25-05-2023
تنشر صفحة آدو نيوز التقرير السياسي للمنظمة الآثورية الذي تم إقراره في المؤتمر العام الرابع عشر كاملا:
المقدّمة:
دخلت العملية السياسية في سوريا حالة من الجمود والاستعصاء لا سيما ما يتعلّق بتطبيق القرار 2254، وذلك بسبب تعنت النظام وحلفائه، وتراخي المجتمع الدولي وغياب التوافق الدولي. يأتي ذلك في ظل افتقاد القوى السورية لعوامل التأثير في المشهد السوري (نظاماً ومعارضة) بسبب وضعها البائس وضياعها بين أجندات الدول الداعمة لها وتضارب مصالحها. وجاءت حرب روسيا وأوكرانيا، لتزيد الأوضاع تفاقماً وتعقيداً، ولتخلق تحدّيات ومخاطر على صعيد الأمن والطاقة والغذاء على المستوى الدولي. حيث من المتوقّع أن تطول الأزمة الأوكرانية، بسبب احتدام الصراع بين روسيا والغرب، وتراجع احتمالات وضع نهاية قريبة للحرب الأوكرانية.
لم تسلم الأوضاع الهشة في سوريا من ارتدادات حرب أوكرانيا التي زادتها هشاشة وضعفاً على كافة المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية والإنسانية. فعلى المستوى السياسي، فإنّ العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة في جنيف لتطبيق القرار 2254، ومعها كافة المسارات المتفرّعة عنها (اللجنة الدستورية، مسار أستانا) توقّفت بشكلٍ شبه كامل، جرّاء تحوّل اهتمامات الدول المنخرطة في الصراع السوري نحو قضايا ترتبط بمصالحها ومواجهة المخاطر التي أفرزتها الحرب الأوكرانية.
إنّ الاستقطاب الدولي الحاد، ولّد دينامياتٍ جديدة بين دول المنطقة قادت إلى تبدّلات جذرية في مواقفها وعلاقاتها بطريقة لم تكن متوقّعة في مراحل سابقة بالنظر إلى التموضعات التي سبقت اندلاع الحرب في أوكرانيا، وتجلّى ذلك بتسارع عمليات التطبيع والمصالحات بين العديد من الدول المتنافسة في المنطقة، وشمل ذلك انطلاق قطار المصالحات بين تركيا وكل من السعودية والإمارات ومصر وإسرائيل. غير أنّ التحوّل الأبرز، تمثّل في الانعطاف التركي باتجّاه النظام، وفي التسابق المحموم من قبل بعض الدول العربية للانفتاح على النظام السوري والذي ارتفعت وتيرته بعد كارثة زلزال شباط الذي ضرب سوريا وتركيا، ما وفّر الذرائع لهذه الدول للتخلّي عن تحفظاتها للاستمرار في النهج الذي كانت قد بدأته قبل كارثة الزلزال، وأعطى للنظام فرصة للخروج من العزلة الخانقة التي كان يعاني منها، وعزّز لديه القناعة بانتصاره، وبإمكانيات إعادة تأهيله من جديد.
تقدير مواقف الدول المنخرطة في الصراع السوري:
أولاً: روسيا:
رغم انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا والتي جاءت نتائجها خلافاً لتوقعاتها وتقديراتها بحسم سريع للحرب بفعل الدعم والمساندة الغربية الكبيرة لأوكرانيا، والذي ترافق مع فرض عقوبات هائلة عليها لا تعرف سبيلاً للخروج منها. فإنّ روسيا ما تزال تُعتَبر من أهم اللاعبين المؤثّرين في الملف السوري، من خلال دعمها عسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً للنظام وانحيازها التام له، والذي كان له الدور الحاسم مع الدعم العسكري الإيراني في بقاء النظام، ومن خلال قيادتها لمسار أستانا مع تركيا وإيران، ومن خلال امتلاك القدرة على تعطيل الحلّ السياسي وفق قرارات مجلس الأمن وفي مقدّمتها القرار 2254، وهو ما بدا جلياً في وقف مسار اللجنة الدستورية الذي كانت ترعاه الأمم المتحدة في جنيف. ورغم نجاحها في منع النظام من السقوط بفضل التنسيق العالي مع إيران وبدعمٍ سياسي ودبلوماسي من الصين، فإنّها فشلت في فرض حل سياسي يناسب تصوراتها وفهمها للقرارات الدولية، وأُرغمت على القبول بواقع مناطق النفوذ التي تتقاسمها مع الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا وإيران وإسرائيل، والتي تمّ تثبيتها منذ أكثر من سنتين. لكن انشغالها في حربها الخاصّة في أوكرانيا، لم يمنعها من السعي عن البحث والترويج لحلولٍ جزئية كفيلة بإحداث اختراق في جدار الأزمة السورية، وذلك بالتعاون مع دول محور أستانا، ومع بعض الدول العربية التي تلاقت مصالحها معها مثل السعودية والإمارات ومصر، ودولٍ أخرى كتركيا والأردن أنهكتها تداعيات الأزمة السورية وأضحت تشكّل خطراً على استقرارها الداخلي بفعل تدهور أوضاعها الاقتصادية والأمنية والناتجة عن العبء المتزايد للاجئين السوريين.
وفعلاً نجحت روسيا في دفع الرئيس التركي أردوغان نحو التقارب مع النظام السوري، والسعي للتطبيع معه، لاعتبارات داخلية تتعلّق بالأوضاع الاقتصادية والتخفيف من عبء اللاجئين السوريين، وتبديد المخاوف الأمنية من احتمال قيام كيان كردي مدعوم من الغرب جنوب تركيا. ومن أجل تقوية أوراقه الانتخابية تجاه خصومه من المعارضة التركية، حيث لا تخفي موسكو تفضيلها لفوزه على منافسيه المقرّبين من الغرب، لِما يمثّل بقاء أردوغان لها من فوائد في مجال التهرّب من العقوبات وإحداث شرخ في الناتو. جاء ذلك بعد رفض الولايات المتحدة القاطع لأية عملية عسكرية تركية جديدة ضد حلفائها في قسد وإقامة منطقته العازلة، وكذلك رفض روسيا لمثل هذه العملية وإغرائه ببدائل أخرى تتمثّل بتوسيع اتفاق أضنة من خلال التوافق مع النظام.
