02-03-2024
ورقة صادرة عن الحزب الدستوري السوري (حدْس)، والمنظمة الآثورية الديمقراطية، وتجمع مصير
مقدمة وتوضيح:
تصدر هذه الورقة/ الوثيقة، عن الحزب الدستوري السوري (حدْس)، والمنظمة الآثورية الديمقراطية، وتجمع مصير، بعد أن أجرت القوى الثلاث نقاشات عديدة، للوصول إلى تشخيص أزمة التيار الديمقراطي السوري، في سياق تاريخي سياسي/ اجتماعي، وتحديد بعض المهام العملية، للعمل على الخروج ولو نسبياً من هذه الأزمة، وتأتي هذه الورقة بصيغة مكثفة، ما يعني بالضرورة أنها لا تدّعي إلمامها بكلّ التفاصيل، بل انشغلت بالتقاط العلامات والملامح الأساسية للأزمة وسياقها، وليس بتقديم تحليل تفصيلي ناجز، ونأمل أن تلقى الاشتباك النقدي معها، عبر نقدها وتطويرها، من قبل الفاعلين السياسيين والمهتمين بالشأن العام.
في ضرورة التشخيص:
تنطلق هذه الورقة من ضرورات واقعية ملحّة، وهي بذلك، ذات طابع عملي، يتمثّل في أهمية أن يلعب التيار الديمقراطي السوري (وهذا وصف عام، يشترط التخصيص عبر الضوابط المعيارية)، دوراً في خروج الوطن السوري من حالته الكارثية الراهنة، وانتقال سوريا إلى دولة حديثة ديمقراطية، ولقناعة كثيرين في هذا التيار، ومنهم الأحزاب المشاركة في صياغة هذه الورقة، بأن السنوات التي تلت الثورة السورية، شهدت مشاركة ضعيفة للتيار الديمقراطي في صناعة الأحداث، لا تتناسب مع الضرورة التاريخية لوجود تيار ديمقراطي في قلب ثورة شعبية.
إن أي أزمة سياسية، مطلق أزمة، لها سببان، موضوعي وذاتي، مع عدم إغفال العلاقة الجدلية بينهما، والاعتراف بالاول دون الثاني، مجرد محاولة يائسة لإعفاء الذات من مسؤوليتها، وأيضاً، فإن تضخيم الذاتي مقابل الموضوعي، هو جلد للذات، وبالتالي، فقد رأينا أن مسؤوليتنا السياسية تقتضي تشخيص الموضوعي والذاتي منهجياً ومعرفياً، في سياق التحوّلات التاريخية السورية.
الواقع الموضوعي للحياة السياسية السورية:
أزمة الديمقراطية في سوريا، تتشابه في أوجه عديدة مع أزمة الديمقراطية في معظم دول العالم العربي، أي أنها مرتبطة بشكل أساسي بالدولة، ولا يمكن بالتالي الحديث عن أزمة تيار ديمقراطي بعيداً عن طبيعة الدولة نفسها، من حيث بنية النخبة السياسية الحاكمة، أو من حيث علاقة النظام السياسي نفسه بميزان القوى الدولي، من حيث تبعية النخب الحاكمة لطرف وازن في المعادلات الدولية، يمنحها الشرعية الإقليمية والدولية، ويساعدها على الاستمرار في الحكم.
في ميزان الدولة والسلطة، يمكن بكثير من التكثيف القول إن سوريا، بعد 1963، وتحديداً منذ 1971، كانت تنحو تجاه كفّة السلطة على حساب كفّة الدولة، وفي ميزان آخر، يرسم علاقة المجتمع بالدولة-السلطة، فإن الحياة الاجتماعية العامة، كانت تميل لكفّة علاقة السلطة بالمجتمع (باتجاهين)، على حساب كفّة علاقة تعاقدية بين المجتمع والدولة.
الممارسة السياسية وفق هذا الميزان، هي ممارسة السلطة أولاً، يقابلها ممارسة للمعارضة ذات طابع سري، لقوى معزولة عن بعدها الاجتماعي، أي معزولة عن الفئات التي تدعّي تمثيلها، وهذه البيئة تعدّ مثالية لتقويض أي معنى لممارسة السياسية الديمقراطية، سواءً في المجتمع، أو في البنى الحزبية، المشغولة بتأمين وجودها بعيداً عن الاعتقال من قبل الأجهزة الأمنية.
