08-05-2019
مضممون المحاضرة:
– مسالة الاقليات كانت لفترات طويلة من الامور المسكوت عنها قسرا او تكاذبا اجتماعيا.
– لايمكن تحديد موقف واحد وموحد يعبر عن الاقليات حيال موضوع دولة المواطنة.
– علينا الانطلاق من الواقع ومعطياته كما هو لا كما نرغب ان يكون.
– إن المحتوى الحقوقي للمواطنة هو المحدد الاهم في القضية.
– إن تبنّي وإدراج المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الأفراد والجماعات في أيّ دستور مقبل للبلاد هو ضرورة ملّحة لحلّ مسألة التعدّد القومي والديني والثقافي في سوريا.
– إن الإطار الدستوري والقانوني هو الذي يحدد مستوى وقابلية الاندماج الوطني في أيّة دولة.
https://www.youtube.com/watch?v=Ei2ZG6sLc9E&t=537s&fbclid=IwAR0gHMeIiH51–5yubyRJmXgPj99fcad-tdwugFQ9hPCTbCQLFKSB1ykE4o
فيما يلي ننشر لحضراتكم نص المحاضرة التي قدمها الاستاذ كرم دولي عضو المكتب التنفيذي للمنظمة الاثورية الديمقراطية في ( ندوة وطن ) بدعوة من ” مشروع وطن للحراك المدني ” الذي ينظم ندوات دورية ، عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي، بهدف تفعيل وإنضاج حوارات بين السوريين حول مختلف الموضوعات.
السيدات والسادة الافاضل تحية طيبة لكم جميعا
بداية أود أن أقدم شكري لإدارة “مشروع وطن للحراك المدني” لمنحي هذه الفرصة للحديث مع حضراتكم حول ” موقع الاقليات في دولة المواطنة ” في محاولة لنقل هذا الموضوع من حيز الهواجس في الدوائر الصغرى، الى حيز النقاش العام في المستوى الوطني، وذلك استندادا الى مجموعة من المبادئ والمفاهيم والحقوق، وأيضا في سياق مشروع لرؤية وطنية نسعى معا لان يتحقق حولها فهم مشترك، وأوسع اجماع وطني ممكن.
وقبل الخوض في محاولتي لطرح بعض الافكار والرؤى، لعله من المناسب ان اوضح لحضراتكم بعض النقاط:
موضوعنا اليوم اشكالي وذو شجون في هذا الشرق البائس، ومن الصعوبة بمكان الاحاطة به من كل جوانبه وتشابكاته ذات الطابع الإشكالي أصلا، باعتبارها موضوعات تحيلنا الى اسئلة الهوية والتاريخ وايضا باعتبار مسالة الاقليات كانت لفترات طويلة من الامور المسكوت عنها قسرا او تكاذبا اجتماعيا، وارتبط الخوض فيها لدى الكثيرين ولاسباب كثيرة، بتعابير من قبيل الشعوبية والانفصالية او الرجعية واللاوطنية او الما دون وطنية، وهي وفق هذا السياق اسئلة جديدة لم تاخذ حقها الكافي بعد من الحوار والانتاج المعرفي والبحث العلمي في سوريا والمنطقة عموما.
كما يهمني ان أوضح لحضراتكم بعض النقاط المتصلة بعنوان المحاضرة:
1- ساستخدم تعبير الاقلية بما يشير له من توصيف عددي لمجموعات قومية / اثنية، او دينية او مذهبية، أو كلاهما معا (و بمعنى الهويات الاولية المكتسبة بالولادة فقط). وليس استخدام تعبير الاقلية من باب الانتقاص من حضورها وقيمتها ودورها واصالتها، فجميع القوميات والاديان والطوائف السورية هي عناصر ومكونات تأسيسية في الكيان السوري الحديث أقله منذ منذ تاسيس الدولة السورية بعام 1920، وهي تشكل جزء اصيلا وتكوينيا ايضا من البنيان الثقافي والروحي والاجتماعي والاقتصادي في سوريا، لكنها فقط اقل عدديا بالمعنى البيولوجي ، وايضا لانه مصطلح باتت له دلالته القانونية والسياسية والاجتماعية بحسب ما هو وارد في النصوص الصادرة عن بعض الهيئات الدولية المعنية، كلإعلان العالمي لحقوق الانسان وغيره، رغم ان بعض الدساتير تستخدم تعابير كالقوميات الصغيرة للدلالة على الاقليات القومية.
