24-04-2019
“نحن أقوياء بالحق، ولن يجبرنا أحد على التخلّيّ عن ذاكرتنا، أو التنازل عن أحلامنا، ولن نلوذ بالصمت، أو نقول أنّه لم يحصل شيئ”
سميرة عيسى
ننشر لحضراتكم كلمة المنظمة الآثورية الديمقراطية التي القتها الرفيقة سميرة عيسى في الذكرى 104 لمذابح سيفو ܣܝܦܐ.
كلمة المنظمة الآثورية الديمقراطية
بمناسبة الذكرى 104 لمذابح الإبادة الجماعية ( سيفو )
كيف يمكن للذاكرة أن تنسى، وهي مازالت تنزف صورا تنطق بالبطش، وترتسم فيها أجزاء من أشلاء بشريّة تحوّلت إلى مجرّد أرقام مرعبة تتداولها الحكايات؟ كيف لها أن تهدأ، وهي تتأمّل التاريخ، وأعينها مفتوحة على حقائق دامية ترويها قصص الموت وأنين الوجع الإنساني..؟
كيف يمكن لهذا العالم الصامت أمام بكاء إمرأة ثكلى، وطفل يتيم، وألم نازح، تقطّعت به السبل، ولم يبق له سوى بعض الحنين لأرضه وبيته وضيعته؟ كيف يمكن لهذا العالم أن يستمرّ باستهلاك مفردات تقدّس الكذب والزيف، وتتستّر على الجناة.. وتظلّ وفية لسكوتها المخزي أمام شهوة قاتل لا يردعه ضمير ولا يوقفه خلق إنسانيّ..؟
ضيوفنا الأكارم.. أعزاؤنا الحضور
ما يجمعنا اليوم هو ذكرى وذاكرة.. ذكرى مجازر الإبادة الجماعية (السيفو) التي تعرّض لها شعبنا السرياني الآشوري، والتي كانت واحدة من أخطر المحاولات لإنهاء وجود شعبنا وإخراجه من التاريخ. وذاكرة جماعية أبت النسيان، ذاكرة اختزنت في ثناياها كلّ عناصر الهوية، واستجمعت ما استطاعت من إرادة وإصرار وتحدّ للعمل كشاهد إثبات على قسوة التاريخ والاستخفاف بالحقّ. ذكرى أعطتنا الزاد الكافي للاستمرار في نضالنا من أجل الدفاع عن وجودنا، والتمسّك بقضايانا وحقوقنا.
الأخوات .. الإخوة الحضور
إنّ جريمة الإبادة الجماعية (السيفو) التي راح ضحيتها حوالي نصف مليون شهيد من أبناء شعبنا الكلداني السرياني الآشوري، حصدتهم يد الغدر والهمجية في آمد (دياربكر) وطورعبدين والرها وماردين وحيكاري وأورميا وسعرت وآزخ والبشيرية وغرزان وغيرها، وكذلك مليون ونصف أرمني وعشرات الآلاف من اليونان البونتيين، الذين امتزجت دماؤنا معهم في معمودية الدم والشهادة.
هذه الجريمة، لم تحصل صدفة واعتباطا، ولم تكن نتاج تأجّج أو فوران آنيّ وفجائي للمشاعر الدينية، أو إنفلات عشوائي للغرائز البدائية. وإنّما كانت جريمة منّظمة، توّفرت فيها كلّ العناصر، من حيث التخطيط والإعداد والتنفيذ والتوقيت. ولم تكن معزولة عن المناخ السياسي الذي ساد السلطنة العثمانية آنذاك. إذ سبقتها بروفات على القتل والتطهير الديني والعرقي، بدأت مع مذابح عام 1895-1896 التي أمر بها السلطان عبدالحميد، ومجزرة أضنة عام 1909 التي ارتكبها الاتحاديون الأتراك. وشجّع هذا قادة الاتحاد والترّقي أنور وطلعت وجمال باشا السفاح على المضيّ في مخططاتهم الاستئصالية، من أجل تحقيق حلمهم الطوراني العنصريّ القائم على فكرة الدولة العرقية الصافية. ففي الرابع والعشرين من نيسان عام 1915 تم اعتقال اكثر من 250 من النخب الأرمنية حيث تمت تصفيتهم جميعا، وكذلك الأوامر للجيش العثماني المدعوم من الفرق الحميدية المشكّلة أساسا من أبناء بعض العشائر الكردية والشركسية، للبدء بتنفيذ أعمال القتل والنهب والتهجير ضد السكان الأبرياء من أطفال ونساء وشيوخ، ولم يسلم منها رجال الدين والكتّاب الأحرار مثل آشور يوسف والمطران أدّي شير وبشار حلمي بورجي والمطران توما أودو والبطريرك مار شمعون بنيامين.. وغيرهم الكثير ممّن سقطوا ضحية مشاعر الحقد والتعصّب القومي والديني التي أيقظتها وأجّجتها سياسات الاتحاديين الشوفينية، وهيّأت الظروف والمناخات لارتكاب أعمال وحشية تحت شعار الجهاد المقدّس.
