دمشق ـ عمر قدور
(المستقبل:13/1/2013) حال الكثيرين من السوريين أنهم كانوا سيتابعون الخطاب، مع استبعادهم لاحتوائه على أي اختراق أو مفاجأة تستحق المتابعة، هذا إن توفرت الكهرباء. وكانت العادة قد جرت على أن توفر وزارة الكهرباء التيارَ للجميع في أثناء الخطابات السابقة، لكنها هذه المرة لم تفعل، فخذلت حتى أولئك الذين وطنوا أنفسهم على الاستمتاع بالطاقة وحسب، وربما متابعة برامج ترفيهية على محطات تشاطرهم عدم الاهتمام بالخطابات.
بالطبع ليس ثمة إحصائية عن المناطق المحرومة من الكهرباء وقتَ إذاعة الخطاب، إلا أن التقديرات تؤكد تجاوزها لأكثر من نصف سوريا، وفي الطليعة منها المناطق المحررة التي لم يرَ قسم كبير منها الكهرباء لمدة طويلة. أي أن نسبة كبيرة من المجتمع الثائر، الذي يُفترض بأن الخطاب (الحل) موجه إليه، لم يكن قادراً على متابعة رئيس النظام، والتثبت من وجوده فعلاً أمام حشد من أنصاره في دار الأوبرا. فيما بعد، قد يسمع البعض منهم بأن الحضور هتفوا مع انتهاء الخطاب بعبارة "شبيحة للأبد"، ربما في دلالة بعثية مستحدثة على معنى الأوبرا.
وربما يكون الاستمرار في قطع الكهرباء في أثناء الخطاب جزءاً من سيناريو الأخير، فرأس النظام أشار في خطابه إلى مسؤولية المعارضة المسلحة عن قطع الكهرباء تحديداً، ولم يكن من اللائق انسجاماً مع إشارته أن تتوفر الكهرباء لساعة واحدة فقط. ذلك يقتضي أيضاً تناسي السوريين لأزمة كهرباء عمرها عقود، لم يستطع في أثنائها النظام حلها جذرياً، مع أن كتبه المدرسية واظبت على تلقين الطلاب أن إيصال الكهرباء إلى البيوت من منجزاته العظيمة، وكأن البشرية عموماً في عوز أو كأن الكهرباء امتياز بعثي صرف.
بعبارة أخرى؛ لا يرى النظام أن توفير الكهرباء، أو أية خدمة أخرى، من بديهيات وجوده، بل يراها منّة له على السوريين، لذا لا يرى في انقطاعها أزمة له. أما الإشارة إليها في الخطاب فمن المرجح أنها إنذار أو تهديد جديدان، إذ يمكن ترجمتها وفق الخبرة السورية بعزم النظام على زيادة الأزمة متذرعاً بـ"العصابات المسلحة"، وهذا التهديد يطال جميع الخدمات الأخرى، وقد تمت ممارسته فعلاً على الأرض بالحصار الخانق على المناطق المحررة، فضلاً عن الأزمات الخانقة التي تعاني منها المناطق الأخرى بما فيها تلك التي تُحسب مؤيدة له.
في الأصل لم يقدّم النظام نفسه يوماً بوصفه مسؤولاً عن حل الأزمات، ومن المؤكد أن اقتصاد الأزمات، إذا جاز التعبير، كان الأنسب له دائماً. فالسوريون يعزون، محقين، الكثير من الأزمات المعيشية إلى تدبير النظام، والقلائل فقط يصدّقون روايته القديمة الحديثة عن المؤامرة الكونية التي تتسبب بإفساد معيشتهم بدءاً من فقدان الطاقة وانتهاء بفقدان رغيف الخبز، وبالتأكيد مروراً بالتدني المخزي للأجور. كانت الذريعة الدائمة لتغطية الفساد العظيم هي أولوية دعم المجهود الحربي حتى على لقمة العيش، ومن ثم صارت الذريعة أولوية التصدي للمخططات الإمبريالية، وأخيراً أولوية القضاء على الإرهاب.
