيل، فلا بد أن نتبنى أسلوبا حضارياً في الحوار بعيداً عن القوالب الجامدة". ليس لدي شك بأن الشعوب العربية حلمت منذ قرون بمستقبل زاهر بالحرية والكرامة والتقدم، غير أن أنظمة الاستبداد العربي التي تقدمين خدماتك لأشدها قسوة، خربت كل شيء، وحالت بين الشعوب العربية وأحلامها، وكانت شريك الدول الغربية وإسرائيل في إذلالها، ومكنتها منها. الذين عملوا ولا يزالون يعملون في سبيل هذا المستقبل، جيلا بعد جيل، وقدموا في سبيل ذلك كل غال ونفيس، وقدموا الشهداء.. لعلمك لم يتركوا الساحات، أنظري بل ضاقت بهم الآن في تونس وفي مصر وفي غيرها من البلدان العربية، بعد أن ضاقت بهم سجون الأنظمة الاستبدادية العربية. أتحداك أن تطلبي من مسؤولي النظام الذي تقدمين له خدماتك الإفراج عن جميع مساجين الرأي في سجون نظامك ومنهم علي العبد الله، وطل الملوحي، وعباس عباس وهيثم المالح وكمال شيخو وغيرهم كثير.
لكنك بالتأكيد لن تفعلي فأنت وأمثالك في الطرف الآخر، إلى جانب السجانين وسارقي ثروات الشعوب ومذليها… وبعد كل ذلك تطالبين بتبني أسلوب حضاري في الحوار. إنها لنكتة فجة، هل نظرتي كيف حاور النظام التونسي شعبه، وكيف حاور النظام المصري شعبه، وكيف يحاور النظام الليبي شعبه. ثم لماذا تنظرين بعيداً، فالنظر في البعيد ممكن لمن يمتلك بعد نظر، انظري من حولك كيف حاور نظامك معارضيه ومثقفي الشعب ومفكريه، بالزج في السجن أو المنع من السفر أو الفصل من الوظائف. كم من مرة طالبت المعارضة السورية بالحوار مع السلطة من أجل انتقال سلمي وآمن ومتدرج للدولة والمجتمع من وضعية الاستبداد إلى وضعية الحرية والديمقراطية، إلا أنها سدت أذانها ولا تزال.
ورغم أنني لا أدعي تمثيل غير نفسي مع ذلك فإنني أتحداك أن تطالبي السلطة التي تخدميها بالإنصات إلى صوت العقل والتعقل إلى صوت الشعب، وتبادري إلى الدعوة إلى حوار وطني شامل يشارك فيه الجميع، من مؤيدي السلطة ومن معارضيها، ومن ممثلي هيئات المجتمع المدني والأهلي، ومن المثقفين ورجال الفكر ورجال الدين،ورجال القوات المسلحة، من جميع ممثلي الشعب بلا استثناء وبلا شروط مسبقة، للبحث عن أفضل السبل، وأقصر الطرق لوضع سورية على طريق الحرية والديمقراطية. فالثورة لذاتها ليست مطلباُ، فهي إذ تفتح أفقا رحبا للحرية والتقدم والكرامة والديمقراطية، إلا أنها في الوقت ذاته تتسبب بخسائر كبيرة وبآلام كثيرة سوف يمضي وقت طويل قبل تعويضها وتجاوزها. تدعونا الدكتورة بثينة شعبان إلى "حوار شفاف" حول " أولويات شعوبنا، والسبل الحقيقية الكفيلة بتحقيق هذه الأولويات بأقل الخسائر الممكنة، وبأنجع السبل المتاحة".
