محمد علي الأتاسي *
كان (فرنسا)- القدس العربي >>> عندما وقف المخرج السوري أسامة محمد على منصة دورة مهرجان كان السينمائية الأخيرة حاملا صورة النائب السابق والسياسي السوري رياض سيف، مطالبا بالإفراج عنه وعن بقية معتقلي الرأي والضمير في سورية، فإن رسالته الوطنية كانت واضحة وصريحة: لن تنجح جنازير دباباتكم في سلبي حقي في إبداء الرأي. المخرج السوري لم يقف أمام عدسات كاميرات العالم ليقول: أنا أسامة محمد ابن الساحل السوري والمنتمي إلى الطائفة العلوية، أطالب بالإفراج عن ابن مدينة دمشق النائب رياض سيف المنتمي إلى الطائفة السنية.
أسامة محمد القادم مباشرة من دمشق، وقف على منبر المهرجان السينمائي الأهم في العالم ليقول: أنا المواطن السوري أسامة محمد أطالب بالإفراج عن أخي بالمواطنية نائب دمشق السابق رياض سيف. أسامة محمد وقف على منصة المهرجان وقرأ نصا ذكّر العالم فيه أن المتظاهرين السلميين في سورية قتلوا خوفهم ودفنوه مع أجساد شهدائهم، وأن القاتل خائف، وأن الخوف لم يقبل فكرة نهايته فجدد شبابه بمنشطات الخوف التي اسمها القتل.
وقف أسامة محمد أمام عدسات العالم ليوقع باسمه الشخصي هذه المرة على صفحة جديدة من كتاب استعصاء الثقافة السورية على محاولة التدجين السلطوية، والذي ضم بين دفتيه على مدى العقود الماضية محطات فردية وجماعية بالغة الدلالة والجرأة. الشاب أحمد البياسي الذي ظهر في شريط قرية البيضا وهو يضرب ويسحل ويداس بالبسطار العسكري، لم يجد هو الآخر في مواجهة الكذب الفاجر الذي أشاعته السلطة من أن الشريط صور في العراق، الا أن يقف بدوره أمام عدسة الهاتف الخليوي في ساحة القرية حاملا بطاقته الشخصية لا ليقول: أنا ابن قرية البيضا، التي تحاول السلطة أن تصورها على أنها إمارة إسلامية سلفية، ولكن ليقول: أنا المواطن العربي السوري أحمد البياسي.
أنا الذي ضربت وأهنت، في هذه الساحة وهذه القرية وهذا البلد وعلى يد هذه السلطة، أنا هنا لأشهد ولأطالب بحقوقي المغتصبة. أحمد البياسي وقف أمام عدسة الهاتف الخليوي ليوقع على مرأى من العالم باسمه الصريح على صفحة جديدة من صفحات مقاومة المواطنين السوريين السلمية والحضارية، لآلة القهر والاستبداد التي لم تنفك تمعن فيهم سحلا وتشريدا وقتلا.
بدوره لم يجد بشار الشعار والد الشهيد المعتز بالله الشعار، الذي قتلته قوى الأمن على مدخل ضاحية داريا أمام أعين والده وأخوته ومن ثم منعتهم من إسعافه وأجبرتهم على تركه ينزف حتى الموت، إلا أن يضع واحدة من الجرائد الرسمية السورية المؤرخة إلى جانب جثمان ولده ويجلس بجانبه ليروي قصة استشهاده أمام عدسة كاميرا الهاتف، بعد أن شككت السلطة، كما هي العادة، بقصة قتله وراحت أجهزة إعلامها تكرر اسطوانتها المشروخة عن الجماعات الإرهابية المسلحة.
بشار الشعار جلس أمام عدسة الهاتف الخليوي، لا ليبكي ولكن ليكشف الكفن الأبيض عن ابنه ويشير إلى العالم أن يرى مكان الطلقتين في جسد المعتز بالله. الأب لا يبكي، ولكنه كما نزع الكفن عن جسد ابنه، ينزع فجأة قميصه ويقف عاري الصدر والظهر أمام الكاميرا ليكشف لنا عن آثار الضرب الذي تعرض له من قبل عناصر الأمن لمنعه من اسعاف ابنه؟ الأب لا يبكي، ولكنه يعري جثمان ابنه ويتعرى أمام عدسة الكاميرا ليوقع بدماء الضحايا على وثيقة إدانة الجلادين والقتلة.
أما الطفل حمزة الخطيب ابن الـ13 عاما، الذي أعيدت جثته إلى أهله مشوهة بأبشع الأشكال ومصابة بثلاث طلقات ناريه، فلم يكن باستطاعة العين الإنسانية أن تنظر مليا إلى هول الصور التي وضعت على اليوتيوب لأشلاء جسد الطفل القتيل والتي تفوق طاقة البشر على الاحتمال، فاستعاض عنها الناشطون على الفيسبوك بصورة بورتريه لحمزة باسما ملؤه الحياة. وبهذه البسمة وقع حمزة على شهادة الوفاة الأخلاقية والإعلامية والسياسية لآلة القتل السلطوية.
ولأن ‘الصورة مقابل الصورة والخوف مقابل الحرية’، كما ذكر أسامة محمد في النص الذي قدمه في مهرجان كان، فإن السلطة في محاولتها الفاشلة لكسب المعركة الإعلامية وفي سعيها الدؤوب إلى تأبيد الخوف في قلوب السوريين، لم تجد أبشع من أن تستبيح من جديد أجساد ضحاياها وتعيد صناعة صورهم بالشكل الذي يوافق أكاذيبها الإعلامية، فإذا بالشيخ الضرير أحمد الصياصنة الذي استبيحت مدينته درعا ودنس مسجده، المسجد العمري، وقتل ابنه أسامة على باب منزله، يظهر أسيراً من على شاشة التلفزيون السوري، ويجبر أن يكرر رواية السلطة عن العصابات المسلحة ومخابئ الأسلحة.