كما نجحت في إقناع بعض الدول العربية للانفتاح على النظام بهدف إعادة تأهيله من جديد من خلال إعادته لجامعة الدول العربية، واكتسب مسعاها هذا زخماً كبيراً بعد الاتفاق السعودي- الإيراني حول إعادة العلاقات والذي جرى برعاية صينية. إنّ روسيا تُدرك بأنّ هذه المحاولات لن تنجح في إيجاد حل للأزمة السورية مالم يحظَ هذا الحل بقبول ورضى أمريكي وغربي، وما لم يحقق الحد الأدنى من طموحات السوريين في تغييرٍ حقيقي بذلوا من أجله الكثير من التضحيات. لكنّها في إطار حلمها بإنشاء نظام عالمي متعدّد الأقطاب، تقوم بتجريب كل الطرق، وتعمل على النفاذ من خلال بعض التناقضات الراهنة بين أمريكا وبعض حلفائها في المنطقة لبناء علاقات مع هذه الدول على أساس المصالح وبعيداً عن الإيديولوجيا، بهدف خلط الأوراق، وكسب المزيد من الوقت لفرض وقائع جديدة على المشهد السوري، من شأنها مساعدة النظام السوري على تجاوز أزماته الاقتصادية المستعصية وتحميل هذه الدول مسؤولية إعادة الإعمار ولو بشكل جزئي لعدم قدرتها على مجابهة الرفض الأمريكي والغربي لإعادة الإعمار، وبهذا تقوم بتغطية عجزها عن مدّ حليفها بالمساعدة المطلوبة بعد استنزاف كل إمكانياتها في الحرب الأوكرانية. كما تسعى مع محور أستانا لتكثيف الضغوط على أمريكا بهدف إجبارها على سحب جنودها من مناطق شرق الفرات الغنية بالموارد والثروات الطبيعية واستعادتها لسيطرة النظام.
ثانياً: إيران:
تتشارك إيران مع روسيا في دعم ورعاية النظام السوري وفضل الإبقاء عليه، حيث تشكّل سوريا عقدة الوصل في مشروعها التوسعي الممتد من طهران وحتى البحر المتوسّط. وعلى مدى السنوات الماضية من عمر الأزمة السورية، فإنّ نظام الولي الفقيه في إيران استثمر كثيراً في سوريا، ورسّخ نفوذاً هائلاً فيها عبر أذرعه الميليشياوية، واستطاع التغلغل في كافة مفاصل النظام على مختلف الصُعُد العسكرية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالتوازي مع القيام بعمليات هندسة ديمغرافية واسعة أحلّ من خلالها مجموعات مذهبية محسوبة عليه في العديد من المناطق بدلاً من سكانها الأصليين. وتجلّى هذا النفوذ في التحكّم بالنظام وقراراته عندما فرضت نفسها طرفاً رابعاً على طاولة التطبيع بين تركيا والنظام برعاية روسية. ورغم أنّ إيران تعيش أوضاعاً اقتصادية صعبة بسبب العقوبات وتعثّر إحياء الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتشهد مدنها ومنذ أشهر انتفاضات واضطرابات احتجاجاً على قمع وانتهاكات الحرس الثوري لحريات وحقوق النساء والقوميات غير الفارسية، فإنّ النفوذ الإيراني في سوريا ودول المنطقة لم يتراجع، بل على العكس فإنّه ازداد رسوخاً لا سيما في أعقاب الحرب الأوكرانية التي تحولّت فيها إيران إلى شريك يمدّ روسيا بالصواريخ والطائرات المسيّرة وعزّز ذلك اتفاقها الاستراتيجي مع الصين التي تسعى إلى بسط نفوذها في الشرق الأوسط بثباتٍ وإصرار. ولا شك بأنّ إيران تبدو منتشية باتفاقها مع السعودية والذي جرى برعاية صينية، ومن خلاله انتقلت السعودية ومن خلفها دول الخليج من حالة الصدام مع إيران، إلى حالة التعايش مع النفوذ الإيراني والقبول بها كما هي دون انتزاع أيّة تنازلات جدّية تحدُّ من نفوذها المترامي.
مع ذلك فإنّ إيران تواجه العديد من المعضلات والتحدّيات في سوريا ودول المنطقة، بعضها نابع من مجاورة الولايات المتحدة الأمريكية لها في كافة مناطق نفوذها وامتلاكها أوراق تأثير قوية في مختلف المجالات العسكرية والأمنية والاقتصادية قادرة على تحجيم الطموحات الإيرانية. والتحدّي الثاني يتمثّل بالمواجهة العسكرية المفتوحة بينها وبين إسرائيل التي كثّفت من عملياتها العسكرية ضد قواعد وأذرع إيران في سوريا وأوقعت بها ضربات موجعة دون أن تجرؤ على الردّ. وبغض النظر عن الخطوات التكتيكية التي اتبعتها بعض الدول العربية حيال إيران مؤخّراً، فإنّ هذه الدول (الأردن، السعودية، الإمارات وغيرها) لا تخفي امتعاضها من تنامي النفوذ الإيراني في سوريا وغيرها من الدول العربية، كما لا تخفي الإعلان عن رغبتها في تقليص هذا النفوذ وما يجرّه من أضرار عليها تتمثّل برفع منسوب الاحتقان المذهبي، ورعاية عمليات إنتاج وتهريب المخدرات إلى هذه الدول بالشراكة مع نظام الأسد. والأهم من كل ذلك هو رفض غالبية السوريين بِما في ذلك نسبة مُعتبَرة من حاضنة النظام للسلوك والقيم التي يحملها النظام الإيراني والتي عاثت خراباً في العديد من دول المنطقة.