إن دعوة الدكتورة بثينة للحوار الشفاف كان يمكن أن تكون موضوعاً للتفكر والنقاش، وليست مجرد مزحة من مزحاتها الكثيرة التي حفلت بها مقالتها العتيدة التي نحاورها، لو كانت تعنيها فعلا بحكم موقعها الرسمي. لعقود من السنين وأنظمة الاستبداد العربي تسد آذانها عن أي مطلب شعبي مهما صغر، وتواجهه بالقمع. الآن بعد أن صارت الجماهير تسمع صوتها لمن به صمم، تستمر الدكتورة بتجاهل أولويات هذه الجماهير، بالحرية والكرامة والديمقراطية، أنصتي إليها يا دكتورة فهي تريد الحرية تريد دولة ديمقراطية مدنية قوية تحميها وتصون بلادها، وتتيح لجميع أفراد الشعب التطور والتقدم بحرية وشفافية في إطار القانون الذي يشرعونه هم لا المفروض عليهم، في إطار الدستور الذي يعدونه هم كعقد اجتماعي لا الدستور الذي يكبلهم ويشلهم عن الفعل والحركة، في مناخ تسود فيها سياسات تستلهم مصالحم لا مصالح الخارج وأعوانه في الداخل. ربما تقصد الدكتورة بثينة بالأولويات التي تطالب بالحوار حولها وتبنيها، أولوية تحرير الأرض، فسورية كما هو معلوم لا يزال جزء من أرضها محتل من قبل الكيان الصهيوني. لأطمئنك أيتها المستشارة بأن تحرير الأرض السورية هي في مقدمة أولويات الشعب السوري ، وهو يدرك جيداً موقعها المناسب في أجندته.
مع ذلك فإنني كفرد من هذا الشعب أسألك ماذا فعل نظامك من أجل تحرير هذه الأرض منذ نحو أربعة عقود وهو يرفعها كأولوية له. كم كنا نشعر بالخجل ونحن نسمع تصريحات المسؤولين في الكيان الصهيوني وهم يعلنون بأن الجولان صار المنطقة الأكثر أمناً بالنسبة للصهاينة، أكثر أمنا حتى من تل أبيب. أسألك هل يمكن تحرير الأرض بالعبيد أم بالأحرار، بالفقراء والعاطلين عن العمل، أم بالذين يعيشون بكرامة ويعملون ويكسبون رزقهم بعرق جبينهم، بدولة تمثل الشعب وتعبر عن مصالحة، أم بدولة أمنية جهازية، بسلطة تنبثق من الشعب عبر انتخابات حرة ونزيهة تقوم على رعاية مصالحة، أم بسلطة مفروضة عليه، جل همها أن تسرق الشعب وتذله وتهرب ثرواته إلى الخارج، كما كشفت عن ذلك الثورة التونسية والمصرية وغيرها من الثورات العربية الجارية في أكثر من دولة عربية. تحرير الأرض يا سيادة المستشارة لا يكون بالعبيد والجوعانين والفقراء، تحرير الأرض لا يكون بتعميم الفساد والإفساد حتى لم يبق احد خارجه بحسب مفكرنا السوري البارز طيب التيزيني. تحرير الأرض بالقوة أو بالتفاوض يكون بأولوية خلق الظروف الملائمة لبناء الإنسان الحر العزيز الكريم، لبناء دولة القانون، دولة المؤسسات الديمقراطية، دولة المناقبية والقيم الوطنية المعممة، الدولة القوية بشعبها وجيشها. ليس ثمة أي اكتشاف في القول بأن الثورة المتنقلة من قطر عربي إلى آخر دليل على وحدة الأمة العربية وقضاياها، خصوصا بالنسبة لنا نحن السوريين، غير أن ما أتحفتنا به الدكتورة بثينة من اكتشاف أن الكفاح " من أجل حياة حرة وعزيزة ومستقلة من الاضطهاد الأجنبي، يترجمه اليوم ملايين الشباب بالكفاح ضد الفساد والبطالة والفقر والاستبداد.." .