العقد الاجتماعي الذي يؤمن شرعية النظام السياسي، بُني على تحالف الحزب والعسكر والأمن من جهة، وبين الطبقة التجارية التقليدية من جهة ثانية، وفق معادلة، تسمح لهذه الطبقة بالمساعدة في استقرار الوضع الاقتصادي للدولة، من دون السماح لهذه الطبقة بأن تنمو، إلى الدرجة التي تمكّنها من فرض نفسها كشريك للسلطة.
فرضت السلطة احتكاراً محكماً على الفضاء العام، وكلّ ما يتعلق بهذا الفضاء من قضايا: العمال والفلاحين، قضية فلسطين، النضال ضد الإمبريالية، العلمانية وحماية الأقليات، الدين ورموزه المشيخية ومؤسساته، بينما لم تتمكن المعارضة، بكلّ أطيافها من امتلاك وسائل وأدوات تأثير في هذه القضايا.
في سعي السلطة لمركزة القوة بيدها، اعتمدت على المؤسستين العسكرية والأمنية، في الوقت الذي أفقرت فيه الحياة السياسية والثقافية للبلاد، ومنعت بالتالي حدوث أي تراكم لنمو القوى السياسية المعارضة.
في العلاقات الدولية، كان النظام محمياً بشرعية تحالفه مع الاتحاد السوفيتي، وعلاقاته مع دول الكتلة الاشتراكية، ولاحقاً مع النظام الإيراني، بينما بقيت علاقات المعارضة مع القوى الخارجية المؤثرة واهية، أو حتى غير موجودة.
الديمقراطية في التكوّن السوري:
الديمقراطية كصفة لأنظمة سياسية حديثة، هي الابنة الطبيعية لصيرورات تاريخية أنتجتها، مرّت بقفزات وانتكاسات، لكن أسسها بقيت تعمل، لتجاوز الانتكاسات، ويبدو أننا في سياق نقاش أزمة التيار الديمقراطي السوري معنيون بالتذكير بأهم الأسس الموضوعية لنشوء الأنظمة السياسية الديمقراطية:
1- الليبرالية، المؤسسة على حقّ الملكية، والتفكير، والاعتقاد، والتعبير، في سياق حركة التنوير الأوروبية.
2- السوق الرأسمالية، المرتبطة بالثورات الصناعية، ونشوء قوى جديدة فاعلة في المجتمع، والصلة الوثيقة بين تطوّر الصناعة بالتقدّم العلمي والفكر النقدي والعلوم التجريبية والاجتماعية.
3- تراجع مكانة الديني لمصلحة الوضعي في الحياة الاجتماعية والدساتير والقوانين.
ووفق هذه الأسس الثلاثة الكبرى، يمكن عقد مقارنة ومقاربة لمكانة الديمقراطية في عموم دول رالشرق الأوسط، ومنها سوريا، حيث تغيب هذه الأسس بشكل شبه كلّي عن السياق التاريخي العام لوطننا السوري، منذ تأسيس دولته في عام 1920.
التيارات الثلاثة التي رسمت المشهد السياسي في سوريا: الدينية، القومية، الشيوعية. التيار الأول بمختلف تلويناته، وفي أفضل حالاته، ينظر إلى الديمقراطية كصندوق اقتراع، وفي حالات أخرى، يكفّر الديمقراطية، بينما التيار القومي، ممثّلاً بالبعث بشكل رئيسي، فإن وجوده في السلطة، يتناقض جملة وتفصيلاً مع الديمقراطية، خصوصاً في مسألة التعددية السياسية، بينما اقتربت بعض التيارات الشيوعية من قضية الديمقراطية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، من دون أن تقترب من الجذر الليبرالي للديمقراطية.