2- باعتبار ان الاقليات بالمعنى المذكور لا تشكل نسقا سياسيا متجانسا، بل تنطوي على تعبيرات ومواقف وايديولوجيات تكاد تختزل معظم الطيف السياسي الوطني خارج حدود هوياتها، فانه والحال هذه لايمكن تحديد موقف واحد وموحد يعبر عن الاقليات حيال موضوع دولة المواطنة. لذلك فما أقدمه اليوم لا يعكس بالضرورة أكثر من تعبير سياسي ضمن العديد من التعبيرات السياسية ضمن المشهد السوري، وأقصد هنا المنظمة الآثورية الديمقراطية التي اعتمد أدبياتها باعتباري عضوا فيها .
3 – في عرض الرؤية لدولة المواطنة المنشودة علينا ان لا نقفز فوق واقعنا السوري بما يتعلق بموضوع الاقليات وما لحق بهم تاريخيا. وايضا فوق حقيقة وجود صراع هويات يتجلى حاليا عبر تهتك واضح في النسيج الاجتماعي السوري وبعمق الفجوة وارتفاع مستوى الخوف من الآخر، وهشاشة الرابطة الوطنية السورية، كما يجب ان لا ننسى بان مشكلة الأقليات وقضية التنوع القومي والديني ليست مشكلة ذات جذورتاريخية في سوريا فحسب، بل هي حاضرة وإن بنسب متفاوتة عبر مسار المئة عام الاخيرة والتي تجلت بفشل قيام الدولة الوطنية الديمقراطية. لذلك يجب علينا الانطلاق من الواقع ومعطياته كما هو لا كما نشتهي ان يكون في مسعى لضمان إدارة واقعية لمسألة التنوع وعبر مسار وطني قد يفضي مستقبلا الى تشكل هوية وطنية متصالحة مع ذاتها ومع مكوناتها ومع معطيات الماضي والحاضر ومتماسكة أمام رهانات المستقبل.
4 – يجب ان لا ننسى عند الحديث عن مبادئ العدالة والمساواة والمواطنة والحرية والكرامة الانسانية أن ذلك الفرد المنتمي لاقلية ومجازا الفرد (الاقلوي ) هو شخص لم يختر هويته القومية ولا عقيدته الدينية، وكنتيجة، فان فهما أعمق للذهنية الاقلوية وما تشترك به بنسبة عامة من سلوكيات وتوجهات وهواجس، وربما امراض، ليست مسؤوليتها وحدها بل هي نتيجة تفاعل تاريخي تراكمي ومعقد جدا، لا يمكن ان يكتمل فهمها إلا بدلالة السمات العامة لمواقف وسلوك الاغلبية، وعليه فان الخوض في مسألة الاقليات ومحور التنوع القومي والديني ( كموضوعة وطنية )، والسعي لطمأنتهم و لضمان حقوقهم هي ليست حكرا على ابناء الاقليات وحدهم، بل هي مسؤولية وطنية تقع على عاتق الجميع بامتياز.
نظرة الى مفهوم المواطنة:
المواطنة ببساطة هي علاقة حقوقية بين اعضاء المجتمع فيما بينهم من جهة وبينهم وبين السلطة من جهة اخرى. والمواطنة بحد ذاتها ليست منظومة مبادئ وقيم وحقوق قادرة دائما على تلبية كل الشروط ان كان في المستوى الحقوقي ،او في المستوى السياسي الاجتماعي والذي يتعلق بالمشاركة السياسية وفي عائد التنمية، او حتى في المستوى الرمزي المعنوي القائم على معاني الانتماء والارتباط بالوطن.
فمثلا وفق دستور الجمهورية العربية السورية، يعتبر جميع حاملي الجنسية العربية السورية مواطنين، وعليه لا يمكن نفي صفة المواطنة عن المسيحي مثلا، ولكن درجة مواطنته هي جوهر المشكلة .