ثالثاً: تركيا:
بحكم الجوار الجغرافي، وتشابك المصالح، فإنّ تركيا كانت وما تزال واحدة من أكثر الدول تأثيراً وانخراطاً في المسألة السورية، فمنذ انطلاق الثورة السورية عام 2011 والتي جاءت في سياق الربيع العربي، اندفعت تركيا بحماس للقيام بدورٍ قيادي بهدف التأثير في نتائجه بشكلٍ يواءم مصالحها. لهذا سارعت إلى احتضان أولى تشكيلات المعارضة السياسية، ودعم المعارضة المسلحة، وظلّت لسنوات وماتزال (نظرياً) الداعم والضامن الأساس للمعارضة السورية، وفتحت حدودها لاستقبال اللاجئين السوريين. لكن بعد دخول روسيا عسكرياً عام 2015 لدعم النظام، وتشكيل التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب المتمثل بداعش، أيقنت بأنّ إمكانات إسقاط النظام عسكرياً قد تلاشت، وأنّ الصراع في سوريا وعليها أصبح صراعاً دولياً. فحاولت التكيّف مع هذه الأوضاع ومع وجود القوى الكبرى على الأرض السورية، تدفعها رغبة جامحة في تقوية أوراقها لحجز مكان رئيسي لها على الأرض من خلال منطقة نفوذ خاصة بها، وعلى طاولة الحلّ النهائي. فانخرطت في مسار أستانا لضمان مصالحها وكضامن للمعارضة لموازنة دور الأطراف الأخرى المنحازة كلياً للنظام، كما ساهمت في إطلاق مسار اللجنة الدستورية مع روسيا وإيران، وزجّت بقواتها في العديد من مناطق الشمال السوري المحاذية لحدودها بالتفاهم مع روسيا وإيران من خلال مسار أستانا، حيث تتحكّم تركيا اليوم بحوالي 10% من مساحة سوريا في مناطق تتوزّع على شمال غربي سوريا وشمال شرقي سوريا يعيش فيها ما يقارب 4 مليون سوري إضافة إلى حوالي 4 مليون آخرين يقيمون كلاجئين على أراضيها. هذه المناطق تخضع لسيطرتها الكاملة في كافة المجالات تعاونها مجموعات محلية. لكن كلّ هذا لم يبدّد هواجسها الأمنية النابعة من احتمال قيام كيان كردي في الجنوب يقوده حزب الاتحاد الديمقراطي pyd الذي تعتبره تركيا امتداداً لحزب العمّال الكردستاني خصمها اللدود. هذا الهاجس طغى على كل الأولويات الأخرى في سياسة تركيا السورية، خصوصاً وأنّ الإدارة الذاتية التي يقودها pyd عبر ذراعه العسكرية قوات سوريا الديمقراطية (قسد) تحظى بدعم حليفها في الناتو الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر هذه القوات شريكاً موثوقاً في مكافحة إرهاب داعش. اعتراض تركيا على شراكة أميركا مع قسد، ورفض أميركا إقامة منطقة آمنة طالبت بها تركيا مراراً رغم وجود بعض الاتفاقات التركية مع أميركا وروسيا تدعو لإبعاد قوات سوريا الديمقراطية لمسافة 30 كم جنوب المناطق التي تتمركز فيها. سبّب هذا توتراً كبيراً في العلاقات الأمريكية-التركية، ودفعها أكثر إلى التنسيق والتعاون مع روسيا التي أغرتها بالحوار مع النظام للوصول إلى ترتيبات أمنية (من ضمنها توسيع اتفاق أضنة) لضمان أمن حدودها، وبعد تعذّر إقامة منطقتها العازلة بقواها الذاتية بسبب الرفض الأميركي والروسي، استجابت للمبادرة الروسية في الانفتاح على النظام والذي بدأ باجتماعات أمنية بين الطرفين ثمّ تطوّر الأمر إلى لقاءات على المستوى الأمني والعسكري ثم السياسي، بدأت بشكل ثلاثي وجمعت روسيا وتركيا والنظام، ثمّ تحولت إلى لقاءات رباعية بعد دخول إيران على الخط، فيما استُبعِدّت المعارضة السورية التي كانت طرفاً في اجتماعات أستانا. ساعد على انطلاق هذا المسار بين تركيا والنظام السوري، جملة من العوامل والاعتبارات الداخلية التركية، تبدأ من حسابات الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية المقرَر إجراؤها في 14 أيّار القادم وحظوظ حزب العدالة والتنمية الحاكم ورئيسه أردوغان للفوز فيها في مواجهة معارضة وحّدت صفوفها، ووظّفت بقوة أوراق اللاجئين السوريين في حملاتها الانتخابية إلى درجة لامست العنصرية التي سرعان ما استشرت لدى شرائح واسعة من المجتمع التركي، ولا تنتهي بالأوضاع الاقتصادية المتدهورة التي فاقمها الزلزال ولا بالحرب المستمرة ضد حزب العمال الكردستاني داخل تركيا وخارجها.
إنّ التطبيع السوري- التركي الذي ضغطت من أجله روسيا، وسَعت له تركيا، تعثّر ويحتاج إلى وقتٍ طويل لتفكيك العُقد والعقبات التي تكتنف علاقات البلدين. فالنظام السوري ليس في وارد إعطاء هدايا انتخابية لأردوغان، ويُفضّل فوز المعارضة في الانتخابات، لذلك يرفع من سقف شروطه على تركيا، ويطالبها بسحب قواتها ووقف مساعدتها لقوى الإرهاب والكفّ عن التدخّل في الشؤون الداخلية. فيما تركيا تشترط على النظام أن يعمل على محاربة قسد وتأمين عودة اللاجئين والشروع بعملية سياسية مع المعارضة، وهي أمور لا يستطيع النظام القيام بها وحتى لا يرغب بها. ومن غير المرجّح أيضاً أن تستجيب تركيا (أيًّا كانت الحكومة التي ستفوز بالانتخابات) لشروط النظام لأنها تعتبر أنّ أسباب وجود جيشها في الأراضي السورية ما تزال قائمة، حيث تربط تواجدها العسكري بتواجد قسد، وانعدام الاستقرار، والخشية من تدفّق أعداد أكبر من اللاجئين إلى أراضيها. بل على العكس فإنّ تركيا من خلال انفتاحها على النظام تهدف إلى شرعنة وجودها العسكري من خلال توسيع اتفاق أضنة بدعم ورعاية من روسيا التي لا تمانع من الإبقاء على الوجود العسكري التركي إلى حين التوصّل إلى حلّ سياسي تخرج بموجبه جميع الميليشيات والجيوش الأجنبية.
