الرئيسية / مقالات آشورية / جورج هومة … عندما يغمض الكون عينيه

جورج هومة … عندما يغمض الكون عينيه

أسامة أدور موسى

++ كنت في التاسعة من عمري حينذاك، عندما دخل "مامي جوجا" الى منزلنا في ذلك اليوم الخريفي من عام 1985. لم يكن الحدث غريباً، فقد اعتدت ان أرى الرجل في منزلنا بشكل شبه يومي، وخصوصاً أنه كان ووالدي يفسدان علي متعة متابعة "فترة برامج الأطفال" التي كانت تحملني الى عوالم السعادة خاصتي. كان الرجلان يجلسان لساعات طوال في منزلنا الطيني الصغير في قرية هلمون الخابورية، يتحدثان ويتجادلان في أمور لا أفهمها، ولم أكن أريد أن أفهمها، لأن حدود عالمي وتضاريسه كانت تمتد وقتذاك من سفح حقيبة المدرسة الى قمة شاشة التلفاز ومابينهما.

وقد كان من آخر دواعي قلقي مثلاً أن تكون أوتار العود مدوزنة أم لا، أو أن يكون قوس الكمان طرياً أم لا، أن ينشّـز أحدهما أو يخرج الآخر عن الإيقاع أم لا، أو أن تختلط علي الأمور فلا أميز الديابازون والقلفون، أو أن تضيع ريشة العود، أو غيرها من القضايا الكبرى التي كانا يتعاركان ويتجادلان ويقهقهان في شأنها. ما كان يهمني في تلك اللحظات هو أن يصمت الرجلان سريعاً كي أتمكن من سماع ما يقوله أبطالي في مسلسل الصور المتحركة. نعم ، لقد خيل لي للوهلة الأولى أن هذه الزيارة ستكون مثل سابقاتها. "مامي جوجا" وهو الاسم الذي اعتدنا أن نناديه به حتى اليوم، يزورنا من جديد، وعلى جري العادة سيشربان الكثير من الشاي ويدخنان الكثير من السكائر ويغنيان ويتجادلان ويضحكان. لكن اللافت هذه المرة في الزيارة التاريخية التي غيرت مسار حياتي كان فيما يحمله الرجل في يده. علبة كرتونية كبيرة، وضعها على الطاولة وقال قاطعا علي متعة المتابعة "هذا الأورغ الكهربائي هدية لك".

للحقيقة كنت بحاجة الى ثوان غير قليلة لأستوعب أهمية الحدث الكبير، ثم أردف دون أن يعطيني فرصة الاستيعاب "أريدك أن تصبح عازف أورغ كبير، هل تعدني بذلك؟" ودون أن أدرك ماذا يعني "ذلك" أومأت له بالموافقة. كانت تلك المرة الأخيرة التي رأيت فيها "مامي جوجا" قبل أن يغادر بعد أشهر معدودات الى "آخر الدنيا" كما كان والدي يقول. ولم أكن أعرف أين تقع آخر الدنيا تلك، لكني أعرف أن والدي ظل يقص علينا الحكايا عن توأم روحه حتى خيل لي أنه لشدة نبله وإنسانيته وقوته سيكون الوحيد القادر على تخليص العالم من كل الأشرار، كلما كان أبطالي في عالم الصور المتحركة يفشلون في ذلك. المشهد الثاني من ذاكرتي مع الرجل كان في العام 2004، حيث كنت أؤدي الخدمة العسكرية في دمشق.

يرن هاتفي الجوال، لم أصدق !! جورج هومة يتصل أثناء زيارته الأخيرة للخابور، ويطلب مني أن نلتقي في دمشق قبل سفره. "حتى اذا اضطرك الأمر للهروب دون إذنهم، يجب أن أراك" هذا ما قاله، وهذا ما فعلته بالضبط. الموعد كان في فندق برج المستقبل قرب سوق الخجا بدمشق، صعدت الى الغرفة وأنا أرتجف، كيف لا وأنا سأقابل مامي جوجا أو الفنان جورج هومة، الاستاذ الكبير والملحن القدير والكاتب و الموسيقي والممثل وعازف الكمان والمطرب والرجل القدوة، الذي لطالما ارتبط ذكر اسمه في منزلنا بكلمات الحب والتواضع والابداع والنبل والطفولة والصدق والوفاء، مع الكثير من الدموع التي كان والدي يتعمد اخفاءها عنا أثناء الحديث عن الرجل. لن أطيل، التقينا، تعانقنا، بكينا، وصمتنا كثيرا، ثم انطلق الحديث المطول عن الماضي والمستقبل والمشاريع المنوي القيام بها.

ثم أخرج الكمان ليسمعني بعضا من نماذج عزفه الشهية، وكان الحديث عن الانتقالات المقامية والجمل اللحنية وروح المقامات الشرقية، وغيرها من المواضيع التي تستهوي أي موسيقي مثلي، نهم الى تعلم المزيد، واستغلال كل لحظة مع الرجل الذي لم أكن أعلم أنها ستكون المرة الأخيرة التي سأراه فيها. قال لي "شكرا لك، لقد وفيت بوعدك لي وصرت عازفا …". المشهد الثالث، اليوم الثلاثاء 16 نوفمبر 2010، بينما كنت في مدرسة اللغة السويدية في منفاي القسري في استكهولم، يرن الهاتف، رسالة من نوهدرا أدور موسى تقول … "مامي جوجا … مات". صعقت وارتبكت ورحت أسأل شقيقتاي، نغم المنهارة و نوهدرا المصدومة، كيف، متى، لماذا، أين؟؟ تسابقت على لساني جميع أسماء الاستفهام لتتقصى الحقيقة. لا جواب شافٍ، الكل كان صامتاً مصدوماً لا يصدق ولا يريد أن يصدق.

أما والدي الذي أخفيت عنه الحقيقة في البدء، فقد أحاطه فنانو الخابور وموسيقيوه الأوفياء بقلوبهم، وأبوا إلا أن يكونوا الى جانبه في لحظة فقدان توأم الروح فأعطوه جرعات محبة ليتحول منزلنا في تل تمر الى بيت عزاء يجتمع فيه محبو جورج هومة، والكل يردد ذات العبارة "لا يمكن أن يكون هذا الخبر حقيقيا". جورج هومة، لطالما كان والدي يردد على مسامعنا بأنك "كون صغير" وأنا أعلم أن الكون لا يمكن أن يموت أبداً.

قد يغمض الكون عينيه مساء فيظلم العالم لبرهة، لكن نور شموسه ينبلج حتماً في الصباح التالي ويشرق على كل من ينتظره. لقد وعدتك ووفيت، ونحن ننتظرك لتشرق مع الشمس غدا صباحا.
فهل تعدني أن تفعل؟؟

شاهد أيضاً

الأكيتو بين خيال الأسطورة وتجليات الواقع

الأكيتو بين خيال الأسطورة وتجليات الواقع بقلم الأستاذ سعيد لحدو لم تأتِ احتفالات رأس السنة …