الرئيسية / اخبار اشورية / الأكيتو بين خيال الأسطورة وتجليات الواقع

الأكيتو بين خيال الأسطورة وتجليات الواقع

الأكيتو بين خيال الأسطورة وتجليات الواقع
بقلم الأستاذ سعيد لحدو
لم تأتِ احتفالات رأس السنة في حضارة بلاد مابين النهرين والتي وصلت أوج عظمتها خلال حكم الدولة البابلية الثانية في القرن السادس قبل الميلاد، إلا تعبيراً عن ذهنية متطورة في الفكر الفلسفي الديني القديم ومساعيه الدائمة لإيجاد تفسيرات معقولة للظواهر الطبيعية المختلفة والتي شغلت بال الإنسان منذ وجوده وما زالت. ورغم كل هذا التطور الهائل الذي حققه الإنسان على كل صعيد، فإن ظواهر طبيعية كثيرة مازالت عصية على الفهم والتفسير المنطقي. وقد كان هذا هو الدافع لإنسان بلاد مابين النهرين في البحث والاستدلال في غير ميادين العقل والمنطق المتعارف عليهما لفهم الطبيعة الأم وتجلياتها المختلفة والعنيفة في كثير من الحالات، فلجأ إلى الأسطورة مستخدماً مخيلته على أوسع نطاق كحركة التفاف ذكية منه للتوصل إلى نتائج ترضي طموح مجتمعه التواق إلى المعرفة. ولكي يُكسب تلك (الحكاية – الأسطورة) ماتستحقه من قيمة بالنظر إلى الأهمية التي علق الإنسان آماله وتطلعاته المستقبلية عليها، أُسبِغَ على تلك الأسطورة الطابع الديني وأُلبِسَتْ رداء الألوهية فتشكلت حولها هالة القدسية المرتبطة بالآلهة. وهذا الأمر هو ما حفظها لنا على مدى آلاف السنين، رغم كل الظروف والمتغيرات.
بالنظر إلى أن إنسان مابين النهرين ابتداءً بالسومري مروراً بالأكادي والبابلي والآشوري والآرامي وصولاً إلى أحفادهم وورثة حضارتهم اليوم من أبناء الشعب الكلداني السرياني الآشوري، اعتمد على الأسطورة بصورة أساسية لتشكيل وعيه الكوني المتقدم. ورغم أن هذا الإنسان لم يكن الوحيد في التاريخ القديم ممن استخدم الأسطورة للتعبير عن حالة دينية معينة وارتباطاتها بالظواهر الطبيعية، إلا أن هذه الحالة تميزت في مابين النهرين عن كل ما عرفته البشرية من ظواهر أخرى مشابهة بأسبقيتها المطلقة وشموليتها لكل جوانب الحياة. والأهم من كل ذلك، استمراريتها الفاعلة في حياة الناس وبصورة متواصلة في كل المراحل التي مر بها تاريخ الدولة الرافدية منذ بدء الخليقة مروراً بالعصر الآشوري الطويل، وهي لم تتوقف مع سقوط الامبراطورية البابلية الحديثة عام 539 قبل الميلاد. بل واصلت التعبير عن وجودها بأشكال وتجليات متنوعة حتى في العهد المسيحي. ولعل من أبرز تلك التعبيرات كانت الفلسفة التي عرفت بالغنوصية والتي طرحها الشاعر والموسيقار والفيلسوف برديصان الذي عاش في القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد، وهو ينحدر من أصول ملكية ترتبط بمملكة حدياب (أربيل الحالية) لكنه ولد وتربى وتعلم في الرها ومنبج قرب حلب. هذه الفلسفة التي ارتكزت على النجوم وتأثيراتها على حياة الإنسان ومصيره التي لا حيلة له بتجنبها. ولقد كانت هذه الآراء السبب الرئيسي في طرده فيما بعد من الكنيسة رغم أنه قدم للمسيحية في عهده مساهمات فكرية هامة. ولقد استمرت فلسفته تلك حاضرة في حياة الناس عبر أنصارها الذين عرفوا بالديصانيين، واستمر حضورهم النشط حتى القرن العاشر في بعض مناطق مابين النهرين إبان الحكم العباسي. ومازال حتى اليوم كثير من الناس في جميع أنحاء العالم يؤمنون بالأبراج وبالتأثيرات التي للنجوم على حياتهم ومصيرهم. نجد ذلك تقريباً في معظم الصحف والمجلات والوسائل الإعلامية الأخرى كالراديو والتلفزيون حول العالم عبر زوايا أو برامج خاصة مكرسة لهذا النوع من محاولات التنبؤ بالمستقبل والمصير. ولم يكن برج بابل الشهير إلا تكريساً لهذا النوع من علم الفلك الذي ارتبط بالأسطورة ارتباطاً وثيقاً لدرجة استحالة الفصل بينهما في ذلك الحين. ولم تكن إنانا وحبيبها دموزي عند السومريين، أو عشتار وحبيبها تموزعند البابليين والآشوريين، وأشكالها الأخرى