آدو نيوز – المانيا خاص:
بدعوة من المعهد الاسكندنافي لحقوق الانسان، قدم الرفيق عيسى حنا محاضرة بعنوان ” المعرفة التاريخية بين التهميش والإنكار – (السيفو)، نموذجاً”، وذلك بتاريخ 6 أيلول الجاري، في مدينة جنيف السويسرية، استعرض في الجزء الأول منها، العديد من المجازر التي تعرض لها الآشوريين السريان في تركيا وسوريا والعراق منذ اكثر من قرن، وصولا إلى يومنا هذا، وبين تأثيراتها الكارثية على الوجود المادي والحضاري لهذا الشعب، وركز على جريمة ” السيفو” التي أودت بحياة مئات الآلاف من الشعب الآشوري السرياني بمختلف طوائفه وقضت على وجوده الديمغرافي في المنطقة، على يد السلطات التركية، في عهد حكومة “تركيا الفتاة” وبمساعدة بعض العشائر الكردية في المنطقة ابتداء من عام 1915، وطالب كل الدول والبرلمانات والمنظمات الحقوقية والأمم المتحدة بالاعتراف بجريمة السيفو بحق الآشوريين السريان، باعتبارها جريمة إبادة جماعية تنطبق عليها كل المعايير الواردة في وثائق الأمم المتحدة في توصيف جريمة التطهير العرقي. وفي الجزء الثاني تطرق الرفيق عيسى حنا الى عمليات التهميش والصهر القومي وأدلجة التاريخ، بشكل ممنهج الذي مورس بحق أبناء الشعب الآشوري السرياني، وتراثه الحضاري، من قبل كل السلطات الاستبدادية في المنطقة، واستمرار الانكار وعدم الاعتراف بالجرائم التي ارتكبت بحقه، مستعرضا العديد من الأدلة والشواهد التي تؤكد وقوع شعبنا ضحية جريمة إبادة جماعية ممنهجة قبل مئة عام عرفت بجريمة ال “سيفو”.
وفي تصريحه ل آدو نيوز، تحدث الرفيق عيسى حنا عن الفعالية التي دعى إليها المعهد الاسكندنافي لحقوق الانسان، والتي امتدت على مدى يومي الخامس والسادس من أيلول الجاري والتي شهدت حضورا لنشطاء في حقوق الانسان وأكاديميين ومهتمين من أوروبا وأميركا وتركيا وسوريا، وتمحورت الندوات حول محاور ثلاثة، قدمت ضمن كل منها العديد من الدراسات والمحاضرات، كان أولها ” حق المعرفة وحرية الاعتقاد والحق في الاختلاف” والثاني ” فكرة دولة القانون والمواطنة” وثالثها ” مركزة موازين القوى والمواجهات بين الجماعات المذهبية الكبيرة في ضرب التنوع والاختلاف والجماعات الثقافية الاجتماعية الصغيرة”.
وعن انطباعه وتقييمه العام، أكد حنا على أهمية وضرورة مثل هذه المشاركات، التي من شأنها التعريف بشعبنا الآشوري السرياني، وتسليط الضوء على واقعه المرير، وكسب تعاطف وتأييد الراي العام لمساندته في نيل حقوقه المشروعة وإزالة الغبن الذي مورس ويمارس بحقه لغاية هذا اليوم، مشيرا إلى أن المحاضرة لقيت اهتماما وتفاعلا وتركت تأثيرا مميزا لدى معظم الحضور.
مذابح سيفو .. مائة عام
مذابح الشعب الأشوري بكل تسمياته التاريخية، أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياة هذا الشعب،وذاكرته، منذ قرون طويلة حتى يومنا هذا .
وهذه المذابح اتخذت أشكالا وأساليب عديدة ضمن ظروف ووقائع سياسية وصرعات مختلفة تعيشها بلدان الشرق الأوسط والعالم.