في ظاهر المعنى يبدو أن الدكتورة قد ربطت وجود " الفساد والبطالة والفقر والاستبداد" بالأجنبي، هذا يعني ببساطة أن الأنظمة الاستبدادية العربية هي صنيعة هذا الأجنبي، تقوم على تنفيذ سياساته على الشعوب العربية، وليس من مجال للاستثناء. أما في باطن المعنى وهو الذي يحمل رسالة الدكتورة، يبدو الأمر مختلفا جداً وهذا ما توضحه عبارتها التالية مباشرة والتي تنص" لا يجب مساواة من دافع دائما عن عروبة قضايانا، ودفع ثمنا باهظاً من أجل مواقفه بمن تلقى المكافآت والمعونات من أعداء أمته على مواقفه..". إنها تريد أن تقول باعتبار أن النظام السوري كان يدافع دائما عن عروبة قضايانا(لست أدري كيف تكون قضايانا غير عربية، وإنها بحاجة لمن يناضل للحفاظ على هويتها العربية) لا ينبغي مساءلته عن قضايا " الفساد والفقر والبطالة والاستبداد"، فهذه مسائل ثانوية بالقياس إلى المواقف "العروبية" الكبيرة التي لم تفرط بالحق العربي. ينبغي علي الاعتراف من جديد، وقد قلت ذلك مراراً في السابق، وفي ذلك ربما نقطة توافق والتقاء مع الدكتورة بثينة، إنني أميز جيداً بين مواقف النظام السوري تجاه قضية فلسطين، وفي المفاوضات مع إسرائيل التي استمعت وإياها إلى عرض مسهب لمجرياتها منذ أن بدأت من عضوين في الوفد السوري المفاوض، لا ضرورة لذكر اسميهما، وكذلك مواقفه من دعم المقاومة اللبنانية والفلسطينية ضد إسرائيل، وبين مواقف بقية الأنظمة الاستبدادية العربية، خصوصا مواقف النظام المصري السابق والنظام الأردني. لكن المفارقة تكمن في الجمع بين هذه المواقف الخارجية التي تبدو جيدة وتدعمها غالبية الجمهور السوري، وبين انتشار الفقر والبطالة والفساد في الداخل. هل يمكن بناء أية مواقف سياسية خارجية قوية ومقنعة، على كيان سياسي ضعيف ينخره الفساد والبطالة والفقر والاستبداد المعمم.
بودي أن أصارحك بأمر أنت لا تستطيعين سماعه بحكم موقعك، غير أنني أسمعه دائما حتى من بعض رفاقك، في أي نقاش يجري في الشؤون العامة، بأن المواقف "العروبية" للنظام السوري ليست سوى غطاء لاستمراره في الحكم، وأنه مستعد للقتال حتى آخر مقاتل لبناني أو فلسطيني، ومستعد أن يتحمل الإذلال والمهانة باستمرار كما حصل في تدمير الطيران الإسرائيلي لمنشأة عسكرية في دير الزور، وكما حصل من قصف معسكرات تدريب على الحدود السوري اللبنانية، وكما حصل في تحليق الطيران الإسرائيلي فوق القصر الجمهوري في اللاذقية، وكما حصل في اغتيال القيادي في المقاومة اللبنانية مغنية في دمشق، واغتيال المسؤول العسكري السوري محمد سلمان على شاطئ طرطوس…لكنه غير مستعد لتعريض نظامه للخطر من جراء أية مواجه محتملة مع العدو الصهيوني.
بالطبع الحرب مع عدو قوي ومدجج بالسلاح ليس مطلباً، ومن الحكمة أن لا ننجر وراء استفزازاته، لكن من غير المعقول والمقبول إضعاف الدولة والمجتمع بصورة ممنهجة من خلال إفقار الناس وإفسادهم، بحيث لا تقدر على التصدي لهذه الاستفزازات في داخل سورية، بل والسكوت المريب عن المسؤولين المباشرين عن عدم التصدي لطيران العدو الذي استباح سماءنا. يا سيادة المستشارة كوني على ثقة بأن الشعوب العربية المنتفضة والثائرة على حكامها المستبدين تضع نصب أعينها قضية تحرير فلسطين، ألا تسمعين كيف هجمت حشود مصرية على معبر غزة لتكسر الحصار عن أبناء شعبنا الفلسطيني؟!، وإن الطريق إلى تحرير فلسطين لأول مرة يتم اكتشافها بصورة صحيحة وصائبة، بعد أن حالت أنظمة الاستبداد العربي دون ذلك، وهو طريق الحرية والديمقراطية، طريق محاربة الفساد والفقر والاستبداد. ألا تسمعين تصريحات المسؤولين الإسرائيليين وكيف أن الثورات العربية قد غيرت حساباتهم الإستراتيجية.
إنهم اليوم لأشد قلقاً على مستقبل وجودهم في فلسطين، ولذلك نراهم يسارعون ويتوسطون لدى حلفائهم من أجل بلورة مبادرات دبلوماسية تفضي إلى تسويات مع الفلسطينيين وغيرهم تحافظ على وجودهم. والغريب في الأمر أنه في هذا الوقت العصيب بالنسبة لإسرائيل تطالعنا وسائل إعلام مختلفة بعضها قريب من النظام السوري بأن سورية تقوم بمبادرة دبلوماسية تجاه إسرائيل عبر "الوسطاء" الأمريكيين؟!!