التي تجلت بأفروديت عند الإغريق وفينوس عند الرومان وعشتروت عند الفينيقيين والزهرة عند العرب، لم تكن هذه مجرد إلهة وحسب وإنما كانت رمزاً حاضراً لكل مظاهر الطبيعة الخضراء والحياة المتجددة بالخصب والنماء وتفتح براعم النبات وتلاقح الحيوانات وإدرار الحليب، كتعبير آخر عن الفرحة العارمة والشاملة بعودة تموز إلى الحياة بعد مرحلة موات وسبات وقحط وقساوة شتاء قارس ببرده وصقيعه والانتقال إلى ربيع دافئ تزينه أضرعة الخصب والتوالد والزهور المتفتحة بهجة وحبوراً. وليس من العبث أن تكون قيامة السيد المسيح وكذلك أعياد الفصح لدى اليهود في بداية هذا الفصل. وكلمة الفصح كما هو معلوم تعني في اللغة السريانية الفرح والسعادة.
لعل ما يربطنا أكثر بالأسطورة التي تجذرت في الواقع الحياتي لشعب مابين النهرين هو بعض السلوكيات التي توارثها هذا الشعب مع مرور الأجيال وما زال يحافظ على التمسك ببعضها حتى يومنا الحاضر. ففي بعض مناطقه الريفية مازال العرف سائداً أن تخرج الفتيات في الأول من نيسان من كل عام ليغسلن وجوههن بندى الربيع المتجمع على أوراق الورود والأعشاب تيمناً على أمل مجيء العريس الذي تحلم به الفتاة. وكذلك تخرج النساء لتجمع بعضاً من قطرات الندى تلك لتخمِّرَ بها الحليب ليصبح لبناً والعجين خبزاً عوضاً عن الخميرة المعتادة وتجديداً سنوياً لتلك الخميرة. ولا يخفى ما لهذا السلوك من ارتباط مباشر بعشتار كإلهة للخصب وأسطورتها التي نسيها الناس لكنهم لم ينسوا عاداتهم التي ارتبطت بها مواظبين على ممارستها في الموعد ذاته من كل عام. كما هي عادة تكسير الأواني الفخارية والزجاجية في الأول من تموز كتعبير آخر على التفاؤل بالخير وطرد نذر الشر من حياة الناس. كذلك يعتبر الأول من نيسان عيداً فولكلورياً وشعبياً إذ يخرج السريان الآشوريين الكلدان بكل فئاتهم ومن كل الأعمار إلى أحضان الطبيعة للاحتفال بمظاهر الخصب وتجدد الحياة بشكلها الأكثر وضوحاً في عناصر الطبيعة. ولعل كذبة الأول من نيسان الشائعة في معظم دول العالم اليوم تعبير آخر عما كان يفترض أن يتم الاحتفال به في السياق الديني القديم، ولكن بعد التحولات الدينية الكبرى إلى المسيحية والإسلام ورفض كل العادات والقيم الموروثة من العهد الوثني، استعيض عن تلك الاحتفالات بالكذبة البيضاء إياها بحكم العادة التي لم يتمكن الناس من نسيانها.
إن الأسطورة التي طالما اعتقد كثيرون في العصور الحديثة أنها مجرد حكاية خرافية صاغها الأقدمون كنوع من الفانتازيا الدينية، مازالت هذه الأسطورة تسكن في لاوعينا الإجتماعي وما زالت حاضرة في حياتنا اليومية بأشكال وممارسات مختلفة. فهي ليست مجرد شطحات خيالية كما قد تبدو لأول وهلة، وإنما كانت محاولة لربط الظواهر الواقعية برؤى ميتافيزيقية بدت على الدوام محيرة للعقل البشري العاجز عن إيجاد التفسير المنطقي المحسوس لها. من هنا جاءت الأسطورة لتمنح الإنسان بعضاً من الطمأنينة حول مصيره ومستقبله لينطلق بثقة ودون خوف لبناء أسس متينة لحضارة إنسانية عظيمة تسعى لانتشال الإنسان من حالة الهمجية إلى مواقع أرقى في سلم المدنية والتطور. فكانت مابين النهرين البلاد التي سيشع منها نور الحضارة ويضيء سماء التاريخ البشري وما تزال بعض تجليات تلك الحضارة ماثلة بقوة في الحياة الإنسانية المعاصرة، حيث مازال التقسيم البابلي للزمن والتقويم السنوي وأسماء الأشهر والأيام وكثير غيرها مسألة مسلَّم بها لدى كل المجتمعات البشرية في أيامنا هذه. فهل سنرى أرض الرافدين وقد عادت إليها عافيتها لنشهد مجدداً أعياد الأكيتو والمواكب تجتاز بوابة عشتار في استرجاع حي للصورة الحضارية العريقة التي شهدتها يوماً هذه البلاد؟

شاهد أيضاً

المنظمة تهنئ حزب بيث نهرين الديمقراطي بذكرى تأسيسه

31-10-2024 زار وفد من المنظمة الآثورية الديمقراطية مقر حزب بيث نهرين الديمقراطي في مدينة أربيل …