وللأسف فلقد كان لحركة التاريخ وطبيعة الصراعات في المنطقة ببعديها الإقليمي والدولي تأثيراً سلبيا وبشكل كارثي على وجود هذا الشعب ديمغرافيا وثقافيا بشكل تناهت اعداده الى ارقام غاية في الصغر وتم إقصاؤه بشكل كبير عن الفعل والدور الحضاري الذي مارسه منذ أقدم العصور.
والهدف الرئيسي الوحيد من ارتكاب تلك المجازر،باختلاف الظروف، تمثل بالسعي لإنهاء ومحو الكيان القومي لأبناء هذه الأمة الآشورية كشعب أصيل وعريق وذو مساهمات هامة على صعيد الحضارة الانسانية ، و القضاء على الوجود المسيحي في بلاد الرافدين والشام وبلدان الشرق الأوسط بشكل عام.
ووفقا لمبادئ مجازر إبادة التطهير العرقي التي أقرتها الامم المتحدة ” اتفاقية منع جريمة إبادة الجنس البشري”
نجد أن كافة البنود الواردة في هذه الوثيقة الهامة تنطبق جميعها على أبناء شعبنا الاشوري السرياني بمختلف مذاهبهم الكنسية . ” من الكلدان , الموارنة، السريان، الكاثوليك، والبروتستانت، وأبناء كنسية المشرق” .
قتل أفراد أو أعضاء الجماعة.
إلحاق أذى أو ضرر جسدي أو عقلي خطير أو جسيم بأعضاء الجماعة.
إخضاع الجماعة لظروف وأحوال معيشية قاسية يقصد منها إهلاكها أو تدميرها الفعلي كليا أو جزئيا.
فرض تدابير ترمي إلى منع أو إعاقة النسل داخل الجماعة .
نقل أطفال أو صغار الجماعة قهراً وعنوة من جماعتهم إلى جماعة أخرى.
لاشك أنه لكل جريمة ترتكب دوافع محددة تكون سببا للمجرمين بتنفيذها. وإذا كانت مجازر إبادة التطهير العرقي وفقا لمختلف التعاريف المتداولة تعد جريمة بحق الانسانية، فإنها من أخطر الجرائم التي تتعرض لها البشرية، لأنها ترتكب بدوافع دينية أو عرقية.
ولذا يتوجب على الامم المتحدة وكافة المؤسسات التابعة لها، ومنظمات حقوق الانسان وكافة الدول التي تحترم شرعة الامم المتحدة ومواثيقها، وحكومات الدول واتحاد الدول الاوربية بكافة هيئاته ومؤسسات المجتمع المدني أن تعمل على فضح و إيقاف المجازر التي ترتكب في العالم وتقديم الجناة الى المحاكم الدولية من أجل صيانة الأمن و السلم في العالم.
ولو ألقينا نظرة سريعة ولكن بتحليل موضوعي على المذابح التي تعرّض لها الشعب الاشوري السرياني سنجد أنّ كل البنود المذكورة اعلاه تنطبق عليه تماماً.
فإن مذابح أبناء شعبنا اتخذت كافة هذه الاساليب بدءا من القتل الفردي والجماعي على أسس عرقية ودينية . الحق به الأذى العقلي والنفسي جراء السياسات القومية المتعصبة التي مارسها حزب البعث في كل من سوريا و العراق وسياسة التعريب وعدم الاعتراف بالهوية الأثنية لهذا الشعب وعدم الاعتراف به دستوريا كمكون أساسي و أصيل من النسيج الوطني وحرمانه من تعلم لغته الأم السريانية في المدارس وفرض عليه الثقافة والتفكير والسلوكية العربية الإسلامية.
خلق ظروف اقتصادية دمرت عماد الحياة المعيشية للمجتمع الاشوري السرياني كفئة مؤثرة ومساهمة في بناء الوطن، من خلال الاستيلاء ومصادرة الاملاك وحرمانه من حقوقه السياسية والقومية والثقافية، إضافة الى ذلك ممارسة الاضطهاد والتمييز العنصري القومي، وممارسة الضغوط بالتهديد والتخويف والاعتداءات الفردية والجماعية والتخوين والملاحة من قبل الاجهزة الامنية والاعتقالات والسجون ، والهجرة القسرية بسبب هذه الظروف.