من هنا فإن المحتوى الحقوقي للمواطنة هو المحدد الاهم في القضية، وهذا المحتوى يتعلق بتعريف الفرد الذي يعيش على أرض هذه الدولة، فهذا الفرد لا يعرف بمهنته أو بدينه أو بجنسه أو بقوميته، وإنما يعرّف تعريفا قانونيا اجتماعيا بأنّه مواطن، أي عضو في المجتمع له حقوق وعليه واجبات، وشرط المواطنة الكاملة هو المساواة التامة في الحقوق والواجبات وأمام القانون.
المواطنة وحقوق الإنسان:
لقد طور المجتمع البشري في العصر الحديث منظومة قيمية وحقوقية باتت معيارا للانتساب الى هذا العصر، ومعيارا لقياس الحرية والمساواة وبقية الحقوق الاساسية ، وعليه فإن المواطنة في دولتنا المنشودة يجب ان تتطابق في محتواها الحقوقي والقيمي وفي أليات تنظيمها وإنتاجها مع المنظومة الدولية لحقوق الانسان. وانطلاقا من هذا التلازم الجدلي بين حقوق الإنسان وحقوق المواطنة، يصبح النضال من أجل المواطنة، هو نضال في نفس الوقت من أجل تثبيت حقوق الإنسان كما وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية التي جاءت بعده وأهمّها العهدين الدوليين لعام 1966 وإعلان الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام 1992 الخاص بحقوق الأفراد المنتمين للأقليات القومية والدينية.
إن ما يسري على حقوق الأفراد يسرى على حقوق الجماعات، وفق ما جاء في المواثيق الدولية لا سيّما المتعلقة منها بحقوق الأشخاص المنتمين إلى الأقليات والشعوب الأصلية التي لحظت أهمية صون حقوق الجماعات خصوصا في الدول ذات التعدّد القومي والديني والثقافي واللغوي، وعليه فإن تبنّي وإدراج المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الأفراد والجماعات في أيّ دستور مقبل للبلاد بحيث تشكل جزءا عضويا وأساسيا منه – وليس كنوع من الترف القانوني- هو ضرورة ملّحة لحلّ مسألة التعدّد القومي والديني والثقافي في سوريا، حلاّ وطنيا ديمقراطيا عادلا ضمن إطار وحدة سوريا أرضا وشعبا.
بناء على ما سبق وباعتبارأن الأسس والمبادئ والقيم التي أوردتها هي منظومة قيمية وحقوقية وقانونية عالمية، تتكرر العديد من مفرداتها في الادبيات السياسية السورية، فانها بالنتيجة يجب أن تمثل الاساس الذي يجب أن تبنى عليه الدولة الوطنية الحديثة التي تنتمي إلى قيم العصر، وعليه يبرز السؤال الاساسي : أية دولة و أية مواطنة ننشد؟
وهل تلبي دولة المواطنة وفق ما يتفاعل في الفضاء السياسي السوري اليوم جوهر المواطنة وفق المحتوى المذكور؟
لن اخوض في العديد من الاسس والمبادئ التي توافق عليها السوريون في العديد من المؤتمرات والتكتلات السياسية، لكني سأركز هنا على النقاط التي لا تزال ذات طابع إشكالي على مستوى الرؤية للدولة المنشودة، وهي تتعلق في جوهرها بأسئلة الهوية للدولة والشعب، و بثنائية المدنية والعلمانية وموقع الدين في الدولة، و اخيرا حول حقوق الافراد فقط ، ام حقوق الافراد والجماعات.