وإذا بأحمد البياسي يطل من على ذات الشاشة السورية لا ليتحدث عن كيفية ضربه ومحاولة إذلاله في ساحة قريته، ولكن ليؤكد أنه حي يرزق ولينفي خبرا كان قد أشيع عن اعتقاله وقتله. أما الطفل حمزة الخطيب، فاقتيد أبوه وعمه لمقابلة رئيس الدولة، ليظهرا بعدها في ردهة القصر الجمهوري أمام عدسة التلفزيون السوري في مقابلة ممنتجة ليقولا فيها ان الرئيس غمرهم بلطفه وطيبته وان للرئيس مكارم كثيرة على الشعب وانه وعدهم بإصلاحات وانه قرر تشكيل لجنة تحقيق للوصول للحقيقة وانه عزّ عليه أكثر من ابنه! وتنتهي المقابلة الخاطفة على التلفزيون السوري بجملة معبرة لعم الشهيد حمزة يقول فيها: أكثر من هيك ما فينا نحكي!
لكن سورية تحكي اليوم. تحكي باسم أحمد ومعتز وحمزة. تحكي باسم الشهداء الأحياء منهم والأموات. تحكي القهر والظلم والقتل والشهادة. تحكي الشجاعة والكرامة والحرية والأمل.
يقف الشبان السوريون اليوم أمام عدسات هواتفهم الخليوية، متظاهرين في الأزقة والشوارع في مواجهة دبابات السلطة، لا ليصوروا موتهم المعلن، ولكن ليصوروا على مرأى من العالم أجمع استحالة إعادة الشعب السوري إلى مملكة الصمت والخوف التي تم سجنه فيها عقوداً طويلة. ما عاد الصمت موقفا، وسورية اليوم تحكي ويوقع المتظاهرون باسمها، على لافتات وشعارات تحض على سلمية التحرك وتنبذ العنف والفتنة الطائفية وتؤكد على وحدة الشعب السوري.
والجميل أن المتظاهرين السوريين، وفي ظل منع السلطة تغطية أجهزة الإعلام المستقلة لتحركاتهم وفي مواجهة سيل لا ينتهي من أكاذيب الإعلام الرسمي، باتوا يحملون في كل مظاهرة لافتات كتب عليها زمان ومكان التحرك الذي يقدمون عليه، ويحرصون على أن تلتقط كاميرات هواتفهم صور هذه اللافتات، حتى لا تضيع مظاهراتهم في زحمة أفلام اليوتيوب، وحتى لا تطغى عليها أكاذيب السلطة اللامنتهية.
وإذ كان الكذب في الحالة السورية عماده الشائعات ومكان صناعته الغرف المظلمة والمكاتب الأمنية والشاشات الصفراء، فإن الحقيقة عمادها الناس ومكان صناعتها المجال العام والمظاهرات وهتافات وشعارات الشباب في الشوارع. لقد أجهدت السلطة نفسها منذ اليوم الأول في الحديث عن الفتنة وفي الترويج لتهمة إطلاق شعارات طائفية في المظاهرات، ومن اليوم الأول للثورة السورية نادى الشباب بالحرية وبوحدة الشعب السوري ورفعوا الصليب والهلال من تحت قبة الجامع الأموي في إشارة رمزية لا تخفى على أحد، وأبدعوا في كتابة الشعارات السياسية التي تؤكد على مطالبهم الوطنية المشروعة وتعري بروباغندا السلطة.
لقد سبق للباحثة ليزا ويدن في كتابها المهم ‘السيطرة الغامضة’ الذي تناول عبادة الفرد في عهد الرئيس حافظ الأسد، أن حللت طبيعة السلطة الاستبدادية التي تستند أساساً في آلية اشتغالها إلى فرض الهيبة وزرع الخوف في قلوب الناس جميعا من دون استثناء، وهي في هذا لا يعنيها ما هو حقيقة رأي مواطنيها فيها، بقدر ما يهمها أن تصاغ العلاقات بينها وبين مواطنيها وفقا لمنطق الطاعة والإذعان. هذا الوضع خلق على مدى عقود طويلة حالة من الكذب الجماعي والنفاق المتبادل والخوف المعمم، أصبح فيها السلوك الخارجي للمواطنين محكوما بما تريده السلطة منهم أن يحترموه في أقوالهم وأفعالهم. أما دواخل الناس وقناعاتهم الحقيقية فلا وزن لها لدى السلطة ماداموا يستبطنونها، ويتصرفون في الحيز العام وفق رغبات وضوابط وطقوس السلطة. وهذا بالضبط ما تحاول السلطة اليوم تكراره من خلال إجبار الضحايا وأهاليهم أن يظهروا على شاشة التلفزيون السوري ليرددوا ما يحلو لها أن تسمع منهم، رغم أنها هي أول من لا يصدق حرفا من هذه الأكاذيب.
لكن السلطة في فعلتها هذه، إن خدعت أحدا فإنما تخدع نفسها أولا وأخيرا، فالشعب السوري شبّ على القيد وخرج من بحر الأكاذيب إلى برّ الحقيقة، ولا شيء، لا شيء أبداً، يمكن أن يعيده بعد اليوم إلى مملكة الذل والقمع والخنوع. إن سورية اليوم تستعيد صوتها ولغتها وهويتها، وهي توقع بدماء شهدائها وعذابات معتقليها وبطولات شبابها، توقع باسمها الصريح على الآتي: سورية الحرة إلى الوجود والاستبداد إلى الزوال.
* كاتب من سوريا