كما يتعرض الشعب الاشوري السرياني الى حملة شرسة بإلغاء دوره التاريخي وتزوير الحقائق التاريخية. وفرض واقع جديد على الارض من خلال التغير الديموغرافي التي تمارسه السلطات الاستبدادية.
ليست ذكرى مجزة ال ” سيفو” هذا العام مشابهة لما سبقها من أعوام. هذه السنة نحيي ذكرها لمرور مئة عام على الابادة الجماعية التي حدثت في بداية القرن العشرين والتي طالت أبناء شعبنا الاشوري السرياني بكل طوائفه و الشعب الارمني واليونان البنطين على يد قوات السلطة العثمانية ومجموعات من عشائر كردية في ربيع عام 1915.
حيث مازالت أثارها الاجتماعية و السياسية والثقافية والوجدانية ماثلة الحضور حتى الوقت الراهن.
وإن بعد مرور قرن كامل عليها ، وما بقاء ذلك الاثر حياً، سوى دليل على هول ما جرى في تلك الابادة التي قضت على مئات الالاف من أبناء شعبنا و أثرت على وجوده المادي والديمغرافي في موطنه الاصلي.
متى بدأت المذابح ؟ وما هو الهدف الرئيسي منها؟
بدأت المذابح التي تعرض لها أبناء شعبنا الاشوري السرياني عام 1895 -1898 التي نظمتها السلطات العثمانية في مدن أورها( أورفا ) الرها، و أوميد (دياربكر)، وماردين وغيرها من المناطق التابعة لهذه المدن الرئيسة.
والشعب الاشوري السرياني يحمّل المسؤولية الاولى في مأساتهم السلطة التركية . لذلك نرى أنّ الثورة التركية ( تركيا الفتاة) قامت تحت تأثير الثورة الروسية الاولى عام 1905- 1907 ساندها المواطنون الاشوريون السريان في البلاد . وكان ذلك طبيعيا إذا أنّ جزءاً من قيادة الثورة وقف الى جانب حل المسالة القومية بواسطة تأسيس مقاطعات ذات حكم ذاتي ومن اجل لا مركزية للإمبراطورية العثمانية.
ولكن سرعان ما اعلن الاتراك الفتيان عن سياسة التتريك، أي توحيد جميع الشعوب التركية تحت قيادة تركيا.
وكما كانت قبيل الحرب العالمية الاولى كذلك إبانها كانت القيادة التركية الفتية ترى حل المسالة القومية في تركيا عن طريق الابادة الجسدية للشعوب المسيحية أو تهجينها بالقوة
وقد أكدّ على ذلك الكثير من قادتها ومنهم الدكتور ناظم منظم و أحد أقطاب السياسيين الاتراك الشبان بقوله:” فقط لو يقف المحرضون من صوفيا و أثينا عن التدخل في شؤوننا عندها سنحقق الحرية الحقيقية وحينها سيرى الجميع كيف سنذوب بسهولة جميع اليونانيين والعرب والالبان ونصنع منهم شعباً واحداً ذو لغة ام واحدة “.
وكرر مواقفه هذه حينما أكد في إحدى اجتماعات حزب فتاة تركيا : ” أريد بأن يعيش على هذه الارض التركيا فقط التركي ، ويسيطر دون منازع، ليغيب جميع العناصر الغير تركية من أي قومية أو دين كانوا ، يجب تنظيف بلادنا من العناصر الغير تركية.” .
صرّح أنور أحد الحكام الثلاثة القائدين للبلاد : ” أنا غير ناوي فيما بعد على تحمل المسيحيين في تركيا”.
وبعد فترة من ذلك أي صيف 1915 أعلن وزير الداخلية طلعت عن نوايا الباب العالي ” باستغلال الحرب العالمية الاولى من أجل التخلص نهائيا من الاعداء الداخليين الذين هم كون ذلك لا يستدعي حين اذن تدخل دبلوماسيا من الخارج”.
