في العيد الستين للمنظمة الآثورية، الشاعر والكاتب ابراهيم اليوسف يكتب:
استطاعت المنظمة الآثورية- وفق استراتيجات نضالها خلال فترة الثورة- أن تكون في قلب الحدث الجاري- إلى جانب سواها- من خلال خيارها في الوقف مع المقموع في وجه القامع، مع الضحية في وجه القاتل، وقد كان طبيعياً أن يكون لهذا الموقف ثمنه.
نص المقالة:
بيتنا”الجزراوي”
إبراهيم اليوسف
أدين لمدينة-قامشلي- وهي صورة مختصرة عن منطقة الجزيرة كلها أنها كانت تجسد مفهوم لوحة الفسيفساء التي ما إن كنا نشير إليها، أيام اشتداد قبضة النظام الدكتاتوري في سوريا حتى نواجه بمن يستفزُّه هذا المصطلح الذي كان يقوض-بحسب تفسيره- للوحة أحادية اللون التي كان يكرسها، منذ بلوغ الفكر القومي العنصري من لدن الناصريين والبعثيين أوجه، وبات يفرض على أبناء المكان تاركاً وراءه آثاراً كبيرة، كان من شأنها تخريب الكثير، لتفشل-في المقابل- في استكمال مخططها التذويبي في بوتقتها الضيقة.
وإذا كنت أعني بإشارتي إلى ما خربته هذه السياسات التمييزية من علاقات تاريخية بين أبناء المكان، ضمن إطار محدد، وجعلت الأجيال اللاحقة تتنكر لتاريخها، وحتى أصولها، من خلال التناغم مع سياسات التذويب، وكانت بقية الألوان غير المعترف بها في اللوحة مستهدفة، إذ كان يتم الاشتغال على أصل” الآشوريين” “العربي” أو أصل الكرد” العربي”، وكان اشتغالهم على هذا السلوك التذويبي يقابل بدرجات مختلفة تنوس ما بين الرفض والقبول، كان هدفها الرئيس، الأول:عزلة الكردي، وسلبه أية رئة من رئاته الحقيقية، والعزل بينه والمكونات، ضمن متوالية عزل المكونات كلها وتقوقعها، ليجد في بعض من نادوا بعبارة”أمتنا العربية” من أوساط محددة، بالرغم من آباء هؤلاء لم يكونوا ليتكلمون إلا بالكردية أو السريانية -على سبيل المثال- فانقطع هؤلاء عن فضائهم الروحي، وإن كان ذلك يتم من خلال اختراق المجتمع عبر أبعاض المزيفين، من الحرباوات الذين كانوا الأداة الأولى في تنفيذ سياسات النظام، وتحقيق هذا التخريب في الجسد الاجتماعي، وإن كان ذلك يتم على قاعدة استيراث وبائيات تاريخية ولدت من رحم استبداد سابق حكم المكان، وبات هو الآخر، عارياً على حقيقته، بعد أن مارس أول تهجير وتشتيت لأبناء خريطة المكان الكبرى.
من هنا، فقد وجد أهلنا الآثوريون- سريان وآشوريين..إلخ- أنفسهم في مواجهة آلة تستهدف وجودهم، وإن بطريقة”ناعمة”، لكنها كانت جد خطيرة، إذ إنه بالرغم من السماح لهم بافتتاح مدارسهم الخاصة- مقابل الرسمية- لتدرس فيها اللغة السريانية، كما الأرمنية، لأنهم الأقل خطراً، في تلك المرحلة، إلا أن كل ذلك كان في إطار ماكنة الهضم. حيث كانت هناك أكثر من رسالة داخلية وخارجية وراء هذا الاستثناء الضئيل، المحسوب، في خدمة الهدف التذويبي نفسه، في نهاية المطاف.
أمام مواجهة سياسات المحو، والعزل التي انتهجها شوفينيو الحكم، في مرحلة نظام الأسدين الأب والأبن- من جهة- وما قبلهما من جهة أخرى، استطاعت-المنظمة الآثورية الديمقراطية في سوريا- أن توسع دائرتها-تدريجياً- بعد أن باتت تخرج من إطارها السري إلى الإطار العلني، في منتصف الثمانينيات-كما يخيل إلي- أو كما التقطت دائرة وعيي هذا التنظيم، من خلال أصدقاء: آشوريين وسريان، منهم من كانوا شيوعيين، بل من عداد أسر أوائل شيوعيي المكان، وكانوا يساريين في أطروحاتهم، وقد توسعت دائرة التنظيم عندما بات يخوض انتخابات ما يسمى ب” مجلس الشعب” كممثل عن أهلنا السريان والآشوريين، بعيداً عن العامل الديني الذي عنوانه: المعابد، مسيحيين كنا، أم مسلمين، أم إيزيديين أم يهوداً وغيرهم….!
