يأمل السوريون أن تكون المراسيم والإجراءات الروسية الأخيرة مؤشراً على انفتاح الأفق أمام عملية انتقال سياسي، توقف نهائياً المقتلة السورية، وتطلق سراح المعتقلين، وتهيىء لإعلان دستوري انتقالي، يمهد لرحيل سلطة آل الأسد، والانخراط في عملية تحوّل سورية من الاستبداد إلى الديمقراطية.
ويستند أمل السوريين إلى الحملات الإعلامية الروسية الصاخبة التي وجهت انتقادات قاسية لرأس النظام، واتهمته بالفشل في إدارة البلاد، و” الانتقال من مرحلة الحرب إلى مرحلة السلام “. بل، ذهب بعضها إلى الحديث عن فقدانه القدرة على التحكم في الأمور ” بسبب اتساع رقعة الفساد والفاسدين من حوله “، فضلاً عن تدهور شعبيته إلى مستويات لا تؤهله للنجاح في أية انتخابات مقبلة.
لقد أتى الانخراط الروسي العسكري في سورية، في أيلول 2015، نتيجة عوامل متعددة الأبعاد الاستراتيجية، فلطالما شكل البحر المتوسط ” المياه الدافئة ” مجالاً لممارسة السلوك التنافسي مع القوى الدولية الأخرى، وهو ما يفسر اعتبار الوجود الروسي في المتوسط كضرورة تعاطت معها القيادات الروسية منذ القدم. وهكذا، يبدو واضحاً أنّ خلفيات هذا الانخراط تتلخص في محاولة روسيا العودة إلى المشهد السياسي الدولي، عبر بوابة المسألة السورية.
كما تشكل الجغرافيا السورية واحدة من الضرورات اللوجستية للمشروع الروسي في مجال الطاقة، وذلك لما تملكه من إمكانيات ربط بين مواقع الإنتاج ومناطق الاستهلاك، وكمعبر للغاز القادم من آسيا الوسطى، الواقعة تحت قوس السيطرة الروسية، ولربط استثمارات الغاز المكتشف في شرق المتوسط بالغاز القادم من إيران، وكمعبر إجباري لخطوط النقل المتجهة إلى أوروبا.
ومن أجل ذلك فإن الإجراءات والمراسيم الروسية الأخيرة تمهد الطريق للسيطرة على المزيد من المواقع والمنشآت المدنية والعسكرية السورية، إذ لا يعطي صك الانتداب لعام 2015 الحق لموسكو سوى بالحصول على قاعدة بحرية وأخرى جوية وعدد محدود من المواقع البرية، وهو الأمر الذي تجاوزته روسيا عملياً حيث باتت تسيطر على نحو مئة موقع حيوي، بما في ذلك حقول النفط والغاز والفوسفات إلى جانب القواعد العسكرية.
وفي تطور بدا أنه مرتبط بخطوة تسمية السفير مبعوثاً رئاسياً، نص المرسوم الذي وقّعه الرئيس بوتين في 29 أيار الماضي، بتفويض وزارتي الدفاع والخارجية العمل مع الحكومة السورية لتوقيع بروتوكول إضافي يوسّع الوجود العسكري الروسي على الأراضي السورية، ليكون ملحقاً بالاتفاقية الموقّعة في 26 آب 2015، والتي سمحت بوجود عسكري روسي دائم على الأراضي السورية. بالرغم من أنه لا يعطي روسيا تفويضاً مفتوحاً في سورية فحسب، وإنما يوفر لها صلاحيات واسعة في البر والبحر والجو دونما رقيب، ويخوِّلها امتيازات استثنائية مجنِّباً إياها أية محاسبة أو مسؤولية عن أي ضرر قد تتسبب به.
وفي الواقع لم يشبه العقد، الذي تمثل روسيا أحد طرفيه وبشار الأسد الطرف الآخر، أي شكل من أشكال الاتفاقات الدولية، ذلك أنه اتفاق بين دولة وشخص، ولا ملمح للدولة السورية في هذا الصك إلا من حيث هي مساحات يمنحها بشار الأسد للطرف الروسي من دون تبرير واضح.
ويبدو أن المراسيم الروسية الجديدة تمثل خطوة جديدة لإحكام الهيمنة على سورية، لإشباع نهم شركاتها التي تنتظر بحماس لحظة هدوء المدافع للانقضاض على الفرص الاستثمارية الموعودة. بعد أن غدت موسكو في حاجة إلى دفع مسار عملية الانتقال السياسي، لأن ” الإنجازات العسكرية ” التي تحققت على الأرض قد تواجه بمعوّقات عديدة بسبب الاستحقاقات المقبلة. إذ إن العملية تنهي ليس قانون قيصر وعقوباته فقط، بل أيضاً عذابات الشعب السوري وتقاسم أرضه بين أربعة جيوش روسية وأميركية وإيرانية وتركية.