و انطلاقا من توجيهات القيادة التركية الفتية بدأت الاوساط الحاكمة في الامبراطورية العثمانية بتطبيق برنامج مدروس بدقة خاص بإبادة المسيحيين القاطنين في تركيا بما في ذلك الشعب الاشوري السرياني.
وطبيعي في مثل هذا الوضع القائم والخطير للغاية أن ينتظر الاشوريون المساعدة والانقاذ من جارتهم روسيا فقط، التي وصلت علاقاتها الى المرحلة الحرجة ثانية
ومن جانبها اخذت روسيا ولأسباب مفهومة جدا مرتبطة بتوتر الوضع في الشرق الاوسط تبدي اهتماما كبيرا في كسب الاقليات العرقية والدينية في تركيا و ايران الى جانبها بما في ذلك الاشوريون ايضا.
وفي صيف 1914 بدءا الأتراك بعمليات الابادة ضد الاشوريين في أرميا وهكاريو خاصة بعد ابرام اتفاقية التحالف في 2 أب 1914 بين المانيا وتركيا. وحتى قبل هذا الموعد كان الأتراك قد دخلوا قرية بقره خاتون في مقاطعة قارص واعدموا جميع رجالها الذين حاولوا النجاة حد غير انهم قطعوهم بسيوفهم ” كما تحدث شاهد عيان( س . مرقصوف ). كما تحدثت شاهدة عيان مريم عن فرار عشيرتها كاور من مدينة أورمي من أمام الاكراد. كما أنه في منطقة الباق في تركيا تم سلب ثمان قرى أشورية هي : كوزي، آرجي ، أطيس….
وفي نهاية تموز عام 1914 بدا الاتراك بسحب الاحتياطي العسكري الى الحدود الايرانية و أخذوا يسلحون القبائل الكردية. فقد قام الضباط والجنود الاتراك بالتعاون مع الفصائل الكردية بارتكاب المجازر ضد الاشوريين على الاراضي التركية وعلى جزء من الاراضي الايرانية.
وفي 28 حزيران 1915 قامت القوات التركية مدعومة بفصائل تركية بهجوم من الموصل باتجاه تياري السفلى بقيادة والي الموصل حيدر بيك… وفي 12 حزيران 1915 تحرك الشيخ الكردي اسماعيل أغا من أرتوش نحو تياري العليا.
وبعد المجازر الفظيعة التي تعرض لها الاشوريون في هاكاري قررت القيادة الروحية بزعامة مار شمعون مع ملوكه إخراج جميع السكان الاشوريين من ولاية هاكاري الى الجبال ، حيث بلغ عدد ضحايا المجازر الى ذلك الحين نحو 50 الف شهيد. وبكل أسف وحزن عميق نقول مازال تلك المجازر الفظيعة استمرارية من ذات الجهات ولكن بأشكال واساليب مختلفة تنفذ ضد أبناء شعبنا الاشوري السرياني امام صمت العالم المخزي.
نعم ومذابح اليوم تتكرر وحلقات المسلسل الدامي بحياة شعبنا تعيد نفسها في الموصل وسهل نينوى والخابور والحسكة ، حيث عمليات وسياسات القتل وتهجيره من مناطق سكناه التاريخية بهدف اقتلاعه من جزوره وافراغ المنطقة منه والقضاء على حالة التنوع والتعدد الذي تزخر به البلاد والتي تشكل عام غنى وثراء وطني.
المعرفة التاريخية بين التهميش والإنكار: السيفو أنموذجا ( أنموذج او نموزجا)
الفيلسوف والمؤرخ هنري ايريني مارو يرى أن المعرفة التاريخية هي معرفة علمية ينشئها المؤرخ اعتمادا على منهج علمي دقيق وصارم للتاريخ بهدف بلوغ الحقيقة”، وهذا الكلام منطقي وعلمي، وعليه يحتاج ما لدينا من سجلات تاريخية لإعادة صياغة التاريخ اعتمادا على موازين ومقاييس جديدة وعلمية ومحايدة بعيدا عن مصالح وأهواء كتبة التاريخ القديم والحديث، فكما قيل سابقا “التاريخ يكتبه المنتصرون”، يكتبونه وفق رؤيتهم ومصالحهم، وتهميش وإنكار أي وجود وحقائق وحقوق للطرف الآخر المنكسر.