القوى السياسية السورية المعارضة، ناضلت من مواقعها الإيديولوجية المختلفة، بشكل منفرد، أو من خلال التجمع الوطني الديمقراطي الذي تأسّس في عام 1979، من أجل كسر احتكار حزب البعث للسلطة، وفكّ قبضة الأمن عن الحياة العامة، واستقلال النقابات عن السلطة التنفيذية، وإطلاق ديناميات للتعبير الحرّ، وقد جوبه هذا النضال بموجات متتالية من الاعتقالات، في محاولة لمنع أي تراكم حزبي أو سياسي، وتحجيم علاقة القوى السياسية بالمجتمع، الذي لعبت بناه الثقافية التقليدية دوراً سلبياً ومعيقاً لنمو الثقافة الديمقراطية.
وبعد عام 2001، اشتبكت الحركة السياسية المدنية الثقافية مع المسألة الديمقراطية، وكان “ربيع دمشق”، تعبيراً عن حاجة موضوعية لبدء مسار سياسي ديمقراطي، يعيد بناء الحياة السياسية في سوريا، ويجنّب البلاد الوصول إلى حالة انسداد الأفق التي عبّرت عن نفسها من خلال الثورة السورية، وقد غاب الطابع الحزبي في “ربيع دمشق”، لمصلحة النقاش العام في المنتديات، وتوسيع دائرة المشاركة المجتمعية نسبياً، لكن هذه الحركة انتهت سريعاً، وتراجعت بفعل القبضة الأمنية، لتفصح عن نفسها من جديد، لكن في إطار أكثر حزبية في إعلان دمشق في عام 2005، لتواجه مرة أخرى بقرار أمني وسياسي لوأدها، واعتقال بعض أهم رموزها.
“التيار الديمقراطي” وحدود التفاعل مع الكيانات التمثيلية بعد الثورة:
مع فشل المساعي السورية في تشكيل إطار جامع لقوى المعارضة السورية، في يونيو/ حزيران 2011، أسهم الحراك الإقليمي في إنشاء “المجلس الوطني”، والذي تحوّل لاحقاً إلى “الائتلاف الوطني لقوى المعارضة والثورة”، وعلى الرغم من وجود تمثيل لقوى ديمقراطية، أو شخصيات محسوبة تاريخياً على هذا التيار، فإن وزنها في تحديد سياسات الكيان التمثيلي بقي ضعيفاً، لمصلحة القوى الإسلامية بشكل أساسي.
كل محاولات تأسيس تيار ديمقراطي وازن، انتهت إلى ما يشبه غياب الفاعلية، وبقيت منها مسمياتها، وقد تأسّس بعضها لغايات محدّدة، مثل الدخول في “الائتلاف الوطني”، ومعظم تلك التجارب لم تأخذ حقها في عملية البناء، وفق رؤية نضالية استراتيجية.
في أسباب فشل المساعي لتشكيل قطب ديمقراطي، ثمة عدد من الملاحظات الأساسية:
1-في الجانب المفاهيمي، افتقدت معظم التجارب إلى التنظير التأسيسي المطلوب حول مفهوم “القوى الديمقراطية”.
2-جرى القفز عن التدقيق فيما إذا كانت القوى المتحاورة بغية إنجاز تحالف ديمقراطي هي ديمقراطية بالفعل، أم أن الديمقراطية بالنسبة لها مجرد شعار، وفيما إذا كانت “قوة ما” يمكن أن تكون في لحظة تالية في تحالف آخر، لا علاقة له بالديمقراطية.
3-غالباً، أنتجت كيانات تجميعية أيديولوجياً، لا قواسم وازنة فيما بينها، بخصوص عدد من القضايا الوطنية.
4-تفتقد معظم القوى الديمقراطية إلى سند فكري، يشتبك بشكل مستمر مع القضايا السياسية من منظور القضية الديمقراطية.
5- هناك هروب واضح من ربط الديمقراطية بالعلمانية، أي ثلاثية العقلانية والحداثة والكونية، ومن ربطها بالدولة العلمانية، وذلك تحت مسوّغات لها علاقة بالظرف السياسي الموجود.
الأسباب الموضوعية الراهنة لأزمة التيار الديمقراطي:
1- انفتاح الصراع السوري على مشكلات خارج نطاق الصراع الوطني، وتحوّل الوطن السوري إلى واحدة من ساحات الصراع الإقليمية والدولية.
