جميل الياس دياربكرلي
حلب( سوريا) – أدو أورغ ++ أهداني الباحث الأستاذ فريد بسمارجي كتابه الجديد المعنون بـ أضواء على الماضي من أرشيف عائلة حنا سري جقي ܢܘܗܪܐ ܥܠ ܙܒܢܐ ܕܥܒܪ (أحداث، شخصيات، رسائل) والكتاب من الحجمّ الوسط، ومزين بغلاف بديع من تصميم المهندس أبراهام إيوازيان.
غاية الكتاب هو تسليط الضوء على جزء هام من تاريخ شعبنا في العصر الحديث، أي في الفترة الواقعة مابين عام 1872 لعام 1950. وما أحوج الباحثين والكتّاب في عصرنا إلى مراجع ومصادر عن تلك الفترة الزمنية، التي لا يعرف عنها سوى الجهل والتخلف اللذين كانا ينخران في جسم الشعب والكنيسة، نتيجة السياسات العثمانية المستبدة والجاهلة والمتعصبة عرقياً ودينياً، فجاء هذا الكتاب ليوضح بعض الاستفسارات والتساؤلات التي كانت تطرح بين الحين والآخر عن وضع السريان في تلك الفترة في آمد (دياربكر)، وماردين، حيث دير الزعفران، وهو المقر البطريركي الأنطاكي السرياني، ومديات وقصبة طورعبدين وقراها، لا بل يمتد هذا الكتاب وما يحويه من أرشيف ثمين ليطال أوضاع وأحوال الأبرشيات السريانية اللائذة بالكرسي الأنطاكي السرياني. من حلب الذي يبين كيفية بداية بزوغ فجر جديد للسريان فيها، بعد أن خلت من أبنائها الذي تركوا الكنيسة متوجهين إلى الكثلكة، وحمص مركز أبرشية سوريا ولبنان، ومركز البطريركية بعدئذ،ٍ التي كانت أشبه بخلية نحل في النشاط ومتابعة السريان المهجرين الذين قصدوا سوريا ولبنان لربما يجدون في ربوعهما الأمن والاستقرار، ودمشق والبدايات السريانية فيها، وكذلك بيروت، ولا أنسى القدس وهي التي بحسب الكتاب كانت من أنشط الأبرشيات على الإطلاق بالنواحي الروحية و الاجتماعية والعلمية كافة.
والجدير بالذكر أن معلومات الكتاب كلها مأخوذة ومستقاة من أرشيف عائلة سريانية أخذت على نفسها عهداً أمام الله أن تظلّ وفية في خدمة الكنيسة والشعب السرياني، لكن للأسف ظلّ أسم هذه العائلة ولمدة ربع قرن الأخير أو أكثر مغموراً، ولم يخلد بالشكل اللائق لتوضع أسماؤهم في سفر رجالات الأمة.
إنها عائلة حنا سريّ جقي التي انطلقت من مدينة آمد السريانية، واشتهرت في زمن المعلِّم حنا، الذي طار صيته إلى كلّ مكان فيه السريان، كيف لا وهو المعلم، والمربّي، وعضو المحكمة الكنسية، والكاتب، والشماس، وحامل أوسمة سلطانية، فشخصية المعلم حنا التي كانت تستقطب رجال الدين والسياسة والأمة كلهم حوله، والرسائل الموجودة في الكتاب والموجهة إليه هي أكبر دليل على المكانة المرموقة التي كان يتبوأها باستحقاق نتيجة تضحياته وعطائه الفكري والروحي والإداري والتعليمي.
هذا ولم ينحصر عطاء المعلم حنا فقط في مجتمعه، وإنما نما أيضاً في عائلته أيضاًَ، التي أكملت مسيرة الخدمة والعطاء من خلال أبنائه الذين كان يشّهد لهم القاصي والداني بأفضالهم ومواقفهم سواء على اللغة أو على النهضة السريانية وحتى على الصحافة والإعلام ، وعلى تطور وازدهار الكنائس أين ما حلّوا، كما كانوا كالجنود يُلبّون نداء رؤسائهم الروحيين في التنقل من مكان إلى آخر في سبيل إنعاش وتطوير مراكز الطائفة، فحازوا ثقةً لا مثيل لها من الرؤساء الروحيين، وكما كانوا يتغذون دائماً من فكر الوالد المعلِّم حنا فكانت رسائله لهم لا تنقطع، وكلها تحمل طابع التوجيه والإرشاد، ومنها ما كتبه إلى أحد أبنائه في محبة الأمة والقومية وخدمة الكنيسة والوفاء لها فيقول : الغيرة الجنسية (القومية) ومحبة الطائفة كأنها مرض في عائلتنا.