هذا ما كان في التاريخ القديم وهذا ما جرى نسبيا في التاريخ الحديث، والأمثلة كثيرة وتنطبق على شعوب كثيرة غبنها التاريخ وحرمها حقها من الانصاف، ولكن سأتناول هنا حالة التهميش والانكار التي لحقت بالشعب الآشوري السرياني كمثال في موضوع بحثي هذا.
فشعبنا الآشوري السرياني من الشعوب التي تعرضت للغبن والحرمان والتهميش والنكران في تاريخه القديم وخصوصا بعد سقوط الامبراطورية الآشورية البابلية عام 539 قبل الميلاد، اذ تعرض لاحتلال فارسي في شرق بلاده ولاحتلال يوناني وبعده روماني في غربها، تلاه الفتوحات العربية الاسلامية ثم العثمانية حتى مطلع القرن العشرين، ورغم كل ما قدمه هذا الشعب من خدمات في بناء أسس الدولة خلال مراحل الاحتلال، وفي ترجمة علومه وثقافته ومدنيته من لغته السريانية الى العربية، تعرض للتهميش والاقصاء والتمييز والصهر القومي والديني، حيث جرى التعامل معه ك”أهل ذمة” وفق أحكام الشريعة الاسلامية ما يعني مواطن من الدرجة الثانية عليه دفع الجزية مقابل استمراره بالحياة وحق العبادة.
وقد تجاهل كتبة التاريخ العربي والعثماني كل ما قدمه من خدمات وتضحيات، بل جرى التنكر لهويته القومية والثقافية بتسميته بمجرد انتمائه الديني الطائفي، وصولا لتشكل الدول القومية بعد الحرب العالمية الأولى حيث استمر التنكر التام لهويته القومية التي هي حق طبيعي لكل قوم وجماعة قومية، ففي تركيا الجديدة اعتبر هو ومعه الأرمن واليونانيين وغيرهم مجرد “أقليات غير مسلمة” أي أتراك غير مسلمين. أما في الدول العربية كسوريا وغيرها فقد اعتبر مجرد عرب مسيحيين ينتمي لطوائف دينية مختلفة.
إضافة ان حالة التنكر للتاريخ طالت الجغرافيا والحقائق التاريخية، فقد تبنت هذه الدول في برامجها المدرسية والرسمية أن هذه البلاد عربية منذ بدايات التاريخ وأن الآشوريين السريان هم عرب نزحوا من الجزيرة العربية بحالة تسييس قسرية للتاريخ، وهذا ما جرى في تركيا حيث تم التنكر لوجود قومي لأي قوم سوى الشعب التركي، ولازال الدستور التركي يعتبر سكان تركيا جميعهم أتراكا، وأن الجغرافيا التركية الحالية هي وطنا ازليا للأتراك، متجاهلين حقيقة مجيئ الاتراك للمنطقة واحتلالهم لها لا يتجاوز خمسة قرون فقط. إن هذا التنكر هو نموذج للي الحقائق في التاريخ والجغرافيا والديمغرافيا ومثال حي للتهميش والانكار في موضوع بحثنا.
أما في ما يتعلق بجريمة الإبادة الجماعية التي تعرض لها الأرمن والآشوريين السريان واليونان البنطيين إبان الحرب العالمية الأولى، فهي نموذج ساطع للتنكر للحقائق التاريخية من قبل الدولة التركية ومثال حي للي عنق الحقائق رغم كون هذه الجريمة لم يمض عليها سوى مائة عام، والاثباتات والوثائق الدامغة على حدوثها بوصفها جريمة ابادة جماعية لازالت تملأ قاعات الارشيف الرسمي للدولة التركية ولمعظم الدول الكبرى التي كانت لاعبة في مسرح الأحداث كألمانيا وروسيا وبريطانيا وفرنسا، فضلا عن شهادات العديد من المراسلين الصحفيين ووثائق ومراسلات قناصل عديد من الدول ومنها أمريكا نموذجا.