لم تنفع الثورة في زحزحة النظام قيد أنملة عن فساده، وما حدث هو العكس إذ تم اقتطاع جزء معتبر من الفتات المعيشي من أجل دعم حربه عليها. وباستعادة مقيتة وأكثر ابتذالاً لتجربة الثمانينيات راح النظام يدفع لشبيحته من الأموال التي كان ينبغي أن تُصرف على الخدمات أو على دعم بعض السلع الأساسية، فضلاً عن أن بعض الشبيحة الصغار باتوا يتقاضون جزءاً من أجورهم كسلع عينية يحتكرونها ويتاجرون بها. ومن المحتم استمرار الفساد على نحو أكثر فظاعة فيما لو استطاع النظام البقاء، فمن المعلوم أن ظاهرة الشبيحة نشأت أساساً إثر مواجهة الثمانينيات بين النظام والأخوان المسلمين، ويومها أيضاً أسّس كلٌّ من أركانه إقطاعية الفساد الخاصة به والمحصنة تجاه أية مساءلة. أما اليوم فتبدو الثمانينيات أقل رحمة مما يحدث ومما سيحدث، لأن النظام تجاوز نفسه بأشواط على صعيد القمع والفساد، وتجاوز نفسه خصوصاً على صعيد انحطاط النخبة الأمنية واستشراء التشبيح وظهوره الفاجر، إذ لم يكن متوقعاً من الطاغية الأب في أحلك لحظاته أن يأذن لرجالاته بالهتاف: "شبيحة للأبد". لنتذكرْ أن نزوله الأخير إلى ساحة الأمويين، قبل أشهر، انتهى أيضاً بترديد مؤيديه للهتاف ذاته، أي أن أحطّ أنواع البلطجة صار عقيدة رسمية للنظام.
قد يكون الأمر مختلفاً من جهة الخارج، وبخلاف السوريين قد يكون هناك من انتظر الخطاب بشيء من الجدية، ولا ريب في أن محطات التلفزة التي استعدت لبث الخطاب، واتفقت مع محللين سياسيين وممثلي جهات سياسية، قد عادت بحصيلة متواضعة جداً قياساً إلى جهود إعلامييها. وبالتأكيد ليس من شأن الإعلام أن يتجاهل ما يصدر عن نظام يتهاوى، فهذه فرصة حظي بها الطغاة السابقون وهم يتساقطون بفعل الربيع العربي، وفي كل مرة كانت الحصيلة تافهة بالمقارنة مع الهالة التي كانت للطغاة من قبل، وانشغل العديد من المحللين بقراءة ملامح الإنهاك أو السقوط على سيميائهم لأن ما قالوه لم يكن يسترعي الانتباه. لقد أثبتوا جميعاً صغرهم حتى قياساً إلى المعنى العميق للديكتاتورية، ولم يكن ظهورهم الأخير سوى فرجة تمنح المشاهد مادة للسخرية أو الشماتة. باستثناء الخطاب الأخير للطاغية التونسي تفنن الباقون في قول ما لا يريد أحد سماعه، وكأنهم يزجون ساعاتهم الأخيرة بألاعيب لفظية عفا عليها الزمن، مع إضافة تهديدات وبذاءات تمتح من حفرة السقوط ذاتها.
ستزداد المفارقة إضحاكاً إذ يتساءل رأس النظام عن الثورة، نافياً وجود مثقفين وقادة لها، لا لأنه بهذا لا يعترف بوجود شعب ينتفض بلا إشارة من "النخب"، بل لأن هكذا نظام لا يستدعي للثورة عليه وجود مثقفين أو قادة تاريخيين. إن نظاماً خارج الثقافة بمعناها الإنساني الواسع لا يحق له التساؤل عن ثقافة الثائرين عليه، لكن الهوة تزداد اتساعاً عندما نأخذ بالحسبان مقدار الوعي الذي أظهره السوريون في الثورة قياساً إلى نظام لم يعد يحق الادّعاء بتمثيلهم تماماً لأنهم أعلى منه بكثير. الأمر تجاوز حقاً مسألة المشروعية السياسية وحتى الأخلاقية؛ إذ لم يعد جائزاً ضمن أي معيار ثقافي أو إنساني شامل أن يحكم هذا النظام، وإلا كان لزاماً على البشرية كلها أن تولّي سفهاءها.
كان يمكن النظر إلى الخطاب كمزحة ثقيلة، لولا عشرات الآلاف من الجثث التي تُلي فوقها، ولولا أن طاغيةً مهرجاً كالقذافي لم يعد مسلياً في طوره الأخير. ثم إن هذا الحد من التسلية كان يقتضي توفر الكهرباء ومتابعة الخطاب بالبث الحي، وإن كان في الأصل مسجلاً كما تقول بعض التكهنات، لأن متابعته في الإعادة أشبه بمشاهدة مباراة منعدمة المستوى عُرفت نتيجتها سلفاً. على ذلك كان من الأنسب بث هذا النوع من الخطابات على المحطات الوثائقية فقط، إذ لا معنى لكلمة Live أو مباشر هنا، باستثناء أن المعني لا يزال يباشر مهمته في القتل. فيما عدا ذلك يبدو الخطاب كأنه يرجع إلى زمن سحيق تجاوزه السوريون والعصر، وليس مستبعداً أبداً أنه من زمن سبق اختراع الكهرباء!