إذ إننا نفضل خير الطائفة على خيرنا ومصالحنا. وأما أولاده فهم :
– جرجس جميل جقيّ (1884ـ 1932) الذي له أيادٍ بيضاء في كثير من المجالات وخصوصاً في إدارة المدرسة السريانية في حمص سنة 1907، كما يرجع له الفضل في تأسيس مدرسة سريانية في دمشق.
– سليم سامي جقيّ (1891ـ 1916) تخرج من المدرسة العالية الإنجيلية، وأمتهن التدريس والتعليم إلى جانب قرض الشعر، وقد ألّف كتباً مدرسية في الحساب والجغرافية، بالإضافة إلى تكليفه في عدد من المهام الكنسية من التعليم في مدارس حماة.
– ميخائيل حكمت جقيّ (1893ـ 1916) كان معلماً ناجحاً درّس في مدرستي ماردين ودير الزعفران، وأشترك في أصدار مجلة الحكمة التي كان يصدرها دير الكرسي الرسولي الأنطاكي المشهور بدير الزعفران، وكان هو محررها بينما كان الأديب حنّا القس مديرها المسؤول.
– مراد فؤاد جقيّ (1902 ـ 1958) وهو أكثر إخوته شهرة، فإذا تكلمنا عن الملفان نعوم فائق لابد أن نذكر مراد جقيّ الذي، ولولا عمله الجبار لما عرفنا شيئاً عن معلمنا وملفاننا ورائد الفكر القومي نعوم فائق[1]، وإذا تطرقنا لتاريخ الصحافة السريانية سنجد أيضاً مراد جقيّ متربعاً على أحد عروشها من خلال إنعاشه لـ:مجلة الحكمة القدسية وترأسه تحريرها ومدّها بالأبحاث التاريخية والدينية والسياسية التي تنبع من فكره النير وقلمه السيال.
– شكري بهيج جقيّ ( 1907ـ 1950) وهو خرّيج الجامعة الأميركية في بيروت، عاون أخاه في مجلة الحكمة في البداية ومن ثم لمع نجمه في دمشق ككاتب وصحفي وأديب، وكوّن علاقات طيبة مع رجال السلطة من رؤساء ووزراء وسياسيين معروفين في المجتمع السوري مثل فارس الخوري، وأديب الشيشكلي، وخالد العظم، وجميل مردم ، كما عمل كمراسل لصحيفة ديلي ميل اللندنية المعروفة وللأسف نجد أن يد المنون كانت تخطف الأخ تلو الأخر، وهم بعد في ريعان العطاء، وهذا سبب من أحد الأسباب التي جعلت من ذكر العائلة طي الكتمان، بالإضافة إلى عدم وجود من يستلم رسالة العائلة من هؤلاء المعلمين المهرة كما هم تسلموها من والدهم.
وبالعودة للكتاب الذي تصدّر بمقدمة هامة لنيافة المطران يوحنا ابراهيم بعنوان : عطاءات لصنع التاريخ. ومن ثم أبواب يتحدث كل باب عن البطاركة السريان الذين عاصرتهم عائلة جقيّ بدءاً بالبطريرك بطرس الرابع ومروراً بالبطاركة عبد المسيح الثاني، عبدالله الثاني، الطوباوي مارالياس الثالث، وأخيراً البطريرك أفرام الأول، مع وجود بعض الشذرات للبطريرك زكا الأول أيام رهبنته، وبعض المطارنة السريان من أمثال أسطاثيوس قرياقس(1988+)، غريغوريوس بولس بهنام(1969+)، ملاطيوس برنابا(2005+). بالإضافة إلى رسائل من وإلى آل جقيّ لكتّاب وأدباء سريان أمثال الملفان نعوم فائق(1930)، الأرخدياقون نعمة الله دنو(1951)، الأستاذ عبد المسيح وزير(1943)، الفيكونت فليب دي طرازي(1956).