الانكار لهذه الجريمة ساد السياسة التركية لمدة مائة عام، ولازالت تنكر هذه الحقيقة، علما أن أكثر من عشرين دولة اعترفت بوقوعها بحق الأرمن اضافة للاتحاد الاوروبي، جرى ذلك نظرا لجهود جبارة بذلتها الاحزاب والمؤسسات الأرمنية بالتعريف بهذه الجريمة وطلب الاعتراف بوقوعها مدعومة من وجود دولة أرمنية لها دور هام في هذا التأثير رغم محدودية حضورها دوليا، أما مؤسسات وأحزاب الشعب السرياني الآشوري فقد نشطوا خلال العشرين سنة الأخيرة في هذا الطريق وبذلوا جهودا جبارة في سبيل كشف حقيقة وقوع هذه الجريمة بوصفها إبادة جماعية بحق الآشوريين السريان في نفس الزمان والمكان وعلى أيدي نفس الجناة وأيدي الاجرام
وهي هنا حكومة الاتحاد والترقي التركية، وقد تكللت الجهود باعتراف برلمان السويد بها ثم تلاه هذا العام اعتراف برلمانات هولندا والمانيا والنمسا وصربيا اضافة للفاتيكان والبرلمان الأوروبي، في سياق إحياء الآشوريين السريان والأرمن للذكرى المئوية لهذه الجريمة “السيفو”.
ومن اجل أن نكون في عرضنا بأقرب حالة من الدقة والتوثيق والتحليل المنطقي لعرض موقفنا لابد لتقديم بعض الدلائل والشواهد التي تثبت حقيقة ما وقع بوصفه جريمة ابادة جماعية جرت بتخطيط ومنهجية من قبل حكومة الاتحاد والترقي التركية كحكومة رسمية وليست مجرد عصابة قطاعة للطرق. مما يحمل مسؤوليتها القانونية للدولة التركية والحكومة التركية الحالية التي هي استمرار قانوني لها.
عرض لبعض الشواهد لوقوع الجريمة:
1-إن شعبنا الآشوري السرياني الذي كان يعيش قبل الحرب الأولى في جزء من موطنه الكائن الآن في جنوب شرق تركيا الحالية (التي تعرف بالأدبيات السريانية ببيت نهرين العليا) ينتشر من جبال حيكاري شرقا وحتى اضنا وكامل كيليكيا غربا مرورا بطورعبدين وماردين والرها ودياربكر وخربوط وغيرها،
كان يقدر عدده وقتذاك بمليون نسمة، وكان هذا العدد يشكل نسبة هامة من مجموع السكان في هذه المنطقة، ولولا حدوث المجازر وما رافقها من تهجير، لبقي شعبنا مقيماً هناك ولأصبح عدده الآن عشرة ملايين (حسب التزايد الطبيعي في المنطقة 3%)، إن العدد الحالي لشعبنا المتبقي في هذه المنطقة الآن لا يتجاوز/2500/ إنسان(فرد، شخص)، إن تركيا وحلفائها مسؤولون تماماً عما جرى من إبادة بكل تعاريفها ومدلولاتها الواقعية الجلية، وإن شعبنا هاجر من وطنه كنتيجة لتلك المجازر الى كافة أصقاع الأرض، فهو بالتالي هناك حصيلة لتلك المجازر، وان شعبنا في مهاجره تعرض ويتعرض إلى إبادة من نوع جديد هي “الإبادة الثقافية”، أي ضياع الهوية والانصهار في ثقافات المهجر.
وطبعا نفس الحالة تنطبق على الأرمن في خلو ستة مقاطعات ذات اغلبية ارمنية في جنوب شرق تركيا من الأرمن تماما فضلا عن مصادرة كامل أملاكهم وأراضيهم.
