بقلم. سامي ابراهيم ـ آدو أورغ
برغم توافر العديد من الظروف الموضوعية التي مهّدت لقيام الثورة في سوريا من ميديا ووسائل اتصال نشرت الوعي بحقوق الإنسان والتحرر العقلي والتجرؤ على نقد المقدس الذي حطم دفاعات الإنسان رويدا رويدا ونزع صفة القداسة وجرّد أي موضوع من هالته وجعله موضع دراسة ومساءلة مقتحما التحريمات ومتحديا التخوينات، وتوحيد الرؤية لمستقبل مشرق حيث الرفاهية التكنولوجية هي التي تحقق العيش الرغيد، إلا أن السبب الرئيسي الذي أشعل لهيب نار الثورة السورية كان بنية النظام نفسها، فأهم مرتكزات الثورة السورية كانت انطلاقا من المشكلات والأزمات التي مابرح النظام يخلقها باعتباره نظاما فئويا مافيويا سيطر على مصالح بقية فئات الشعب وطبقاته.
لم يكن لهذا النظام القدرة على الاستمرار في احتكار السلطة وحكم البلاد لأنه وبسبب البنية المكونة له لم يستطع تطوير نفسه بما يتناسب مع وتيرة التطوير المتسارعة المواكبة لتقادم الزمن ليستمر في سلوكه التقليدي معتمدا البطش والطمس والإخفاء.
بنية الحكم الطائفية في سوريا كانت ولا تزال العقبة الأكبر التي وقفت في وجه تماسك البنية الاجتماعية السورية، وهي المسبب الأهم لهذا الانهيار المريع والتفكك والتشرذم الاجتماعي والأمني.
لكن ماذا يعني وسم الحكم بالطائفية في سوريا:
بدراسة متأنية وعميقة للثورة السورية نرى بأن طبيعة الصراع تُجسّد تضارب المصالح بين طبقة حاكمة صغيرة (مكونة من جميع الطوائف) مُسيطِرة ومُستبِدة وبين طبقة محكومة تمثل ملايين الشعب (مشكلة أيضا من جميع الطوائف) مُسيطَر عليها، أرادت التحرر من طغيان واستبداد تلك الفئة لتقمع تلك الفئة الحاكمة بقية فئات الشعب وطبقاته وتحصد عشرات آلاف الأرواح.
لا، لم يكن طرفا الصراع في سوريا طائفتين متناحرتين، فمنطقيا لا يمكن لأي طائفة أن تملك المقومات والعوامل والمرتكزات لتشكل وحدها طبقة حاكمة قادرة على التحكم بمؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية والثقافية والتعليمية والاجتماعية، لكن الذي حدث أن إفرازات لمصالح طبقية-طائفية توحّدت في هيئة شكّلت النظام الحاكم أو الطبقة الحاكمة.
وبالمقابل لا يمكن لطائفة وحدها أن تقوم بالثورة، فلا توجد طائفة تسمى الطائفة الثورية أفرادها يحملون الأفكار الثورية التنويرية التحررية وأخرى قمعية يمارس أبناؤها القمع والقتل، وعلى الرغم من أن الصراع في مناطق سورية معينة أخذ شكلا طائفيا أراده النظام وحاول إظهاره كأنه صورة للحراك الثوري في سوريا لكن تطور الوعي لدى الشعب السوري قطع الطريق على هذا الطرح وأفشل هذا المشروع.
لافرق بين طيار علوي وآخر سني أو قائد دبابة درزي وقائد مدفعية مسيحي يقصف المدن والقرى، لا فرق بين رئيس وزراء ووزير دفاع سني أو رئيس مخابرات علوي أو وزير اقتصاد مسيحي أو رئيس فرع أمني درزي أو رجل دين كردي طالما أن الجميع يتكاملون ليشكلون بنية الطغمة الحاكمة.
…………………………..
لا شك أن مظاهر أسلمة الحراك الثوري السوري وتسمية كتائب الجيش السوري الحر بأسماء ذات مدلولات دينية قد تبدو مخيفة للطوائف والأقليات، لكن أليس جزء كبيرا من هذه المظاهر هي ردة فعل سياسية حملت الطابع الديني على سنوات مثقلة بالقهر والقمع الذي مارسته مؤسسات النظام الأمنية.
كان لابد لواقع أليم يعيشه السوري الآن من قتلٍ وقصف وقنص واختطاف ونهب وسرقة وجوع وبرد وتهجير وشح في الوقود والدواء وانعدام الكهرباء وقطع الاتصالات وتخلّ كامل من المجتمع الدولي، كان لابد لهذا الواقع من أن يفرض ويعمّق الحالة الدينية التي أصبحت الملجأ الوحيد الذي يهرب إليه السوري، بما يحمله الفكر الديني من تمنيات وأحلام لطالما كانت الأساس في نشوء المنظومة الدينية التي وجد فيها الإنسان البائس والشقي ضالته واستطاعت هذه المنظومة لحد ما أن تلبي حاجات الإنسان وتشبع دوافعه، وبالتالي تقود سلوكه وتوجهه وتفرض عليه سلطتها.
لم يجد السوري الآن لتفريغ عواطفه في رفض الواقع الأليم الذي يعيشه سوى الحالة الإيمانية الغيبية، ومن أبرع من الدين في جعل الموت حياة، والشقاء سعادة، والنفي إثباتا.
