بقلم : سعيد لحدو
يغني السوريون، إن بقيت بعد فسحة للغناء، لجنيف 2 سراً وعلانية كما غنت فيروز يوماً لحبيبها البعيد: تعا… ولا تجي…واكذب عليي.. إلى آخر كلمات الأغنية. ذلك لأن هذا (الجنيف) وبأي رقم جاء، فقد أجمع المجتمع الدولي بأنه الوصفة الوحيدة الناجعة للحالة السورية. مع العلم أن المجتمع الدولي إياه لم يقم بأي جهد حقيقي وفعّال للبحث عن طريق آخر غير هذا الجنيف الذي كما يبدو لم يعد طريقاً يمكن سلوكه بيسر، وإنما ممراً إجبارياً للجميع وفي نهايته، إذا سلمنا جدلاً بأن له نهاية ما، لن يكون من الحكمة أن يركن السوريون إلى أحلام وردية وانبساط مروج خضراء واعدة. لأن (المكتوب من عنوانه بينقرا). ولأن عنوان هذا المكتوب واضح جداً. فهل يلام السوريون إذا ترددوا في التوجه صوب جنيف الفاقد لكل مضمون باستثناء هذا العنوان الملتبس والمغلف بألف إشكال وإشكال.
نعود إلى كلمات الأغنية التي تتابع: (واكذب عليي… الكذبة مش خطيي… وعدني إنو رح تجي.. وتعا… ولا تجي..).
هذه ليست أحجية يطيب للشعراء أن يتلاعبوا بالألفاظ ليظهروا براعتهم اللغوية… ولا هي درس في الحب لمن يرغب في تعلمه على كبر. إنما هي توصيف أقرب مايكون إلى واقع الثورة السورية والحال الذي وجدت نفسها فيه بعد كل هذه التضحيات بالغالي والنفيس من أجل بناء وطن لايشبه الحاضر بشيء.
لقد وثق السوريون بمن وضعوا أنفسهم في صف الأصدقاء، وتقبلوا منهم الدعم والنصيحة للانتقال بأقل الخسائر إلى الضفة الأخرى لحلمهم الوطني. وركنوا إلى قيم الأخلاق ومبادئ الحق والعدالة والضمائر الحية في المجتمع الإنساني لإنصاف الشعب السوري بما هو حق مشروع له. لكن الخذلان الكبير جاء من الأصدقاء قبل الأعداء. ومن أدعياء المبادئ والقيم والأخلاق قبل غيرهم ممن أشهر عداءه الصريح لكل هذه القيم والمبادئ قبل أن يشهره ضد الشعب السوري وإرادته الحرة. وهكذا يأتي طرح مؤتمر جنيف 2 في هذا الإطار من الكذب والنفاق والدجل الصريح لإيصال الثورة السورية إلى حالة من الإحباط واليأس العميق بحيث لايمكنها التقدم إلى الأمام، كما لن يجرؤ أحد بعد كل هذه التضحيات بالتصريح ولو تلميحاً بالعودة إلى الوراء والتنازل لهذا النظام الذي انتهك كل المحرمات، وهو ماضٍ بإجرامه غير المسبوق بحق الشعب والوطن. وهذا أسوأ وضع يمكن أن تجد ثورة نفسها فيه. في الوقت الذي يتصاعد الحديث على كل المستويات عن جنيف 2 وكأنه سيعقد غداً. لكنك حين تتأمل في معطيات هذا المؤتمر والعوامل الضرورية والشروط الموضوعية لنجاحه، ستجد نفسك مدفوعاً للاقتناع بأنه لن يأتي أبداً. وما هذا التأجيل المتواصل لكل موعد يحدد له إلا تخديراً موضعياً للجرح النازف في غياب أية معالجة حقيقية وفعالة للقضية برمتها. أو ربما غياب الإرادة الحقيقية لتلك المعالجة. على الأقل لدى تلك الأطراف التي تستطيع إذا أرادت أن تجد مايسكّن الألم ويطبب المرض في الآن ذاته.
لقد بات مؤتمر جنيف محور كل نشاط ومستقطباً لكل حديث. لكن هذا الموعود بالقدوم ليست له بعد أية ملامح تنم عن شخصيته، على الأقل في نظر السوريين. فرغم إعلان الأمريكان والروس عن (اكتشاف العصر) باتفاقهم على عقد جنيف 2. لكنهم ظلوا مختلفين على كل ماعدا ذلك العنوان العريض الملغم. فلا الموعد كان محدداً وثابتاً. ولا الأسس التي سيقوم عليها ولا الإطار الذي يمكن أن تجري المفاوضات ضمنه معلومة وواضحة، أقله في العلن أو للمعارضة السورية. ولا سقف زمني لكل ذلك. وهنا الخشية أن تستمر المراوحة سياسياً وميدانياً على أمل انتظار غودو الغارق في المجهول. ليحصل للسوريين كما يحصل الآن للفلسطينيين بعد اتفاق أوسلو. أو في أحسن الأحوال ماهو حاصل في لبنان من كانتونات شبه مستقلة ومتصارعة في كل حي وقرية لبنانية.
السياسة في النهاية تقررها مصالح الدول لا جمال الحبيبة أو الحبيب سواء جاء أم لم يأتِ.أما المصلحة الكبرى فهي للسوريين في إيقاف هذا العبث الجنوني من قتل وتدمير وتهجير للملايين. وإنهاء هذا الفصل الأسود من تاريخ حكم بغيض. ولكن السؤال الأهم هو: متى ستلتقي مصلحة السوريين هذه مع مصالح كل من قطر والسعودية وتركيا والإمارات وإيران وروسيا والاتحاد الأوربي وأمريكا وكل قريب وبعيد. وخلف أو وفوق كل هؤلاء إسرائيل، لإيقاف هذا الجنون الذي طال أكثر بكثير مما يحتمله بلد وشعب؟
لم يساورني الشك يوماً في قدرة الثورة السورية على الانتصار. ولكن تكاثر الأيدي القابضة على مقود هذه الثورة ضيَّع وسيضيّع علينا الكثير من الوقت الثمين الذي يدفع السوري اليوم ثمنه بالدم الغالي والتدمير لبلد أغلى. وحتى ذلك الحين سنغني مراعاة لمشاعر بعض الأصدقاء: تعا ولا تجي.