2- يذكر “فاسيلي نيكيتين” القنصل الروسي بمدينة اورميا بايران (في إيران) في كتابه معلومة مهمة عن تصريح لوالي ولاية “وان” التركي جودت باشا، في اجتماع رسمي له في مبنى الولاية في شباط 1915 يفتخر فيه بأنه أجرى في حملته في ك2 1915 على قرى سلامس وأروميا في غرب ايران تكنيسة كاملة للأرمن والآشوريين المدنيين. في حملته المؤلفة من عشرين الف عسكري تركي نظامي مدعومة بعشرة الآف (عشرة ألاف أو عشرات الالاف) من عشائر كردية حليفة عاثوا بسكانها المدنيين الآمنين قتلا ونهبا. ويعتبر المؤرخ والباحث جوزيف بابلو بأن هذه الجريمة بداية الجينوسايد الآشوري السرياني.
3- يذكر “أرنولد توينبي” المؤرخ الإنكليزي في مذكراته حيث كان في شبابه مراسلا لصحيفة نيويورك تايمز وشاهدا على الجريمة: “لم يكن المخطط يهدف إلا إلى إبادة جميع السكان المسيحيين الذين يعيشون داخل الحدود العثمانية”.
4- يذكر “هنري مورغنتاو” السفير الأمريكي في تركيا بين عامي 1913 و1916في كتابه قتل أمة: “في ربيع عام 1914وضع الأتراك خطتهم لإبادة الشعب الأرمني. وانتقدوا أسلافهم لعدم تخلصهم من الشعوب المسيحية أو هدايتهم للإسلام منذ البدء. ويضيف: لقد أتاحت ظروف الحرب للحكومة التركية الفرصة، التي طالما تاقت إليها، لإحكام قبضتها على الأرمن، ويضيف: لم يكن الأرمن الشعب الوحيد بين الأمم التابعة لتركيا التي عانت من نتائج سياسة جعل تركيا بلدا حصريا للأتراك، فهناك اليونان والآشوريين من السريان والنساطرة والكلدان، إن تركيا ستبقى مسؤولة عن كل تلك الجرائم أمام الحضارة الإنسانية”.
5- ارسل السفير الألماني البارون فانكنهايم كتابا لحكومته بتاريخ 17 حزيران 1915 يقول فيها: “إن طلعت باشا أعلن صراحة أن الباب العالي وجد في ظروف الحرب فرصة ملائمة للتخلص من أعداء البلاد في الداخل دون أن تزعجه مداخلات أحد من الدبلوماسيين”.
6- صرح طلعت باشا وزير الداخلية التركي للسفير الالماني في اسطنبول في 31 آب 1915: “لم يعد ثمة وجود للقضية الأرمنية”. وقال ايضا: “إنني تمكنت من تنفيذ ما عجز عنه السلطان عبد الحميد خلال ثلاثين عاما بثلاثة أشهر فقط”.
7- في 15 نيسان 1915 بعث السفير الألماني بتركيا “فانغنهايم” ببرقية إلى المستشار الألماني يخبره فيها أن مسيحيي ولاية “وان” تعرضوا ل”إبادة شاملة” بتواطؤ من السلطات المدنية المحلية.
الانكار التركي للجريمة
الحكومة التركية لازالت تنكر وقوع جريمة الابادة الجماعية بحق الارمن والآشوريين السريان وتعتبر إن ما جرى مجرد مذابح (massacres) كنتيجة طبيعية مباشرة للحروب، وامعانا بالإنكار اصدرت الحكومة التركية قرارا عام 2005 تجرم فيه من يعترف بحدوث المذابح في تركيا، والحال أن هذه الجريمة كما قلنا جرى تنفيذها بمنهجية وبسابق اصرار تطبيقا لقرارات سابقة اتخذت في حزب الاتحاد والترقي منذ سنوات قبل الحرب في سياق إقامة الدولة التركية الطورانية الخالية من الاجناس المخالفة، ومؤخرا صرح الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بانه سيتصدى بكل قوة لأي حملة تهدف الى جعل تركيا تعترف بصفة الابادة لمذابح الارمن عام 1915 التي تحل ذكراها المئوية السنة الحالية، ما يدل على إمعان تركيا بإنكارها لهذه الجريمة، وهذا الانكار ما هو إلا جريمة بحد ذاتها واستعداد لتكرارها من جديد، فلازال الاتراك الجدد الذين يتغنون بالديمقراطية وحقوق الانسان ينكرون ال”سيفو” ويتهربون من تطبيق بنود معاهدة لوزان بما تحتويه من الحد الادنى من الحقوق الانسانية، فضلا عن تنكرهم لوجود وحقوق ملايين من الشعب الكردي في تركيا.