بلا جدال فإنّ الاستدارة التركية نحو النظام السوري جاءت كاستجابة لمصالحها بالدرجة الأولى، لكنّها بنفس الوقت رفعت من منسوب القلق والخوف عند السوريين المقيمين على أراضيها أو المناطق التي تخضع لنفوذها وكذلك لدى المعارضة السورية التي وجدت في تركيا الملاذ الأخير لها، خصوصاً وأنّها جاءت بعد سنوات من احتضانها للمعارضة السورية، ومعاداة النظام السوري، ورغم حديث مسؤوليها عن التمسك بالقرار 2254، وضمان حقوق السوريين، وعدم إجراء أيّة تسوية على حساب المعارضة السورية، فإنّ هذه التصريحات لم تطمئن السوريين المقيمين داخل تركيا أو في مناطق نفوذها، وعبّر الكثير من هؤلاء عن قلقهم من خلال تظاهرات احتجاجية شهدتها مختلف المدن الخاضعة للنفوذ التركي، ولم يخفّف من وقع هذه الاحتجاجات سوى الكارثة التي نجمت عن الزلزال الذي ضرب سكان هذه المناطق، وتعثّر هذا المسار أو تأجيله.
لا شك إنّ تركيا تدرك أنها رغم امتلاكها للعديد من الأوراق القويّة التي تسمح لها بالتأثير في مجرى النزاع السوري، وتأمين مقعد لها على طاولة التسوية السياسية مستفيدة من عامل الجوار الجغرافي، وقدرتها على التحكّم بالمنافذ الحدودية، والإمساك بملف الفصائل المسلحة في الشمال، وجزء مهم من المعارضة السياسية (الائتلاف)، فإنها لا يمكنها الاستغناء عن التنسيق الكامل مع الولايات المتحدة وروسيا القادرتان على وضع سقف لطموحاتها.
رابعاً: الولايات المتحدة الأمريكية:
طيلة مراحل الصراع في سوريا، فإنّ تعاطي الإدارة الأمريكية مع الشأن السوري اتّسم بالغموض، وانطوى على تناقضات أربكت الجميع بما في ذلك حلفائها. وفي ظل غياب استراتيجية واضحة المعالم، تمّ التركيز على إدارة الأزمة وتجميد النزاع، وتثبيت مناطق النفوذ التي أنتجها الصراع، والعمل على احتواء جميع الأطراف واستنزافهم. الاهتمام الأمريكي بسوريا بشكلٍ عام وبمناطق شمال شرق سوريا بشكلٍ خاص، يستند لفكرة الحفاظ على التواجد العسكري الأمريكي في شمال شرق سوريا وقاعدة التنف لأمد غير محّدد (مثلما صرّح رئيس أركان الجيش الأمريكي مارك ميلي في زيارته الأخيرة للمنطقة)، بهدف القضاء نهائيا على تنظيم داعش بالشراكة مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والمساهمة في الوصول إلى حل سياسي في سوريا وفق القرار 2254، وزيادة المساعدات الإنسانية ضمن إطار مفهوم التعافي المبكّر، وكذلك إرساء نوع من التوازن العسكري والسياسي على الساحة السورية بهدف تقليص النفوذ الإيراني، ومنع روسيا من تحصيل مكاسب سياسية وعسكرية إضافية في سوريا، وكذلك منع النظام السوري من دخول شمال شرق سوريا.
رغم كثرة ما يُشاع عن تراجع النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، وتواتر الحديث عن حالة الفراغ التي نتجت عن تحويل الإدارة الأمريكية لاهتماماتها إلى شرق آسيا لمواجهة الصين وكذلك التركيز على مجابهة روسيا في أوكرانيا، وهو ما شجّع بعض حلفائها في المنطقة على انتهاج سياسات قد تبدو كنوع من التمرّد على الهيمنة الأمريكية التي استمرت لعقود. فإنّ الواقع يشير إلى أنّ الحضور الأمريكي في المنطقة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً ما يزال طاغياً، وإن كانت بعض الدول تتطلّع لمنافستها والحلول مكانها، لكن هذا في الأمد المنظور من الصعب أن يتحقّق.
في الملف السوري فإنّ الولايات المتحدة الأمريكية ما تزال تحتفظ بالكثير من الأوراق المؤثّرة والتي تمنع النظام وحلفائه من تجاوزها، وأهم هذه الأوراق: الوجود العسكري في شمال وشرق سوريا وفي قاعدة التنف، والتي تسمح لها ولشركائها المحليين بالتحكّم بأهم الموارد والثروات الطبيعية في البلاد، إضافة إلى الإمساك بسلاح العقوبات كقانون قيصر وقانون الكبتاغون الذي سيدخل مرحلة النفاذ في شهر حزيران القادم، ناهيك عن القدرة على إثارة وتفعيل قضايا المساءلة والمحاسبة حول جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية واستخدام السلاح الكيماوي بالتعاون مع حلفائها الأوربيين، وقد أكدت الولايات المتحدة والأوربيين الذين يقفون خلفها بأنّه لا تطبيع مع النظام ولا عودة للاجئين، ولا إعادة للإعمار قبل التوصّل إلى حلّ سياسي حقيقي. ولهذا نرى أنّ العديد من محاولات التطبيع مع النظام تتعثّر وبعضها يترنّح.
في هذا السياق لا يمكن التغاضي عن الدور الإسرائيلي المؤثّر في سوريا، فمنذ بداية الأزمة حدّدت إسرائيل أولوياتها في سوريا، بعدم السماح لإيران بترسيخ وجود عسكري دائم لها في سوريا، ومنع تكرار نموذج حزب الله على الحدود السورية في الجولان. وهي لا تخشى من بقاء النظام، بل تحرص على الحفاظ عليه ضعيفا لحماية حدودها بضمانات روسية وفق اتفاق فصل القوات (1974)، وتأمين عدم معارضته لخطتها في ضم الجولان نهائيا. لهذا كثّفت ضرباتها الجوية ضد مواقع وأهداف إيرانية في سوريا مؤخرا، وبشكل أعنف من السابق، ولم تستثنِ هذه الضربات مواقع الجيش السوري وكذلك المطارات المدنية، وفي الأياّم الأخيرة وجّهت تهديدات حازمة للأسد تحذّره من إطلاق صواريخ من الجنوب السوري باتجّاه الجولان المحتل.