وتضمن هذا الباب الرسائل والمنشورات التي كانت قد صدرت أما عن البطريرك أو في عهده. ومن ثم خصصت الأبواب الأخرى لتفصّل سير شخصيات آل جقي (الأب والأبناء) وفيها سير كلٍّ منهم بشكل تفصيلي وموثق تاريخياً بالرسائل، تبين هذه الأبواب مدى العلاقات التي شكلوها أبناء عائلة جقيّ، بالإضافة إلى المكانة المرموقة التي احتلوها، والمكارم والمواقف التي أدوها للملة والشعب. وبقي الباب الأخير مخصصاً لحفيد العائلة، وواضع الكتاب، وفيها رسالة موجهة من مطران حلب السابق مار جرجس بهنام(1992+) إلى الباحث فريد بسمارجي بمناسبة وضعه كتاب توثيقي عن رسامة المطران غريغوريوس يوحنا ابراهيم سنة 1979.
يعتبر الكتاب بكل أبوابه وهي حول شخصيات، وأحداث، ورسائل، من أهم المراجع التاريخية في تلك الفترة، خاصةً ومحتويات الكتاب ترسم للقراء أحداثاً وشخصيات عاشت في تلك الفترة، وأهمها أن الكتاب يوضح الوقت المبكر في تفعيل دور العَلماني في الشؤون الكنسية وبطريقة منظمة من خلال المجالس والمؤسسات، وهذا وإن دلّ عن شيء فإنما يدل على أمرين: الأول مدى الانفتاح الموجود عند البطاركة مارعبد المسيح الثاني، مارعبدالله الثاني، وزاد في عهد البطريرك الياس الثالث. كما أن البطاركة كانوا يلجأون دائماً إلى خبرات العلمانيين الدينية والدنيوية، وينظمون هذه الخبرات ضمن لجان مختلطة لتهتم بشؤون الطائفة الروحية والزمنية، وإحدى أهم الأعمال التي قامت بها وضع الـ نظام نامة للبطريركية. والثاني وجود أشخاص من أمثال آل جقي وغيرهم ممن كانت الكنيسة والبطريركية بحاجة إليهم وإلى خبراتهم خاصة في أحلك أوقات السريان سوادً في تاريخهم الحديث، ويضحون بالغالي والنفيس في سبيل كنيستهم وشعبهم، ويتركون كل شيء وراءهم ليلبوا نداء الكنيسة على لسان آبائها،إلا أن هذه التضحيات والعطاءات، كانت مقرونة بعلمٍ غزير باللغات وعلى رأسها السريانية، والعلوم الدينية والدنيوية. فوجود صفات في هذه الشخصيات أدى إلى منح السلطة الكنسية كامل ثقتها بهم، وهذا ما لا نجده في هذه الأيام لا بالسلطة الكنسية من حيث الثقة، ولا بالعلمانيين من حيث التضحية والعطاء.
وبهذا نرى أن الكنيسة السريانية كانت من السباقين بين كنائس المنطقة في تفعيل دور العلمانيين من مبدأ: مال لله لله ومال قيصر لقيصر .
كما كشف الكتاب عن بعض الجوانب النيرة والمشرقة في حياة قادة الكنيسة في تلك الفترة التي لا يعرف عنها سوى جهل رؤسائها ومرؤوسيها. فنرى البطريرك الياس الثالث يولي الصحافة والطباعة والمجلات اهتماما واسعاً، لا بل عمل شخصياً على إصدار مجلة الحكمة القدسية لتكون لسان حال الطائفة السريانية، وأخذ يتابعها رغم زياراته الرسولية ومهامه الكثيرة، فكان يراسل الإدارة ليباركهم ويشجعهم ويعطيهم نصائحه وتعليماته الأبوية، وتحديداً إلى الباحث مراد جقيّ رئيس التحرير وجاء في واحدة منها : لما كانت الصحف والمجلات لا سيما الدينية منها من أهم الوسائل التي تؤول إلى رفع شأن الطائفة، ولم يكن لطائفتنا صحيفة خاصة تنطق بها بلسانها وتعرب عن آمالها.
في إحدى الرسائل يضيف : " .. ولا حاجة بنا لوصف مقام الصحف في الهيئة الاجتماعية وما يتوقف عليها من صلاح الشؤون في الحالتين الدينية والمدنية ولاسيما في هذا العصر الذي عمّ فيه انتشارها فكانت السلم التي تتدرج بها الأمم في مراتب النجاح والأس الذي تشاد عليه قواعد الفلاح فهي المبقية لآثارنا والمترجمة عن اسلافنا والمنبئة بأخلاقنا والدالة على عاداتنا…."