أولاً: حقوق الافراد والجماعات/و سؤال الهوية والاندماج :
إن الإطار الدستوري والقانوني هو الذي يحدد مستوى وقابلية الاندماج الوطني في أيّة دولة. فإذا بني على أسس العدالة والمساواة والشراكة واحترام الهويات والخصوصيات، وقبل هذا وذاك على المواطنة الكاملة، فإنّ هذا كفيل بتحقيق الاندماج الوطني والتماهي في النظام السياسي الحديث. ويعتبر الالتزام الدستوري بإدراج حقوق القوميات أو الإثنيات من مؤشرات الدول العصرية التي تضمن للأقليات حقوقها الجماعية الثقافية والسياسية, وفق ما جاء في شرعة حقوق الإنسان وملحقاته المعنية بالموضوع. ويعتبر هذا الاعتراف الدستوري، المكمل الحقيقي لمبدأ المواطنة المتساوية بين الأفراد والجماعات. كما يعتبر هذا الإقرار الدستوري تجاوزاً للانقسامات والمخاطر المحتملة ضمن سورية المستقبل.
من هنا فإن الدولة ذات التعدّد القومي والديني والثقافي يجب أن تنأى بنفسها عن أن تكون ملكا لجماعة قومية بذاتها، أو لدين بعينه، وعليها أن تنبذ سياسات الاستعلاء والاحتكار، أو فرض هوية واحدة على الجميع، واستبعاد الجماعات والأقليات الأخرى. وعليها بدلا من ذلك القبول بأن يكون المواطنون متساوون بالكامل في الحياة السياسية من دون الاضطرار إلى إخفاء أو إنكار هويتهم القومية أو الثقافية أو الدينية الخاصة بهم.
إن احترام الدولة السورية باعتبارها وطنا نهائيا لجميع أبنائها، ينبغي ان يترجم بإعادة الاعتبار للرابطة الوطنية السورية وتنميتها وتعزيزها، والعمل على بناء هوية وطنية سورية جامعة، تنهل من حالة التعدد القومي والديني والثقافي التي يتصف بها المجتمع السوري، هوية وطنية عصرية تتجاوز حالات الانقسام المجتمعي سواء على أساس قومي أو ديني أو طائفي أو مناطقي، كمدخل لا بد منه لمعالجة الخلل والشرخ الكبير في الرابطة الوطنية، وتحويل حالة التنوّع إلى عامل غنى وثراء وطني، بدلا من أن تكون عامل تمزيق للهوية السورية ومهدّد لوحدتها الوطنية, وهذا يستدعي من الجميع رفض كلّ أشكال التعصّب والتطّرف والاستعلاء القومي والديني، والعمل على إشاعة ثقافة المواطنة والاعتدال والتسامح والقبول بالآخر، وجعل الحوار قاعدة أساسية للعلاقة بين مكونات المجتمع والتيارات السياسية والفكرية المختلفة، كما تفرض على القوى السياسية القومية والدينية التحلّي بالواقعية، والتخلّي عن أجنداتها ومشاريعها المثالية التي تحيل البلاد إلى مجرّد قطر أو ولاية في منظومة متخيّلة لا تجد صدى لها في الواقع، وعليها الانصراف إلى بناء دولة ديمقراطية حديثة قادرة على تحقيق الرّفاه والازدهار لمواطنيها، وقادرة على التفاعل والتكامل مع محيطها الإقليمي والمجتمع الدولى وفق سياقات عصرية ومتطّورة تلبّي مصلحة شعبها ومصلحة الوطن عموما .