خامساً: الدول العربية:
خرجت الدول العربية والخليجية منها تحديدا، من دائرة التأثير في الأزمة السورية، بسبب انقساماتها ومشاكلها وافتقادها إلى رؤية استراتيجية متكاملة. وكانت بعض هذه الدول قد قامت بأدوار سلبية في بدايات الثورة، تجلّت في أسلمة الثورة، ودفعها إلى التسلّح، وقيادة عمليات الثورة المضادة. لكن مع تنامي نفوذ إيران وتركيا، تسابقت هذه الدول في العودة للملف السوري من البوابة الإنسانية بعد كارثة زلزال شباط وتحت شعار لم الشمل العربي وإيجاد تسوية سياسية وفق القرار 2254، ورأت أنّ الحدّ من نفوذ هاتين الدولتين أو موازنة نفوذهما، يمرّ من بوابة التطبيع مع النظام، وإعادة شرعنته عربيا، من خلال إعادته للجامعة العربية، لكن نفوذ هذه الدول في سوريا بات محدوداً ولا يمكن مقارنته بنفوذ إيران أو تركيا التي تتواجد جيوشها وميليشياتها على الأرض السورية بينما الدول العربية لا تملك سوى المال للتأثير على الأسد. في العام الماضي فشلت محاولة الجزائر في إعادته إلى الجامعة العربية بسبب رفض عدد من الدول العربية تأتي على رأسها السعودية، وللمفارقة فإن السعودية بعد اتفاقها على إعادة العلاقات مع إيران، تتصدّر الجهود لإعادته إلى الجامعة العربية بدعمٍ من العديد من الدول العربية، بينما ما تزال قطر والكويت والمغرب رافضة لعودته لغاية هذه اللحظة. لا شك أنّ هذه الدول التي فشلت في لجم النفوذ الإيراني في العراق ولبنان واليمن، تراودها أوهام في النجاح في سوريا بمساعدة وتشجيع من الروس الذين لا يستطيعون الاستمرار في مساعدته اقتصادياً بسبب الأزمات التي تواجههم، متناسية أن قرارها في مقاطعة النظام وتجميد عضويته في الجامعة العربية، إنما كان لنفس السبب الذي تسوقه اليوم من أجل التطبيع. ومن المؤكّد فإنّ النفوذ الإيراني في سوريا ليس مجال للمساومة مع النظام، وهو ما أكّده الأسد صراحة في زيارته الأخيرة إلى موسكو، وبالتالي فإنّ النظام السوري لن يجازف بفضّ تحالفه الاستراتيجي مع إيران التي وقفت معه في أزمته ومحنته، ودعمت كل أسباب بقائه واستمراره، ويعني هذا قبول التطبيع مع الأمر الواقع والتعايش مع النفوذ الإيراني. وبالتالي فإنّ عملية التطبيع التي من المرجّح أن تتواصل، لن تخدم سوى إيران وفي انتشال النظام من أزماته التي يتخبّط بها، ولن تخفّف عن الشعب السوري خصوصاً وأنّ النظام السوري لم يبدّل شيئاً من مواقفه التي استوجبت الابتعاد عنه، وفرض عقوبات عليه، بل يواصل التمسّك بمواقفه الأولى، وكأنه لم يحصل شيء خلال 12 عاماً من الحرب والقتل والتشريد والتغيير الديمغرافي وإغراق البلاد والدول المجاورة بالمخدرات والكبتاغون.
الانفتاح العربي اليوم على النظام لن يسهم سوى في إطالة أمد المحنة السورية، لأنه ليس لدى النظام ما يقدمه للعرب، ويريد منهم فقط بعض الدعم الاقتصادي والتعويم السياسي، وكل مطّلع على تركيبة هذا النظام يدرك أنه غير قابل للتغيير أو الإصلاح. كما يُستبعد أن يسفر الانفتاح العربي على سوريا عن فرصة أفضل لحل سياسي للأزمة السورية التي تزعم كل الدول أنّها تسعى للوصول إليه.
سادساً: موقف الأطراف السورية:
منذ تدويل الصراع وتحويله إلى حربٍ بالوكالة بين القوى الدولية والإقليمية، لا بد من الإقرار بأنّ الأطراف المحلية (نظام ومعارضة)، فقدت دورها وقرارها المستقل، وانعدمت قدرتها في التأثير على مسار الأحداث، وتحولت إلى أدوات لخدمة أجندات الآخرين.
النظام: رغم التقدم الميداني الذي تحقّق للنظام، واستعادة بعض عناصر القوّة، وقدرا كبيرا من الثقة بالنفس التي يروّج لها إعلامه، فإنّه يدرك قبل غيره، أنّ الانتصارات التي يتفاخر بها، إنما جاءت بفعل العامل الخارجي من خلال تدخل إيران وحزب الله وبقية الميليشيات الطائفية، والأهم التدخل الروسي الفعّال والحاسم في الحفاظ على بقائه. رغم ذلك فإنّ سلوك النظام لم يتغيّر، وما زال مصرّاً على التمسك بأدواته القديمة وأساليبه المعروفة في إدارة شؤون البلاد، وخصوصا لجهة الممارسات الأمنية تجاه كل من يخالفه. وحتى في أوساط الموالين، فإنّ هذه الانتصارات لم تعد تقنع الكثير من مؤيديه، جرّاء تفاقم المآسي الاجتماعية، وتدهور الأوضاع المعاشية في المناطق الخاضعة لسيطرته وسط عجز حكومي كامل في توفير الخدمات أو النهوض مع حلفائه بعبء إعادة الإعمار بسبب الصعوبات الاقتصادية التي تواجه كلاً من روسيا وإيران. كل ذلك أثار شكوكا في أوساط الموالين حول معنى الانتصار وما إذا كان مرادفا للجوع والحرمان وافتقاد الكرامة الإنسانية.
