آدو نيوز – متابعات: نشرت صحيفة الحياة في عددها الصادر أمس الإثنين، تقريرا من إعداد الصحفي السوري بهزاد حمو، تناول فيه أوضاع القرى الآشورية عقب اجتياح تنظيم داعش الإرهابي لها. والتقى حمو خلال جولته الميدانية في المنطقة عددا من أهالي بلدة تل طال ممن يعملون على إعادة بناء قريتهم تمهيدا للعودة إليها. أدناه نص التقرير:
«نهاد، إيفلين، نعيمة، إلياس، أنطونو، أنكيدو، دافيد، والكلب بيشو…» هذه الأسماء يتردد صداها اليوم في صمت قرية «تل طال» الآشورية. القرية الوحيدة المأهولة على ضفة الخابور الجنوبية، بعد أن كانت مع أكثر من عشر قرى آشورية أخرى، مسرحاً لحرب قال جميع الأطراف إن المستهدف فيها هو «وجودها».
أوائل حزيران (يونيو) 2015 أُخرج تنظيم «الدولة الإسلامية» من القرى الآشورية التي كان قد سيطر عليها نهاية شباط (فبراير) من العام نفسه. وكان التنظيم قد احتجز خلال ذلك الهجوم الخاطف قرابة 300 مواطن آشوري، أفرج عن معظمهم لاحقاً، مقابل فدية مالية ضخمة، بعد مفاوضات سرية وشاقة، قادتها «كنيسة المشرق الآشورية». من جهة أخرى، أدى الهجوم إلى إفراغ كامل القرى الآشورية على الضفة الجنوبية لنهر الخابور، حيث وثقت الشبكة الآشورية لحقوق الانسان نزوح 1300 عائلة إلى مدينتي الحسكة والقامشلي، عقب هجوم التنظيم. ومن دون أية خطط لعودة قريبة، أمست تلك القرى مقابر ممتدة على طول سرير النهر.
شبكة العلاقات الجديدة
على بعد كيلومترين فقط، من قرية تل هرمز المدمّرة والموحشة، الفارغة تماماً من أهلها، ثمة خيط حياة يتبدى، حيث بدأت مجموعة من أهالي قرية «تل طال» الآشورية، تضم 12 شخصاً، بإعادة ترتيب القرية وتنظيفها وإزالة الركام وتصليح بعض منازلها الطينية الفارغة، ناهيك عن زرع وجني محاصيلها. وبجهـود سيدتي القرية الوحيدتين، إيفلين ونعيمة، وضّب العائدون ركام وأعمدة كنيسة «القديس مار أوديشو»، لتبدو الكنيسة المنسوفة وكأنها منزل ريفي يتم إصلاحه.
«حزيران العام الفائت، اجتمعنا في مقر المنظمة الآشورية بمدينة الحسكة، وطرحنا قضية العودة إلى القرية، إلا أننا واجهنا معارضة كبيرة». يقول أنطونو. فضّلتْ غالبية أهل القرية، البقاء في مدينة الحسكة وتأجيل هذا القرار «الخطير». في نهاية الاجتماع أصرَّ 12 شخصاً على العودة إلى تل طال، اعتباراً من «يوم الغد» (3 حزيران) بعد أن تلقوا «تطمينات» من مجموعة من شباب القرية، كانت تراقب المعارك في قريتهم، من قرية تل سكرة على الضفة الشمالية للنهر.
توقف السائق الذي كان يقلّ المجموعة «المغامرة» (من مدينة الحسكة)، على بعد 3 كيلومترات من تل طال، رافضاً إكمال الرحلة، بعد أن «حذرتهم الوحدات الكردية من دخول القرية بسبب الألغام». أكمل العائدون المسافة المتبقية مشياً، وسط الأراضي الزراعية الممتلئة بمخلفات الحرب.
يقول نهاد، وهو خمسيني آشوري يشرف اليوم على المشاريع الإنتاجية الجديدة في القرية: «عندما وصلنا كانت القرية خراباً والألغام تملأ الأرجاء مع ما تبقى من أثاث المنازل المبعثر».
يحتل نهاد في شبكة العلاقات والأدوار المتشكّلة عقب العودة، والمتفق عليها ضمنياً، موقعاً مهماً في النقاشات اليومية التي تدور بين مجموعة العائدين. يبدو الرجل صاحب القرار الأخير في ما يخصُّ استثمار خيرات القرية وأراضيها لمصلحة المجموعة، فقد كان وفق ما تحدث، أول من شجع العائدين لجني ما تبقى من محصول القمح لموسم 2015. نسأل نهاد عن مصير انتاج الموسم الفائت،وهل وصل شيء منه إلى أصحاب الأراضي، النازحين أو المهاجرين، يردُّ بانفعال: «تريد منا أن نرسل لهم نتاج أراضيهم التي تركوها بعد أول رصاصة؟ لن نرسل لهم شيئاً، ونحن أحقُّ بها». في المقابل، لم يرضخ الأهالي لتهديدات التنظيم، بمصادرة مواسمهم.