تصنّف جريمة السيفو، وفقا لكل المعايير والمرجعيات القانونية والسياسية والأخلاقية، كجريمة إبادة جماعية متكاملة العناصر والأركان، ويؤكّد ذلك وثائق وأدلّة دامغة تحفل بها أرشيفات الدول بما في ذلك الأرشيف التركي، كما تدعمها شهادات سفراء وقناصل الدول العظمى الذين عاينوا وعايشوا الكثير من فصولها وأحداثها. والكثير من الباحثين والمؤرّخين المختصّن والسياسيين الذين تناولوا مذابح السيفو، توصّلوا إلى خلاصة تؤكّد بأنّها كانت ذات أبعاد وخلفيات سياسية، وأنّها نفذّت بعد أن شعرت تركيا في نهاية القرن التاسع عشر بنمو الوعي القومي والفكر السياسي عند الشعوب القابعة تحت سيطرتها، فاستغلّت ظروف الحرب العالمية الأولى للقضاء على أيّة نزعة تحرّرية قد تبرز هنا أو هناك. وصبّت جام حقدها ضد رعاياها المسيحيين، نتيجة لعجزها عن مقارعة دول الغرب.
هنري مورغنتاو سفير الولايات المتحدة الأمريكية بين عامي 1913- 1916 والذي أصبح لاحقا وزيرا لخارجية بلاده فيقول في كتابه ” قتل أمّة “: ” في ربيع عام 1915 وضع الأتراك خطّتهم لإبادة الشعب الأرمني، فقد دفع التعصّب الديني عند الغوغاء والرعاع الأتراك ومن معهم من الأكراد لذبح معظم الأمم المسيحية التابعة لهم من أرمن وكلدان سريان آشوريين ويونانيين، وجميعها عانت من نتائج سياسة جعل تركيا بلدا حصريا للأتراك..”
المؤرّخ التركي تانير أقجام يؤكّد أيضا على وجود التخطيط المسبق فيقول: ” إنّ اللجنة المركزية للاتحاد والترقي التي كانت تترأس الحكومة العثمانية، قد اتّخذت قرارا بإبادة الأرمن والمسيحيين، وأنّ كلّ من أنور وطلعت وجمال باشا كانوا أعضاء في الحكومة آنذاك واعتبروا مذنبين وحكم عليهم بالإعدام، لكنّهم أفلتوا من العقاب. ”
إنّ جرائم الإبادة الجماعية كما هو معروف لا تموت بالتقادم، وتركيا باعتبارها الوريثة للحكم العثماني، تتحمّل كامل المسؤولية التاريخية والقانونية والسياسية عن تلك المجازر، وما تمخّض عنها من نتائج كارثية على وجود شعبنا. حيث أدّت إلى حصول خلل ديمغرافي كبير تناقص بموجبه وجود شعبنا والوجود المسيحي في جنوب شرق تركيا إلى مستويات تكاد لا تذكر، وترافق هذا مع تغيير قسري في الواقع الحضاري والإنساني، تلاشت معه منظومات حياة متكاملة ثقافيا ودينيا ولغويا واجتماعيا كانت قد تراكمت وازدهرت عبر آلاف السنين.
الأعزاء الحضور
لقد ذاق أبناء شعبنا مع الأرمن بعد مأساة الإبادة، مرارة إنكار عذاباتهم وآلامهم. فالحكومات التركية المتعاقبة مازالت على مواقفها الرافضة من الاعتراف بالمجازر، وهي تسعى بكل الوسائل للتهرّب من مسؤولياتها القانونية والسياسية، يشجّعها على ذلك، غياب أيّ ضغط جدّي بسبب تغليب الدول لمصالحها، ما وفّر الذرائع لتركيا للتصلّب وإنكار الجريمة، وصولا إلى تحميل الضحايا وزر اقترافها، والسعي الحثيث إلى دفعها إلى مجاهل النسيان، عبر تشويه الحقائق تارة، وتارة أخرى عبر تمييع القضية وإحالتها إلى مختصّي التاريخ بهدف تفريغها من مضامينها السياسية والقانونية.