إنّ تراجع الاهتمام بالقضية السورية، وتسارع الأحداث التي حدثت في المنطقة والعالم وأهمها الحرب الروسية في أوكرانيا، جاءت لتصبّ في مصلحة النظام، حيث وفّرت له العديد من الفرص للتهرّب من استحقاقات الحلّ السياسي، وتفادي الضغوط التي مورست عليه من أجل الانخراط الجدّي في العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة في جنيف، فساهم مع حلفائه الروس في وقف مسار اللجنة الدستورية الذي لم يحقّق أيّ تقدّم يُذكر. وفي ظل حالة الجمود التي سيطرت على المشهد السوري منذ حوالي أكثر من عامين، شرعت بعض دول المنطقة بالانفتاح على النظام لاعتبارات خاصة بها، مثل الإمارات التي أعادت فتح سفارتها في دمشق وتتوسط من أجل مصالحة النظام مع اسرائيل، وكذلك الأردن التي أرهقها عبء اللاجئين السوريين وتهريب المخدرات، وتموضع الميليشيات الإيرانية على حدودها. ومثّل التحوّل التركي باتجاه الانفتاح على النظام الفصل الأكثر إثارة في المشهد السوري. ثمّ تسارعت خطوات التقارب مع النظام بعد زلزال 6 شباط الذي ضرب سوريا وتركيا، لتنضم السعودية ومصر وغيرها من الدول مستغلة الكارثة الإنسانية التي أنتجها الزلزال لتبرير خطواتها للتطبيع مع النظام وإعادة تأهيله من خلال إعادته للجامعة العربية، فانهالت المساعدات الإنسانية على النظام، وازدحمت دمشق بزيارات المسؤولين العرب، وفُرِشَ السجاد الأحمر لرأس النظام في عُمان وأبو ظبي، واستُقبل مبعوثي النظام في عواصم أخرى. هذه التحولاّت جعلت النظام يتحدّث بزهو المنتصر على شعبه وعلى أعدائه بعد إسقاط مؤامرتهم الكونية. متجاهلاً أنه يحكم بلداً تنعدم فيه كل مقومات الحياة من ماء وكهرباء ووقود وخدمات، وتعيش غالبية سكانه تحت خط الفقر. ومتناسياً بأنّ 40% من أراضي البلاد ترزح تحت سيطرة جيوش أجنبية، وأن المساحة التي يزعم سيطرته عليها، فإنّ قرارها ممسوك فعلياً من قبل الإيرانيين ثمّ الروس. ومتوهماً بأنّه قادر على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وكأنّ شيئاً لم يحصل في سوريا، وهي نفس الأوهام التي تراود الدول اللاهثة خلف التطبيع بأنّ الأمور ستعود إلى مجراها الطبيعي من خلال التطبيع مع النظام، بينما الواقع يقول بأنّه دون الوصول إلى حلٍ سياسي والتطبيع مع السوريين فإنّ كل الجهود والمحاولات لن تُثمِر وستذهب سُدىً.
المعارضة: إنّ الفصائل المسلحة، هُزِمت عسكرياً، وفقدت وظيفتها بعد تجريدها من هدف محاربة النظام بناء على اتفاقات خفض التصعيد التي كرسّها محور أستانا، وتنحصر مهامها في خدمة سلطات الأمر الواقع في مناطقها لحين بلورة توافقات دولية تفضي إلى حل سياسي. وبعض هذه الفصائل لا سيما في الجنوب تحولت وظيفته لخدمة النظام وتنفيذ أجندة الروس بعد تسوية أوضاعها، أمّا فصائل الشمال تحولّت لخدمة الأجندة التركية، وهي تدرك أنه في نهاية المطاف ومع تقدّم مسار التطبيع بين تركيا والنظام سيتم تجريدها من هذا السلاح وسيتحول دورها إلى قوات شرطة وظيفتها الحفاظ على الأمن في مناطقها (بعد القضاء على جبهة النصرة وبقية التنظيمات المرتبطة بالقاعدة)، ومن ثم حراسة الطرق والمعابر. وحتّى قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي ما تزال تحظى بحماية أمريكية، فإنّها تعيش حالة من الخوف والارتباك خشية أن تكون التفاهمات الإقليمية على حسابها.
المعارضة السياسية بدورها، فقدت الكثير من أوراقها، ووصلت إلى درجة كبيرة من الضعف وقلة الفاعلية. وساهمت في إضعافها عوامل عديدة منها، تراجع الاهتمام الدولي بالقضية السورية، وتوقّف العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة، وتبدّل مواقف الدول الصديقة مثل تركيا والسعودية التي أدّى انسحابها من الملف السوري إلى تعطيل عمل هيئة التفاوض السورية، والأهم من ذلك هو فشل المعارضة في توحيد صفوفها ونقصد هنا المعارضة الرسمية وغيرها من قوى المعارضة غير الرسمية بكل تلويناتها القومية واليسارية والليبرالية (العلمانية). وللأسف، فإنّ كل سلطات الأمر الواقع، فشلت في مناطقها في إرساء نموذج حوكمة مقنع أفضل ممّا قدّمه النظام، وأيضاً فشلت في بناء حياة سياسية يمكن المراهنة عليها، بل على العكس، في كلّ هذه المناطق نجد أنّ الكلمة الأولى هي للعسكر وأمراء الحرب وقادة الميليشيات التي تتحّكم بحياة الناس مستفيدة من حالة الفوضى المنتشرة في كلّ مكان وتعمل على إدامتها.
من معالم ضعف المعارضة السورية الرسمية وهامشيتها، هو غيابها تماماً عن المشهد في كل الاجتماعات والطقوس والمراسم المرتبطة بالحراك الموجّه نحو التطبيع مع النظام، حيث تمّ استثناء المعارضة الرسمية من كل ذلك، ويكاد يقتصر نشاطها على اللقاء مع السفراء ومبعوثي الدول الغربية للملف السوري، كل هذا خلق حالة من الترقّب وعدم اليقين بدورها وقدرتها على تمثيل تطلعات السوريين الذين يوجّهون لها وحدها سهام النقد وتحميلها مسؤولية الفشل في تحقيق أهداف الثورة في وقتٍ يتم فيه التغافل عن تقاعس المجتمع الدولي وعجزه عن فرض حل سياسي يتماشى مع القرارات الدولية.