وأما دعم المجلة الناشئة أدبياً ومادياً فكان على جدول زيارات قداسته، فكان يحث أبناءه السريان على رفد المجلة بالمواضيع فيقول: "… أن تعضدوا مجلتكم الحكمة وتناصروها بشتى الوسائل وتؤازروها بالمساعدات المادية والأدبية فهي صحيفة منكم وإليكم…"
والجانب الهام والذي ظهر من خلال الكتاب ـ الأرشيف أيضاً، هو المحبة الجنسانية (القومية) عند المعلِّم حنّا فكما كان يوصي أبناءه بخدمة الكنيسة هكذا كان يأمرهم بمحبة السريانية لغةً وتراثاً وآباءً وخدمة السريان والحفاظ على التراث السرياني، وقد أثمرت محبته في تلميذه الملفان نعوم فائق الآمدي رائد الفكر القومي عند شعبنا. وهكذا نرى المعلم حنا من أوائل من نضج لديه الفكر القومي.
تتعلق ملاحظتي الأولى باعتماد الكتاب الانتقائية في نشر الرسائل، وأرى أن بعض الرسائل لا داعي لنشرها، منها ما جاء مدح آل جقيّ وفضائلهم، الأمر الذي يتفق عليه الجميع، فلو أعطي مكاناً لرسائل أخرى ذات أهمية تاريخية لكان هذا الكتاب مرجعاً عاماً، والرسائل والخطابات الخاصة بالبطريرك أفرام برصوم وما يمثله هذا البطريرك من خطٍ قومي أراها جاءت على حساب ضآلة الرسائل الخاصة بالملفان نعوم فائق والصحافي السرياني فريد نزها، فلا يكمل الأرشيف إلا بذكر شخصيات سريانية، ربطتهم بالعائلة أكثر من رابطة إن لم تكن التلمذة للمعلم حنا كالملفان نعوم فائق، فستكون حتماً الزمالة بالعمل في بلاط صاحبة الجلالة الصحافة كفريد نزها، وبذلك يفقد الكتاب بعضاً من شفافيته التي لايجب أن يغفل عنها عند كتابة التاريخ، وأعتقد أنه لو أن أحد أبناء المعلم حنا نشر هذا الكتاب لم وقع في هذه الأخطاء. فأرجوا من الأستاذ حنا بسمارجي الإسراع في نشر الوثائق المهمة في الأرشيف وخصوصاً تلك التي لها علاقة مباشرة في تطور ونشأة الفكر القومي عند شعبنا في العصر الحديث، ودعني نستبشر خيراً كما أستبشرته سابقاً عندما علمنا أن الأرشيف في حوزة شخص عرف عنه الشفافية والصدق مثلك
أما الثانية فكنت أتمنى أن يكون تبويب الكتاب أفضل بحيث لا يجعل القارئ يتوه في البحث عن رسالة لشخصية ما أو في موضوع ما ، وبالرغم من أن المقدمة والتقديم كان وافيين إلا أنه كان يجب تقديم الأبواب الأخيرة بحيث يبدأ الكتاب في شرح مفصل عن رجالات آل جقي ومن ثم عرض العلاقات والمراسلات مع البطاركة والشخصيات. وكان من الأفضل أن يلحق الكتاب فهارس توضيحية خاصة فهارس الأسماء والأماكن، تليق ومكانة هذا الكتاب والأرشيف المدون فيه، وليكون معداً ومؤهلاً لاستعمال الباحثين والكتاب. ربما نرى ذلك في الطبعة الثانية.
وفي النهاية لا يسعني سوى تثمين جهد الباحث والأستاذ فريد بسمارجي عالياً على عمله الشاق والطويل في سبيل كشف الستار عن هذا الأرشيف الهام لعائلة جقيّ، وهو حفيد المعلم حنا سريّ جقيّ، كما أزف كتاب أضواء على التاريخ إلى مكتباتنا ليأخذ مكانه في الإضاءة على بعض جوانب مرحلة صعبة ودقيقة من العصر الحديث للسريان. كما آمل أن يعود ويتبوأ آل جقيّ من خلال هذا الكتاب، مكانهم الطبيعي بين كل من خدم شعبه وكنيسته وتراثه ولغته فكانوا كلهم بحقّ رجال الأمة.