قرية تل طال
قبــــل الهجوم، كانت 50 عائلة تقطن قريـة تل طال، تعتمد في معيشتها على تربية الأغنام والزراعة، مثل عموم القرى الآشورية على ضفــتي الخابور والبالغ عددها 34 قــــرية. حيـــث تبلغ المساحة الـــزراعيـــة فــــي تل طال وحدها، نحو 4 آلاف دونم. معظمها اليوم تحت تصـــف نهاد ورفاقه. إلى جانب قطاع الزراعة حيث تبشّر الظروف بمــوسم وفيـــر، في تل طال اليوم قطيع أغـنام يصل إلى 200 رأس، تشاركت المجـموعة في شرائه. بادر كل فرد بشراء 10 إلى 20 رأساً، وبهذا سدّوا الباب أمام دخول الرعاة الغرباء إلى قريتهم بحجة توافر المراعي فيها، «وهذا هو الأهم». تقول إيفلين.
إيفلين زوجة نهاد، وموظفة فـــي قسم البريد بمدينة الحسكة، لم تكــــن تربطهــا بالقرية أية علاقة قبل الحادثة، كما تعـــترف وكثيراً ما حــاولــت اقناع زوجــها نهاد بالانتقــــال للعيش في الـــمدينة. إلا أن الحادثة بدّلتْ مشاعر إيفلين تجاه تل طال، فهـــي تجد اليوم في مجتمعها الصغير، دوراً مهماً لتلعبه. جميع أهل القرية يعلمـــون بأن إيفلين هي التي أزالت الركام والأحجار المتطايرة حول كنيسة مار أوديشو، التي فجّرها التنظيـــم كباقي الكنائس المجاورة. وبجـهودها أيضاً صار في إمكان دافيد أن يدق أجــــراس الكنيسة كل يــــوم قبيل غروب الشمــس. تقول إيفليـــن: «قضينا أياماً أنـا ونعيمة والشبـــاب في إبعاد الركام عن حجرة الناقـــوس، والتـــي لم تتضرر كثيراً، بقدرة الرب». لا تخــفي إيفلين خشيتها من مصير القرية، في حال لم ترجع البقية. ولا تخفي أيضاً «تساؤلات مقلقة كثيراً ما تراودها في عتمة تل طال، عن جدوى بقائهم في القرية على هذا النحو».
في شبكة العلاقات والأدوار إياها، يحتل السبعيني إلياس عنتر، موقع «حكيم تل طال»، على اعتبار تاريخه السياسي. وعلى خلاف الثياب الريفية التقليدية التي يرتديها بقية العائدين، يرتدي السيد إلياس بزة رسمية أنيقة وربطة عنق. ينشط الرجل في صفوف المنظمة الآشورية الديمقراطية منذ الثمانينات، حيث خاض تجربة الاعتقال في سجون حافظ الأسد. يروي فصولاً من تجربة اعتقاله، وبفخر يتحدث عن «مناضل آشوري»، حفر رموزاً آشورية على جدران السجن. «لتشهدَ على مرور الآشوريين من هنا يوماً». كما ينقل عنه إلياس. بابتسامة خفيفة، يلمّح إلياس إلى أهمية دوره في «نشر الوعي القومي» بين أهالي تل طال، وإلى تأثير تلك «الدروس» يُرجع عودة مجموعته إلى القرية، في حين «تنعق البوم في القرى الآشورية الأخرى، جميعها».
لا وسائل ترفيهية
باستثناء، مسجلة صغيرة تعمل على البطارية، وتُحمل باليد، لم نلحظ وسائل ترفيهية أخرى في هذا الاجتماع البشري الطارئ على منطق الحرب والنزوح. يحمل معه نهاد المسجلة أينما ذهب، ليصدح صوتها في أرجاء القرية بأغانٍ آشورية شعبية، قريبة إلى مسامعنا كثيراً. لا يقطع هذه «اللوحة الصوتية» المتشكلة في صمت تل طال، سوى نباح الكلب بيشو من الضفة الشمالية لنهر الخابور والذي فاض ليلة الهجوم ما أعاق عبور عناصر التنظيم إلى حيث يقف بيشو وينبح مضطرباً الآن.
يروي الشاب أنكيدو بألمٍ، حكاية كلب القرية وصديق الجميع «بيشو». يقول أنكيدو إن بيشو بقي في القرية لوحده بعد عبور الأهالي النهر إلى تل سكرة، «نسيناه». بعد سيطرة التنظيم، اختبأ في أحد منازل القرية أسبوعاً كاملاً، قبل أن يكتشفوا أمره ويطلقوا رصاصة على ساقه. تمكن بيشو، وفق ما يتناقله الأهالي، من الفرار إلى قرية «تل غرقان» على الضفة الأخرى. تعرّف الأهالي هناك الى كلب جيرانهم، عالجوه وبقي هناك أشهراً، يراقب أعمدة الدخان، وينبح كثيراً. يعتقد أنكيدو أن بيشو أُصيب إثر ما جرى في القرية، وإصابته اللاحقة، بـ «مرض نفسي لا يمكننا معرفته»، لذا تراه ينبح فجأة، ويهيج أكثر كلما عبر ضفة النهر. عاد بيشو مع العائدين لاحقاً، ولا يكفُّ نهاد عن مدح صفات الوفاء في بيشو «لقد صمد في القرية بعد أن هربنا جميعاً، وعاد إليها مع أول العائدين».
على رغم سحناتهم اليائسة والمرهقة، إلا أنهم لم يقطعوا الأمل بعودة جميع أهالي تل طال، وأهالي القرى الآشورية الأخرى. على مائدة الغداء الطويلة يتحدث إلياس بوقار ويبارك جهود العائدين ويتشارك التفاؤل مع الحاضرين، بعودة الجميع قريباً.