إنّ أي حلّ سياسي للأزمة السورية في المستقبل يحتاج إلى وجود طرفين على طاولة التفاوض هما النظام والمعارضة سواء بشكلها الراهن أو بعد إنتاجها بشكل جديد، لهذا ينبغي على المعارضة التحلّي بالصبر، والعمل على ترتيب أوضاعها على قاعدة التمسك بالقرار 2254 كأساس للحل، والذي يشكّل هدفاً مشتركاً بين أطراف المعارضة المتعارضة ويشمل هذا المعارضة الرسمية ممثلة بالائتلاف وهيئة التفاوض واللجنة الدستورية، وتلك المعارضة التي تنشط خارج الأطر الرسمية بما في ذلك مجلس سوريا الديمقراطية (مسد)، لهذا يجب التركيز على تنفيذ القرار 2254 بكل بنوده، وعلى قضايا المساءلة والمحاسبة في ملاقاة للجهود الغربية، ولا بديل لها عن ذلك. إذ يُخشى أن تقبل الدول الإقليمية الساعية للتطبيع مع النظام وبدعم من روسيا والصين بحلول تكرّس الواقع الراهن أو دون سقف القرار 2254. بالتأكيد فإنّ النظام سوف يحاول بكل قوتّه عرقلة تطبيق هذا القرار لأنه يدرك بأنّ القبول به يمهّد الطريق لسقوطه، والأمر الجيد بأنّ كل الدول سواء الرافضة منها للتطبيع مع النظام أو الساعية له، ماتزال تقرّ وبشكل صريح بأنّ هذا القرار يشكّل مدخل الحلّ الأساسي للأزمة السورية، لهذا فإنّ النظام يحاول التهرّب من هذا الاستحقاق إدراكاً منه بأنّ الاصطفافات الدولية الراهنة ومزادات بيع الأوراق في اللعبة الدولية المفتوحة التي تدور في سوريا والمنطقة قد تطيحه، نظراً إلى ضعف وزنه وهامشية أوراقه في اللعبة الدولية المعقدة، وعندها لن يكون في مأمن حتى من أقرب حلفائه المقصود هنا روسيا الغارقة في وحول أوكرانيا.
سابعاً: الوضع في شمال شرق سوريا:
تعيش الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي PYd حالة من الثبات والاستقرار النسبي منذ عملية نبع السلام عام 2019. ولا يعكّر هذه الحالة سوى التهديدات العسكرية التركية المتكررة باجتياح مناطقها والمترافقة بعمليات اغتيال محدودة عبر الطائرات المسيّرة فرضها الرفض الأمريكي والروسي لعمليات تركية واسعة من شأنها الإخلال بالتوازنات القائمة. لكن رغم الاطمئنان النسبي لبقاء قوات التحالف الذي تقوده أمريكا، وتأمين مظلّة حماية لها، فإنّ الإدارة الذاتية تنظر بكثيرٍ من القلقٍ والخوف للتحركّات الأخيرة لدول محور أستانا التي تستهدف بكل قواها القضاء على تجربة الإدارة الذاتية وإخراج قوات التحالف منها كمقدمة لإعادة مناطقها إلى سيطرة النظام، وهذا بلا شك يضع الإدارة الذاتية أمام خيارات صعبة ومستقبلا غامضا، ويهدّد بتقويض كل ما بنته خلال السنوات الماضية، وفقدان معظم أوراق القوّة، ما يجعلها الطرف الأضعف في أي تفاوض مستقبلي مع النظام، وهو ما تجلّى بوضوح في الجولات المتعددة التي فاوضت فيها النظام برعاية روسيا وفشلت في انتزاع أيّة تنازلات ذات قيمة منه.
الإدارة الذاتية تراهن على بقاء القوات الأمريكية في مناطق شمال وشرق سوريا، والاستفادة من الدعم الغربي للمحافظة على وضعها الحالي. كما تراهن على هزيمة أردوغان وفوز معارضيه وما قد يترتّب على ذلك من تغيير في السياسة التركية تجاه الملف السوري، وما قد ينتج عن ذلك من تقارب تركي مع الغرب وابتعاد عن روسيا يمكن أن يصب في مصالح الإدارة الذاتية. أمّا في حال نجاح محور أستانا في خططه، فإنّ هذا سيكون على حساب (قسد)، ويفضي إلى عودة النظام وحلفائه إلى مناطق شمال وشرق سوريا وبالتالي تحجيم نفوذ قسد وتجريدها من كل المكاسب التي حققتها.
لقد فوتّت قسد الكثير من الفرص التي كبّدتها خسائر جسيمة في عفرين ورأس العين وغيرها، بسبب الانسياق وراء العناد الإيديولوجي والشعارات الحالمة، وقراءتها السيئة للأحداث ولموازين القوى. وحتى لا تتكرّر مثل هذه الأخطاء والمجازفة بخسارة كل شيء، ينبغي عليها الاستفادة من عناصر القوّة الموجودة في مناطق شمال وشرق سوريا والتي تتمثّل: برفض معظم أهالي المنطقة لعودة النظام بشكله الراهن إلى هذه المناطق وما يتبع ذلك من جلب لميليشيات إيران وتكرار نموذج جنوب سوريا فيها، ووجود قوات التحالف في المنطقة كعامل صد لمنع النظام من العودة، وقطع الطريق على تمدّد إيران فيها. والاستفادة من الإجراءات الخاصة التي اتخذتها الإدارة الأمريكية تجاه هذه المناطق، وأهمها القرار الذي أصدرته وزارة الخزانة الأمريكية منتصف ايار الماضي والذي يقضي بإعفاء مناطق في شمال سوريا من عقوبات قيصر (شرق وغرب). حيث تسعى الولايات المتحدة من وراء هذا القرار إلى تعزيز الاستقرار وإطلاق عملية التعافي المبكر فيها، والذي لا يمكن أن يتحقّق بدون تغيير الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا لنهجها القائم على التفرّد والاحتكار بما يتعارض ومفهوم الشراكة، وهذا ينطبق على السلطات الموجودة في غرب الفرات الخاضعة للنفوذ التركي والتي تدار من الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف.
