رغيد الصلح
++ بينما تجري التحضيرات الأخيرة لعقد سينودوس الشرق الاوسط في الفاتيكان، وبينما تشتد الصراعات ذات الطابع الديني على ضفتي المتوسط، نظمت ندوات ومؤتمرات متعددة في المنطقة العربية حول قضية المسيحيين العرب وحول الأوضاع القلقة التي يعيشونها. فلئن داخلت نفوسهم خلال العقود المنصرمة المخاوف الوجودية والقلق على المصير لشتى الأسباب والاعتبارات، فإن هذه المخاوف تفاقمت خلال العقد الفائت.
وآخر المؤتمرات التي نظمت على هذا الصعيد كان المؤتمر الذي نظمه مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية في بيروت . وقد اشترك فيه البطريرك الماروني نصر الله صفير من خلال مندوبه المطران سليم مظلوم، والمؤرخ اللبناني والعربي البروفسور كمال الصليبي، هذا عدا عدد من المشاركين اللبنانيين والعرب البارزين.
ولقد كان المؤتمر فرصة للوقوف على العوامل والأسباب التي أدت إلى نشوء معضلة المسيحيين الراهنة التي انقسمت إلى النوعين التاليين من الاسباب: الاول، هو أسباب وظواهر دولية وإقليمية كان من بينها ما يلي:
– فصول متكررة من ‘صراع الحضارات’ مثل الأعمال الإرهابية التي تقوم بها بعض المنظمات المتطرفة في دول الغرب وعواصمه .
– الهجرة المتصاعدة الشرعية وغير الشرعية أحياناً لعشرات الألوف من المسلمين والعرب الى دول الغرب، وما يرافق هذه الهجرة من نشاط متزايد ومكاسب انتخابية تسجلها احزاب اليمين المتطرف والعنصري في دول اوروبا وآخرها في السويد . ولقد ارتدت هذه التوترات الدولية بأضرار غير مباشرة على المسيحيين العرب، رغم أن السياسات التي سلكتها دول الغرب تجاه العرب، لم تحظ الا بتأييد قلة ضئيلة من هؤلاء المسيحيين .
– أزمات اقتصادية حادة تضرب بعض المجتمعات العربية، وتؤثر هذه الأزمات والتوترات في الجميع عادة، ولكنها تترك أثراً مضاعفاً في الأقليات التي تفتقر إلى الوسائل القانونية والسياسية والاقتصادية الكافية للدفاع عن مصالحها وحقوقها .
– عوامل ديمغرافية تمثلت في التراجع المستمر والمتمادي لنسبة المسيحيين من أبناء المنطقة . ولقد جاء هذه التراجع حصيلة عاملين رئيسين هما انخفاض معدل الولادة لدى المسيحيين وارتفاعه لدى المسلمين، وارتفاع نسبة الهجرة إلى الخارج بين المسيحيين مقارنة بالهجرة بين المسلمين .
– انتشار موجة التعصب الديني والاثني والجغرافي في المنطقة والتي كثيراً ما تتحول الى حملات تحريض على “النصارى والنصرانية” في المنطقة، ومن ثم الى ضغوط معنوية وأحياناً مادية على المسيحيين العرب .
الثاني، الأسباب المحلية أو الوطنية العائدة إلى أوضاع المسيحيين في دول عربية معينة، وهي ما يمكن تلخيصها بما يلي:
– تراجع دور المسيحيين في لبنان . ولقد اقترن لبنان بأذهان الكثيرين في المنطقة العربية والعالم، بمكانة خاصة للمسيحيين في بنيانه السياسي والاقتصادي والثقافي . ولكن هذه الصورة اهتزت والمكانة تراجعت، كما يرى البعض، خلال العقود الثلاثة المنصرمة . واقتحم هذا التراجع عقول ومخيلة المسيحيين في المنطقة الذين كانوا ينظرون الى لبنان نظرتهم إلى كيان للمسيحية العربية عموماً فيها، فخلف شتى انواع القلق والمخاوف . وتفاقمت وتيرة هذا التراجع وبرزت معالمه خلال السنوات الأخيرة تحت وطأة جملة من الأحداث التي عرفها لبنان .
– أعمال العنف الموجهة ضد المسيحيين العراقيين والتي تجلت في اغتيالات طالت بعض رموز الطائفة الدينية والزمنية، وفي تفجيرات استهدفت بيوت العبادة وتهديدات وضغوط وجهت إلى مواطنين مسيحيين، بهدف حملهم على الهجرة، او التأقلم مع مشاريع سياسية تخص الطوائف والجماعات الطائفية والاثنية العراقية الأخرى .
إذ يعاني المسيحيون العرب من جراء هذه المصاعب والتوترات، فإن الذين يتتبعون أوضاع المنطقة عن كثب ويهتمون بمصيرها يدركون أن مشكلات المسيحيين العرب، على أهميتها وخطورتها، لم تعد محصورة فيهم تحديداً، بل إنها تجاوزتهم لكي تشكل جزءاً من المعضلات الوطنية والمجتمعية العامة وعاملاً في حرمان المنطقة من بعض عناصر تقدمها وتطورها على صعد كثيرة منها:
– إسهام المسيحيين العرب النشيط في تطوير المنطقة ونهضتها . وهذا الإسهام كان حصيلة عوامل كثيرة منها الحرص على الاستجابة الى التحديات التاريخية التي تمثل عادة أمام أبناء الاقليات الدينية والإثنية والسياسية، ومنها أيضاً فرص التحصيل العلمي والمعرفي التي أتيحت للمسيحيين العرب، نتيجة العلاقة الثقافية والدينية مع دول الغرب والصعود الذي حققته هذه الدول في العصر الحديث .
– فكرة التنوع الديني والإثني والثقافي الذي عرفته المنطقة منذ فجر التاريخ، والذي لبث مرافقاً للحياة العربية في شتى المراحل والعصور بحيث اعتبر من ميزات الحياة العربية ومصدراً لاعتزاز سكان المنطقة . ويشعر المعنيون بالتطور السياسي للمنطقة بفداحة تراجع هذا الطابع، نظراً إلى أن التنوع هو عنصر أساسي من عناصر التحول الديمقراطي فيها .
– فكرة الحداثة التي غدت خلال مرحلة النضال ضد أنظمة الحماية والانتداب والاستعمار ومرحلة الاستقلال، أساساً لمشاريع النهضة التقدم والإصلاح والديمقراطية والتنمية . ولقد اقترنت تلك الفكرة، إلى حد بعيد، بما مثلته الطوائف المسيحية في المنطقة، بسبب علاقتها بدول الغرب التي طرحت بوصفها نماذج عالمية لكل مشروع نهضوي .
كانت الفكرة التي ترددت على ألسنة المشاركين في هذا المؤتمر والذين جاؤوا من شتى الجماعات الدينية والأحزاب والفئات السياسية، أنه من الصعب إيجاد حلول سليمة وحاسمة لمشكلة المسيحيين العرب من دون العثور على حلول ناجزة للمنطقة كلها . تأسيساً على ذلك دعا كثرة هؤلاء المساهمين المسيحيين العرب إلى الانخراط في حركات ومبادرات الإصلاح في المنطقة، فلئن كانوا هم الطرف الأكثر تعرضاً للمتاعب، عندما تلم بمجتمع من المجتمعات العربية، فإنهم هم أيضاً الطرف الأكثر استفادة من انتشار أفكار المساواة والحرية والتقدم .