– إن مجرد القول بهوية سورية وشعب سوري كمسلمتين محددتين وناجزتين ربما ينطوي على قدر من النخبوية والمثالية والرغبوية أكثر من قدرته على عكس الواقع الحالي الذي يجسد خلاصة لمسار تاريخي اشكالي – في اكثر تعبير حيادي يمكن أن يصفه- كما أنه يفترض ضمنيا وجود بيئة وشروط موضوعية مناسبة لانضاج هوية اندماجية جديدة ليست متوفرة لا حاليا ولا في المدى المنظور، وهو بالقدر الذي يمثله – كطموح مستقبلي علينا العمل جميعا العمل لتمكين ودعم مقومات نموه – فانه بقدر مماثل قد يكون عنوانا جديدا لاستمرار هيمنة جماعة بعينها على الفضاء العام المشترك ( أي الدولة ) بلبوس جديد، إذا لم يقترن بمبادئ دستورية تنطلق من تعريف سوريا كدولة متعددة القوميات والاديان، يقرّ دستورها بحقوق كافة المكوّنات القومية ، واعتبار لغاتهم وثقافاتهم لغات وثقافات وطنية، تمثّل خلاصة تاريخ سوريا وحضارتها. هوية متصالحة مع كامل المخزون الثقافي والروحي للمجتمع وعلى طول المسار التاريخي وبكل ما تخلله من اسهامات حضارية بعيدا عن اية رؤية ايديولوجية، بحيث ينعكس ذلك في اسم الدولة وعلمها ورموزها السيادية وإعلامها ومناهجها التعليمية وفي جميع المؤسسات التي تمثل الفضاء العام المشترك. وبالتالي تعريف الشعب السوري الواحد بالمعنى القانوني عبر الاعتراف الدستوري بمكوناته القومية، وضمان حقوقهم القومية وقدرتهم على المشاركة في القرار بعيدا عن مفهوم المحاصصة، بل عبر جملة من الآليات الخلاقة في المستوى التشريعي والإداري، وربما يكون اعتماد برلمان بغرفتين تتمثل في غرفته الثانية الاقليات بحيث يكون لها دور محوري في اجراء تعديلات دستورية تمس حقوقها وحرياتها بشكل مباشر( حيث يتطلب الامر حينها اغلبية الثلثين في غرفتي البرلمان)، أحدى الآليات التي تستحق الاهتمام. أما في المستوى التنفيذي فإننا ندعو الى تبنّي نظم حديثة، وفي مقدّمتها النموذج الفيدرالي، والتفاعل معه بإيجابية، وبما يضمن تجاوز مساوئ النظام المركزي الذي غذّى على مدى عقود، نزعات التسلّط والاحتكار والاستئثار في الحياة العامة، وبما يضمن توزيعا عادلا للسلطات والثروة، ويعزز العملية الديمقراطية، وتوسيع نطاق المشاركة، والإسهام في تحقيق الإنماء المتوازن لكافة المناطق في سوريا، على أن يتمّ ذلك في مناخات يسودها الاستقرار والقدرة على التعبير عن الإرادة الحرّة لكلّ السوريين.
–
ثانياً: النظام السياسي المنشود بين الدولة المدنية والعلمانية:
لقد تبنّت معظم قوى المعارضة وتياراتها الفاعلة، مصطلح الدولة المدنية الحديثة، كنوع من الهروب من مفهوم العلمانية، وتحاشت أي ذكر للعلمانية، ربما مراعاة للتيارات الإسلامية التي يرى بعضها في العلمانية معادلا للكفر والإلحاد. ولم تجهد هذه القوى نفسها في توضيح وتحديد ملامح ومقوّمات الدولة المدنية بالشكل المطلوب. بدورها القوى الإسلامية قدمت تعريفات مختصرة للدولة المدنية شابها الغموض واللبس، حيث رأى البعض في الدولة المدنية كاستمرار لدولة الرسول في المدينة المنوّرة واعتبرها أساسا للحكم والقياس. فيما رأى البعض الآخر بأنها الدولة التي لا يقودها رجال الدين ولا يحكمها العسكر. وآخرون عرّفوها بأنها دولة تحترم كل الشرائع السماوية، فلا تلزم غير المسلمين بشريعة الأغلبية، بل تحترم حقهم في تطبيق شرعهم الخاص. أو دولة عموم المواطنين، لكن لا ولاية فيها لغير المسلم على مسلم، ولا للمرأة على الرجل. إنّ هذه الرؤى لم تنجح في تبديد الغموض الذي اكتنف مصطلح الدولة المدنية خصوصا من منظور القوى الإسلامية، بل زاد من التوجس والمخاوف عند البعض، خصوصا لدى الأقليات، لأنّها لا تحقّق مبدأ المساواة بين المواطنين، وتكرّس التمييز فيما بينهم على أساس الدين، وما يحمله ذلك من مخاطر وتبعات على وحدة المجتمع الدولة.