إنّ الإدارة الأمريكية بحكم دورها ومسؤولياتها في مناطق شمال وشرق سوريا، وحتّى تحافظ على الأمن والاستقرار في هذه المناطق، وحتّى يكون لها دور في الوصول إلى حلٍ سياسي حقيقي وفق القرار 2254 من خلال تقوية الموقف التفاوضي للمعارضة السورية، فإنّها مطالبة بالضغط على الإدارة الذاتية للتخلّي عن أوهامها الإيديولوجية، واتخاذ قرارات صعبة ومؤلمة تبدأ من فك الارتباط مع حزب العمال الكردستاني بما يخفّف من التوتّر والعداء مع تركيا، وبناء علاقات طبيعية مع إقليم كوردستان العراق، والشروع بإعادة هيكلة الإدارة القائمة بحيث تُبنى على أساس الشراكة الحقيقية بين كافة المكونات، وضم كافة القوى السياسية التي تمثل هذه المكونات وأهمها جبهة السلام والحرية. وثم الانتقال إلى بناء جسور بين القوى الموجودة في مناطق شمال وشرق سوريا وتلك الموجودة شمال غرب سوريا كمدخل أساسي لتحقيق السلام والاستقرار والتنمية التي يتطلّع إليها السكان في هذه المناطق.
ثامناً: خلاصة:
على ضوء ما سبق يمكن تسجيل بعض الاستنتاجات والمواقف:
– هناك طبخة إقليمية يجري الإعداد لها بإيقاعٍ سريع باتجاه التطبيع مع النظام وإعادة تأهيله، ومن المرجّح أن يمضي قطار التطبيع التركي- السوري بضغوط روسية، ومن غير المستبعد أن نشاهد الأسد حاضراً في اجتماع الجامعة العربية في 14 ايّار المقبل وهو يحاضر على الزعماء العرب عن دحر المؤامرة الكونية وفضائل التضامن العربي. وفي غضون ذلك سوف تُفتح قنصليات وسفارات في دمشق وتعود العلاقات الثنائية بين النظام وغالبية الدول العربية.
– إنّ عمليات التطبيع لن تدفع اللاجئين السوريين على العودة خوفاً من بطش وانتقام النظام، في الوقت الذي يهرب فيه أعداد كبيرة من السوريين المقيمين في مناطق سيطرة النظام إلى الخارج.
– لن تتحسّن الأوضاع الاقتصادية والمعاشية للناس بسبب طبيعة النظام القائمة على الفساد والنهب وهي حقيقة تعرفها كل الدول اللاهثة وراء التطبيع معه.
– موجة التطبيع مع النظام، لن تغيّر من مناطق النفوذ القائمة على الأراضي السورية، ولن تُخرِج الجيوش والميليشيات الأجنبية من سوريا.
– لن توقف موجة التطبيع ضرب إسرائيل لمواقع إيران وميليشياتها.
– رغم تهميش دور المعارضة الرسمية المعترف بها دولياً، فإنّه لن يكون من الممكن الاستغناء عنها في مراحل لاحقة.
– يصعب إجراء مصالحة سورية- سورية مع التسليم ببقاء النظام (وفق فهم محور أستانا)، بدون إجراء حد أدنى من التغييرات كتشكيل حكومة وحدة وطنية ذات صلاحيات كاملة تشارك فيها المعارضة السورية الرسمية ثمّ إجراء تعديلات دستورية تليها انتخابات، وعودة اللاجئين وإطلاق المعتقلين طالما الجميع يتحدث عن القرار 2254 الذي تمّ إصداره في لحظة إجماع نادر في مجلس الأمن.
– إن الحراك الحالي لا يهدف إلى الوصول إل حلّ شامل للأزمة السورية، وإنّما يندرج في إطار تبريد الصراعات وكسب الوقت لمعرفة مآلات الحرب في أوكرانيا وتطورات الصراع بين القوى العظمى، وكذلك نتائج الانتخابات التركية، وانعكاسات الاتفاق السعودي الإيراني على بقية الملفات المتشابكة في المنطقة.
– إنّ مجمل هذا الحراك يأخذ بالاعتبار موقف الولايات المتحدة ومعها أوربا من التطبيع مع النظام، ولا يمكنه أن يحيد عن العقوبات المفروضة عليه، وإذا كانت الولايات المتحدة لا تتدّخل لكبحه حالياً، فالكلّ يعلم أن قدرتها على التعطيل هائلة.
من هنا يمكن القول: بأنّه لا تلوح في الأفق في الظروف الحالية، أيّة مؤشرات على حصول انفراج قريب في المسألة السورية التي طالت كثيراً، ومرشّحة لأن تطول أكثر في ظل خروج القرار من أيدي السوريين جميعاً، وفي ظل انشغال الدول الفاعلة في الملف السوري في الصراعات المستجدة على المستوى الإقليمي والدولي، بهدف ترتيب أولوياتها بما يتماشى ومصالحها.
تاسعاً: الخاتمة:
إنّ المنظمة الآثورية الديمقراطية ترى بأنّ الأزمة السورية في الجوهر هي أزمة سياسية، انفجرت بسبب سياسات وممارسات النظام الشمولي، ولا يمكن اختزالها بالشق الإنساني فقط على رغم أهميته في هذه المرحلة من ناحية تخفيف معاناة السوريين. وترى بأنّه لا يمكن الوصول إلى حلٍ شامل وسلامٍ مستدام في سوريا بمعزل عن تطبيق القرار 2254 الذي يؤكد على تشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات تُبنى بالشراكة بين المعارضة والنظام وهيئات المجتمع المدني من أجل تحقيق الانتقال السياسي الذي يتطلّع إليه السوريون، وذلك من خلال دستور جديد تشارك في صياغته جميع مكونات الشعب السوري، ثم انتخابات حرة تحت إشراف الأمم المتحدة، على أن يسبق ذلك تنفيذ إجراءات بناء الثقة بين كافة الأطراف، ويأتي في مقدّمة هذه الإجراءات، وقف إطلاق نار شامل، وإدخال المساعدات الإنسانية لكافة المناطق، والإفراج عن المعتقلين، والكشف عن مصير المفقودين.
إننا نرى أن هذا يستجيب لتطلعات الشعب السوري في إنجاز الانتقال من نظام الاستبداد إلى نظام ديمقراطي علماني يقوم على أسس الحرية والعدالة والمساواة، والمواطنة المتساوية، والشراكة الحقيقية بين كافة السوريين على مختلف انتماءاتهم القومية والدينية.
سوريا 29/4/2023
المنظمة الآثورية الديمقراطية
المكتب التنفيذي