2- تعدّد سلطات الأمر الواقع، وتطابقها من حيث رفض أي معارضة جدية لها، خصوصاً المعارضة الديمقراطية.
3- ممارسة العمل السياسي عموماً من خارج الوطن السوري، على خلاف ما هو متاح للقوى السياسية المرتبطة بسلطات الأمر الواقع.
4- البيئة الإقليمية والدولية، دعمت قوى تقليدية، وأسهمت في تحويل الصراع الوطني إلى صراع مسلّح، وهو ما فاقم أزمة التيار الديمقراطي، خصوصاً في محيط جيوسياسي غير معني أساساً بالقضية الديمقراطية.
5- صعود القوى المسلحة من خارج نطاق الدولة، من ميليشيات وفصائل، وهي ذات طابع إسلامي، سني أو شيعي، على حساب العمل السياسي.
الأسباب الذاتية لأزمة التيار الديمقراطي:
1- الأحزاب والمنظمات الموجودة تاريخياً، أي قبل الثورة، تعاني من مشكلة عدم تجديد خطابها الفكري، فما زالت تحتفظ بمرجعيتها الأيديولوجية من دون أية تغييرات ذات مغزى.
2-الأحزاب والقوى التي تأسّست بعد الثورة، معظمها يفتقد إلى الإنتاج الفكري، بما يخصّ مجمل القضايا الوطنية، ومن بينها قضية الديمقراطية.
3- تفتقد القوى الديمقراطية إلى برنامج عمل سياسي، يحدّد خطواتها العملية، أو توجهاتها في بناء الشراكات.
4- ضعف التكوين التنظيمي للقوى الديمقراطية، وهذا الضعف قد لا يكون بسبب ضغف البنى التنظيمية فقط، بل بسبب غياب برامج عمل دورية للبنى التنظيمية، أو ما يسمى ب”المهام التنظيمية” المستمرّة.
5- غياب المبادرات السياسية، أي غياب العمل أو البحث عن الوجود، بدلالة المبادرة السياسية.
6- ضعف الإمكانات المادية، التي تعيق توسيع نشاط هذه القوى، على قاعدتي المساحة والنوع.
7- غياب المعرفة الحزبية والشخصية أحياناً بين أعضاء هذه القوى، وحتى بين القيادات.
مهام عملية لتجاوز الأزمة:
1- اعتراف القوى الديمقراطية بأنها معنية بالأزمة من داخلها، أي أنها أحد أسباب هذه الأزمة.
2- بناء القاسم المشترك الوطني بين القوى الديمقراطية السورية السياسية والمدنية، مع الأخذ بالحسبان أن العمل والفكر الوطني الديمقراطي السوري هو مروحة تتوزع عليها مواقف ورؤى وأهداف مختلف القوى الوطنية الديمقراطية السورية، مع التأكيد على ضرورة التقاء هذه القوى على قواسم الحدّ الأدنى المشترك من القيم والثوابت السياسية، بما يشكل أرضية لاجتماعها وعملها المشترك.
3- تطوير رؤية مشتركة لقوى التيار الديمقراطي، والبحث عن أدوار عملية لهذا التيار، ضمن لوحة الصراعات الإقلمية والدولية، للمساهمة في خروج البلاد من أزمتها.
4- توسيع مساحة التعارف البيني بين القوى الديمقراطية، لتجاوز العوائق الفكرية والتنظيمية.
5- العمل بدلالة الانتقال من الأسهل إلى المركّب والمعقد في الجانب العملي، أي التعاون في أعمال يمكن إنجازها والمراكمة فيها.
6- وضع برامج قابلة للتنفيذ ضمن الإمكانات الذاتية، والاستفادة من تعظيم هذه الإمكانات، من خلال مشاركة كفاءات من أحزاب متعددة في عمل “واحد” نوعي.
7- وضع أعراف سياسية/ تنظيمية للعلاقة بين القوى الديمقراطية، تنتمي إلى المنظومة الديمقراطية، ثقافياً وحقوقياً وقيمياً.