طبيعي، أن يتخذ النظام موقفه من هذه المنظمة، ويستخدم كل أدواته لكبح مسيرتها، بكل الوسائل، بما في ذلك: الاعتقال التعسفي، الذي تعرض له بعض وجوهها، إلا أن المنظمة استطاعت من خلال انفتاحها على اللوحة الطبيعية في المكان، بمن فيهم: الكرد، باتت تكتسب احترامها، وأتذكر أننا لطالما شاركنا في-أعياد رأس السنة الآثورية- إلى جانب حضور الندوات والاحتفالات المناسباتية التي كانوا يقومون بها.
ما يسجل لهذه المنظمة، أنها استطاعت أن تواجه أكذوبة استيعاب النظام لمن سميوا ب”الأقليات” وهم في الحقيقة من مكونات المكان، وكانت في ذلك جرأة كبيرة- أية كانت درجة وشكل المشاركة- بل إنها تصرفت- وبشكل صحيح- لمشاركة المعارضة السورية في موقفها من النظام، وإن كان هناك، من بدا من بين هذه المعارضة نفسها غير حامل إلا لهمه الشخصي، ومآربه، على حساب الدم السوري، ما استوجب أن يكون ممثلو أية واجهة عريقة بقدر المسؤولية، ذي تاريخ نضالي-داخل وطنه- غير قابل للصرف، مستكمل الشروط النضالية شأن رفاقه- في الداخل- الذين تسجل لهم بطولاتهم في التشبث بالمكان، والذود عنه، بعيد تكاثر أذرعة العنف المسلح، وبلوغ الأمر أوجه من قبل الإرهاب الداعشي الذي استهدف أهلنا- المسيحيين- على نحو خاص، في أعيادهم، ومناسباتهم، كما استهدفوا الكرد في حرم عيد الأضحى، ليغدوا جميعاً أضحيات هؤلاء، مسلمين، أو غير مسلمين، وفق موازين مموليهم، ومسانديهم، وراسمي خرائط الدمار والدماء.
ومدينة”قامشلي” التي تعرفت فيها، منذ بداية وعيي على نخبها الثقافية والسياسية- كما حياتها المدنية- كانت ذلك الفضاء التنوعي، الخصب، لعلاقات مائزة، بالرغم من محاولات السلطة إعلاء جدران العزل بين المكونات، بالإضافة إلى محاولات زرع ثقافة الكراهية التي كانت تفشل، وقد لعبت على سبيل المثال على حبال التفريق فهذا برزانوي والآخر كتائبوي أو صداموي إلخ، وقد واتته الفرصة في العام2004 أن يوصل بلعبته إلى أوجها، ولم تتوقف هذه اللعبة عند بداية الثورة، بل لماتزل إلى اللحظة، إذ تم شرخ مالم يشرخ، وإن كانت إرادة الخير هي الغالبة في هذا المهاد.
استطاعت المنظمة الآثورية- وفق استراتيجات نضالها خلال فترة الثورة- أن تكون في قلب الحدث الجاري- إلى جانب سواها- من خلال خيارها في الوقف مع المقموع في وجه القامع، مع الضحية في وجه القاتل، وقد كان طبيعياً أن يكون لهذا الموقف ثمنه، إذ صارت أسماء قيادات هذا التنظيم مطلوبة من قبل النظام الذي يدعي انفتاحه على من يسمون ب”الأقليات” وفي هذا ما يدحض مزاعمه لأنه يريد جنوداً منفذين، لا عقولاً ناقدة، وإرادات نظيفة، ولا ضمائر حية إنسانياً ووطنياً وأخلاقياً.
إن المرحلة المقبلة هي الأكثر خطورة، على المستويات كافة، لذلك، فإنه للزام على أبناء اللوحة الواحدة، أية كانت، أن تكون في مستوى التحديات اللازمة، ومؤكد، أن أهلنا- المسيحيين- ولكم يؤلمني أن التحدث في الجزئيات والتوصيفات خارج منظومتي المفاهيمية- هم جديرون بأداء مايترتب عليهم من مهمات جسام، شأن غيرهم، من شؤكاء المكان، يداً بيد، في مواجهة أشكال الاستبداد، والعنف، والمحو، والإرهاب، كافة، من أجل بناء مهتد يشبهنا جميعاً…!