إنّ ردّ الفعل الدولي تجاه مذابح شعبنا، ما زال دون المستوى المطلوب، وكان أقلّ بكثير منه تجاه مذابح الأرمن واليونانيين، لأسباب معروفة، وللأسف فإنّ الدول العربية بما فيها سوريا التي يعيش فيها الكثير من أبناء وأحفاد ضحايا سيفو، لم تحرّك ساكنا تجاه هذه القضية، حرصا منها على مصالحها من جهة، ولأنّ الكثير منها يتشابه مع تركيا في نفس المنظومة الاستبدادية الإقصائية.
إنّ ضعف التفاعل مع قضية شعبنا، حفّز المنظمة الآثورية الديمقراطية وفروعها في المهجر، للتحرّك المنسّق مع اتحادات الأندية الآثورية في أوربا، ومع كافة أحزاب ومؤسسات وشخصيات شعبنا لإثارة هذه القضية وتعريف المجتمع الدولي بحقيقة المجازر، وذلك من خلال المحاضرات والمؤتمرات والاعتصامات ونشر وتوزيع الكتب والوثائق المتعلقّة بالسيفو، وتعاونت كذلك مع مع النشطاء الأرمن واليونانيين، والكثير من النشطاء الأتراك أيضا. وأسفرت هذه الجهود عن تحقيق بعض الاختراقات في جدار الصمت والكتمان الذي أحاط بقضية السيفو. وأقيمت العديد من النصب التذكارية في العديد من دول أوربا وأميركا واستراليا، وأجري تصويت من قبل برلمانات عديدة للاعتراف بهذه الجريمة، والنجاح الأبرز تمثّل باعتراف برلمان السويد في 13/3/2010 بمجازر الإبادة الجماعية التي قام بها الحكم العثماني عام 1915 ضد الكلدان الآشوريين السريان والأرمن واليونانيين.
إنّنا ندرك أنّ إمكاناتنا لا تقاس بإمكانات الدول، وهي أقلّ بكثير من إمكانات الدولة التركية، وندرك بأننا أضعف من أن ندخل في صراع معها أو مع غيرها، وقد يكون صوتنا أخفت من أن يصل لأسماع الكبار الذين لا يلتفتون سوى لصوت ولغة المصالح. لكنّنا أقوياء بالحق، ولن يجبرنا أحد على التخلّيّ عن ذاكرتنا، أو التنازل عن أحلامنا، ولن نلوذ بالصمت، أو نقول أنّه لم يحصل شيئ.
عندما نستذكر هذه المذابح، فإننا لا نهدف من وراء ذلك لإثارة الأحقاد والضغائن، أو المطالبة بالثأر، وإنّما من أجل استعادة القيم الإنسانية المفقودة، وإيقاظ الضمير الإنساني عند أطراف المجتمع الدولي وفي مقدمته تركيا، لنبذ كلّ أشكال التعصّب والكراهية بين الشعوب، ومنع تكرار هذه المجازر المروّعة، ومن أجل إشاعة ثقافة الاعتراف والاعتذار والمسامحة والغفران، ودفع تركيا إلى تبييض الصفحات السوداء من تاريخها، والتصالح مع شعوبها وماضيها. وهذا لايمكن أن يتحقّق بدون الاعتراف بهذه المذابح والاعتذار عنها وطلب الصفح والغفران من أبناء وأحفاد الضحايا وما يترتب على ذلك من تعويضات وإعادة الحقوق والأملاك لأصحابها الأصليين. بهذا فقط تستطيع تركيا إثبات مصداقيتها وتنمية دورها القيادي في المنطقة، وتأكيد أهليتها لتقديم النموذج الديمقراطي الذي تحاول الترويج له كمقدّمة لدخول الاتحاد الأوربي.
وفي الوقت الذي نتذكّر كلّ هذا، فإنّه من المهمّ جدا أن نتذكّر أيضا أنّ الكثير من أبناء شعبنا ومن المسيحيين، نجوا من القتل والذبح بفضل مساعدة مخلصة تلقّوها من إخوة لهم من العرب والأكراد والأتراك واليزيديين الذين انحازوا لأصالتهم الإنسانية، ووقفوا مع أخيهم الإنسان حتى ولو كان من دين مختلف أو قومية مختلفة، دون أن يكترثوا للتبعات والأثمان مهما كانت باهظة.
سوريا 24/4/2019
المنظمة الآثورية الديمقراطية
المكتب التنفيذي