إن فهمنا للدولة المدنية الديمقراطية الحديثة ينطلق من كونها دولة مستقلة ذات سيادة، دولة دستورية تمتلك دستورا وضعيا توافقيا يساهم في صياغته كافة القوى السياسية والمكونات الوطنية، وهي دولة عابرة للقوميات والأديان والمذاهب، وهي بهذا المعنى دولة كل المواطنين بغضّ النظر عن انتماءاتهم المختلفة، وليست حكرا لدين أو مذهب أو طائفة أو عرق أو أيديولوجيا أو حزب، هي الدولة التي تحترم العقائد الدينية ولا تعاديها دون أن يترتب على ذلك أيّة امتيازات. هي دولة الحقوق والواجبات ودولة المواطنة المتساوية وفصل الدين عن السياسة والدولة، السيادة فيها للشعب وتقوم على فصل السلطات وتسود فيها سلطة القانون على الجميع، وتعتمد الديمقراطية كنظام سياسي يقوم على التداول السلمي للسلطة عبر انتخابات نزيهة.
وفق هذه الرؤية فإن مفهوم الدولة المدنية لا يتعارض ومفهوم العلمانية، بل يتقاطع معه إلى درجة التطابق. لهذا لا نجد مبرّرا لاستبدال مصطلح العلمانية بالمدنية، ونرى في ذلك نوعا من الالتفاف والتهرب من الالتزامات الواضحة التي تستوجبها القيم العلمانية، تحقيقا لغايات يخفيها البعض من وراء التلطي والتمسّك بمفهوم الدولة المدنية.
ونرى في العلمانية والديمقراطية شرطان متلازمان، لا يمكن أن يتحقق أحدهما بمعزل عن الآخر. والنظام الديمقراطي العلماني يوفر حريات واسعة لكل الأديان، ويمنع التمييز الديني والطائفي واضطهاد الأقليات والمرأة، ويمنع استغلال الدين وتوظيفه من قبل السلطة أو التيارات السياسية المتنافسة لأغراضهم الخاصة، ولا ننظر إلى العلمانية باعتبارها عقيدة أو أيديولوجيا، وهي ليست معادية للأديان ولا تنتقص من قدسيتها، بل تهدف إلى تحديد مسافة فاصلة بين الدين والدولة، وأن تقف الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان، وتكفل للجميع حرية ممارسة دينهم وعقائدهم وطقوسهم دون فرض وصاية أو هيمنة من الدولة والمجتمع على أساس ديني. كما أن العلمانية ليست فلسفة إلحادية وإنما هي ترتيبات وإجراءات لضمان الحرية، وضمان حرية المعتقد والفكر. وأخيرا، ليس للعلمانية نموذج موّحد للقوانين والتشريعات، يتم تعميمها واستنساخها في كلّ دولة تأخذ بالنظام العلماني بل هي نظرية تسعى لأن تكفل لجميع المواطنين فرصا متكافئة، وتضمن لهم الحرية في الاعتقاد والفكر والتعبير وتتأثّر بثقافة المجتمع وهويته وموروثه الشعبي، ولها تطبيقات ناجحة في دول عديدة في الغرب والهند واليابان وماليزيا وتركيا وغيرها، وهي دول تعتنق ديانات مختلفة، والجوهر في كل هذه التجارب هو تحييد الدين عن السياسة ووضعه في مكانه ودوره المناسب والمحترم بين صفوف المجتمع ومؤسساته المدنية. وبمعزل عن نشوء وتطور المفهوم في الغرب، فإنه أضحى قيمة إنسانية عابرة للقارات والأجناس والأديان، ونجاح تطبيقه جعل منه صالحا للتعميم ما دام يخدم فكرة الحرية، وقيم التعايش الحرّ، وتحقيق الخير العام للمجتمع.
اخيرا ارجو ان اكون بما قدمته قد حققت الغاية المرجوة من الندوة وساهمت في تسليط الضوء على احدى الموضوعات الاشكالية، الأمر الذي سيحتاج بالتأكيد لافكاركم وملاحظاتكم القيمة ليكتسب المزيد من التماسك والنضج والقدرة على اخذ مكانه المناسب ضمن المشروع الوطني لسوريا المنشودة.
مع كامل المودة والتقدير.
كرم دولي