وفي هذا السياق أتى تعيين بوتين، في 26 أيار، سفير بلاده ألكسندر يفيموف مبعوثاً رئاسياً خاصّاً له لـتعزيز العلاقات، مما يعني توسيعاً كبيراً للصلاحيات الواسعة أساساً، لتنفيذ استراتيجيات بلاده في سورية، وتحقيق أهداف محددة ستظهر لاحقاً بشكل أوضح. ولا يمكن فصل هذا التطور عن التوجه الروسي العام إلى تشديد التعامل بشكل فوري مع التطورات الجارية داخل سورية، وهو الأمر الذي استدعى تعيين المبعوث الرئاسي ليكون مشرفاً مباشراً وبصلاحيات واسعة على كل التحركات الروسية.
ولا شك أنها وظيفة تشبه في مضمونها منصب ” المندوب السامي ” الذي كانت تستخدمه الدول الأوروبية خلال فترة احتلالها، كما توازي منصب ” رئيس الإدارة المدنية ” الذي استلمه الدبلوماسي الأميركي بول بريمر بعد احتلال بلاده للعراق عام 2003. مما يعني إعلان الكرملين أن سورية صارت تحت السيطرة الروسية عسكرياً وسياسياً، والثانية هي أن بوتين سيحكم سورية بشكل مباشر، على أن تكون الصلة بينه وبين رأس النظام عبر يفيموف. ويبدو أن القيادة الروسية تسعى إلى قوننة هيمنتها، قبيل بدء المرحلة الثانية من التدخل الروسي بالانتقال إلى مرحلة الإعمار سياسياً واقتصادياً.
ولا شك أن ترتيب البيت الداخلي الروسي للملف السوري ومد ظل القيصر الروسي في دمشق، يكتسبان حالياً أهميتهما: قبل استئناف الحوار الروسي – الأميركي حول سورية الذي جُمّد نهاية العام الماضي، وجهود الإصلاح الدستوري لتنفيذ القرار 2254، وتنامي الحديث عن أهمية إعمار سورية، تجنباً للغرق في ” مستنقع سورية ” ومنع تكرار تجربة أفغانستان.
ويبدو أن روسيا تسارع الخطى لتدارك الاقتصاد السوري المنهار بشكل متسارع، وتحاول إنجاز أهداف محددة وإعادة تركيبه بطريقة تأمل أنها ستكون قادرة على مواجهة تداعيات قانون قيصر الذي يقترب موعد دخوله حيّز التنفيذ، وفي هذا السياق يجب النظر إلى الأزمة الحاصلة بين الأسد ومخلوف، ومطالبات النظام بدفع الأخير مبالغ طائلة لخزينة النظام.
لا تبدو الخطوة، ولا اشتباك النيران السوري – الروسيّ الذي سبقها، ولا إشاعات رحيل الأسد التي رافقتها، غريبة في سياق اقتراب تطبيق قانون قيصر الأميركي الذي سيبدأ معاقبة النظام السوري ورئيسه ومعاونيه والأفراد والشركات التي تقدم المساعدة للنظام، إضافة إلى استهدافه البنى التحتية والعسكرية ومواقع إنتاج الطاقة والكيانات الروسية والإيرانية التي تدعم النظام.
بخلقه واقعاً جديداً فيما يتعلق بسورية، فإن الاحتمالات ستكون مفتوحة بالنسبة لطريقة تعامل الكرملين مع الملف السوري.
وهكذا يجد الروس أنفسهم أمام خيارين: تغيير مقاربتهم للتسوية الدولية حول سورية، أو المغامرة بالغرق في مستنقع الحرب والفوضى المعمّمة وخسارة رهاناتهم.
ونحن في اللقاء السوري الديمقراطي نعتقد أن ما يثير الأمل عند السوريين اليوم هو ما يبدو من تغيّر في المقاربة الروسية بخصوص الحل السياسي، الذي يأتي نتيجة صفقة بين الأطراف الفاعلة في سورية، روسيا وأميركا وتركيا وإيران، تعنى بالتوفيق بين مصالح هذه الدول ومصلحة الشعب السوري في الخلاص من الاستبداد والانتقال الديمقراطي. ومن ثم كيفية تخلّصهم من أعباء مستوجبات هذه الصفقة مستقبلاً.
اللجنة السياسية في اللقاء السوري الديمقراطي
9 حزيران 2020