لكن مع بزوغ فجر الحرية وتوقف القتل وعودة المهجّرين وبناء سورية جديدة وزراعة أراضيها وجني مواسمها وتوزيع عادل للثروة وفرص عمل للجميع سيندحر شيئا فشيئا التيار الديني ذاتيا، لأنه لن يبقى المتنفس الوحيد للمشاعر والدوافع.
……………………………..
كانت نتائج الطائفية التي رسخها النظام كارثية على المجتمع السوري:
· بسبب البنية الطائفية التي أسس لها النظام خلال أربعين عاما تحولت الساحة السورية مختبرا أساسيا لقدرة القوى الإقليمية والعالمية في التحكم بطوائف ومكونات المجتمع السوري المختلفة.
· سلطة استبدادية لمدة أربعين عاما بوجه طائفي-طبقي واضح المظهر، بحيث كان على السوري أن يولد ويعيش ويعمل ويتزوج ويموت طائفيا.
· يجب أن تكون مرجعية أي سوري بالضرورة إحدى الطوائف الكثيرة التي ينتسب إليها وبذلك تحول الشعب السوري وبفضل هذا النظام إلى شعب طائفي بامتياز.
· الطائفية المذهبية جعلت رجال الدين هم الوجهاء الأساسيين لأي مكون من مكونات الشعب وأعطيت لهم أرقى الدرجات في هرمية السلطة والمجتمع، هم يخططون، يقررون، يفاوضون، والرعية تنفذ، هم الممثلون لإرادة الله والحاكم بأمره.
· عمد نظام الاستبداد على تضخيم قوة رجال الدين لدرجة أنه في بعض الأحيان كان بالإمكان أن يتدخل رجل الدين لفك أسر معتقل سياسي من أبناء الطائفة، وذلك لإبقاء أبناء الطائفة الواحدة أسرى سلطان وجبروت مشايخهم ورجالات دينهم.
· توزيع المناصب الإدارية يتم على الدوام بشكل طائفي بحيث أصبح عرفا لدى الشعب بأن المنصب المعين سيكون من نصيب الطائفة المحددة.
· نظام الاستبداد الطبقي-الطائفي في سوريا جعل أي عملية تحسين اقتصادية لأوضاع وأحوال الأفراد ذوي الدخل المحدود والطبقات الدنيا تتم مع المحافظة على الفوارق الشاسعة وحدود الطبقات التي تقسم المجتمع وتشكل سدا منيعا بين طبقات المجتمع العليا والدنيا، ليبقى الفقير فقيرا ويزداد الغني ثراءً.
· الانتماء القومي لمكونات الشعب السوري بما يحمله من انتماء حضاري ولغوي وثقافي يجب أن يُحدَّد حصرا عبر الانتماء الطائفي ويتم التعامل معه على أساس مصلحة الطائفة. وبالتالي سحق وطمس أي مدلول قومي للمكونات الأصيلة للشعب السوري.
· كل المفاهيم والمدلولات السياسية والاجتماعية والثقافية يمكن لها أن تتغير إلا المفهوم والمدلول الطائفي فهو مقدس إلهي مطلق غير قابل لأي تغيير أو تعديل.
· في ظل التفكك الداخلي السوري والانهيار الأمني والاقتصادي تم إنشاء لجان وتجمعات داخلية وربطها بطوائفها الخاصة. وتم التشديد على دور التماسك الطائفي في توفير الحماية للأفراد وفي تحقيق المكاسب على بقية الطوائف.
· المثير للسخرية هو أن أكثر من يخيف الشعب السوري من التقسيم الطائفي والدويلي المذهبي هو النظام نفسه! فمنذ بداية الحراك لم يكن لأزلام النظام وأبواقه الإعلامية إلا قصة الطائفية وتقسيم سوريا على الأساس الطائفي لدويلات وضرب الوحدة الوطنية، ووصف الثوار على الدوام بالوهابيين (الوهابية مذهب ديني) والسلفيين (خلفية دينية) والتكفيريين (لاحظ الخطاب الطائفي).
· نظام الاستبداد لجأ إلى تفريغ المفهوم الوطني السوري الجامع لدى أبناء الشعب السوري بمقابل ترسيخ البعد الطائفي وتعميقه، وما ندوات التسامح والتآخي الديني التي كان تقيمها المراكز الثقافية الدينية بأوامر وتوجيهات الأفرع الأمنية إلا ترسيخا وتعميقا للبعد الطائفي.
· إقصاء الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني بوجهها العلماني كان الخطوة الأبرز لترسيخ هذه الطائفية.
ثورة الشعب السوري هي ثورة شعب نهض ليكسر قيود الطائفية المقيتة التي كبّلنا بها نظام الاستبداد، هذه القيود والعوائق التي شلت المجتمع السوري عشرات السنوات، خلّفته وأعادته إلى عهود الظلام والطبقية ولطالما كانت تهدد تاريخه الثقافي والحضاري لتسجنه خلف قضبان التطرف الأعمى الذي يقصي من يريد ويحرم مايريد ويشرعن لمن يريد.
ثورة الشعب السوري هي ثورة شعب بجميع طوائفه، شعبٌ مستلبٌ سياسياً واقتصادياً، تحرك موجوعا من آلام القهر والظلم والفقر والاضطهاد، وحّدته آلام عشرات السنين التي عاشها في الذل والرق والجوع، ليهدم جدران السجون ويمزق أغلال العبودية، ليشيّد مجتمعاً جديداً لطالما حلم به شعب سوريا، وليعيش حاضراً ومستقبلاً تتحقق فيه الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة والتوزيع العادل للثروة وتكافؤ الفرص.