إن التخلي عن معاقبة المجرمين والجناة يشجعهم على تكرارها ويشجع غيرهم على ارتكاب جريمة مشابهة لها، فلو عوقب الجناة الاتراك لما حصلت جريمة ابادة اليهود والبولونيين وغيرهم (الهولوكوست) في المانيا إبان الحرب العالمية الثانية ورأينا كيف أن الزعيم النازي أدولف هتلر، عندما قرر غزو بولندا عام 1939، طلب من جنرالاته أن يقتلوا كل من ينتمي إلى العرق البولندي بلا رأفة من أجل تأمين مجال ألمانيا الحيوي. وقال لهم لتشجيعهم وإزالة الخوف من نفوسهم: “لا أحد يتحدث في هذه الأيام عما حلّ بالأرمن في تركيا”.
واجب الأمم المتحدة حيال ال”السيفو” والانكار التركي لها
نظرا لكون الأمم المتحدة الهيئة الدولية المعنية بتطبيق احكام القانون الدولي وملاحقة مرتكبي جرائم الابادة ضد الانسانية وفقا للاتفاقية الدولية لعام 1948، من واجبها احياء فكرة اصدار قرار من الجمعية العمومية للأمم المتحدة بتحديد يوم خاص لإحياء ذكرى ضحايا “السيفو”، على غرار القرار الذي اصدرته بدورتها ال 62 في ت2 2004، والذي أقرت فيه يوما عالميا لذكرى ضحايا المحرقة (الهولكوست)، بأن ينص القرارعلى إدانة دون تحفظ أي إنكار لجريمة “السيفو” كحدث تاريخي. وحث جميع الدول الأعضاء على رفض وبدون تحفظ أي إنكار أو تجاهل للجريمة سواء يكون هذا الإنكار كاملاً أو جزئياً، والتأكيد على أن جريمة “السيفو” حدث تاريخي وأن أية جهود لإنكارها أو تجاهل هذه الأحداث المرعبة من شأنها المخاطرة في تكرارها.
واجب الدول الكبرى التي كانت لاعبا رئيسيا في الحرب العالمية الأولى
والتي كانت حاضرة في ساحة الحرب في المنطقة، ألمانيا كحليف لتركيا خلال الحرب تتحمل مسؤولية جزئية عن كل ما اصاب ضحايا هذه الجريمة. كما ان كل من فرنسا وبريطانيا وروسيا في الطرف الآخر كانوا شجعوا الشعوب الرزاحة ؟؟ في نطاق الامبراطورية العثمانية على الثورة ضد الاتراك، واطلقوا وعودا في دعم نضالات هذه الشعوب من اجل التحرر من الاستعباد التركي، مما اعطى مبررا للحكومة التركية لتنفيذ جريمتها بحجة حماية حدودها وخاصرتها الجنوبية الشرقية الضعيفة كون اغلبية سكانها من الأرمن والآشوريين السريان واليونان. ولم يقدم الحلفاء أية مساعدة لهذه الشعوب عمليا وتركوهم يلاقون مصيرهم المأساوي تحت أيدي الجناة الاتراك. وبرأينا يترتب على هذه الدول مسؤوليات قانونية وسياسية وأخلاقية للاعتذار من هذه الشعوب وانصافها وأقله الاعتراف الرسمي بوقوع الجريمة وحث تركيا على الاعتراف بها.
خاتمة
بالعودة لعنوان بحثنا فإننا نستخلص أن الانكار والتهميش لحقائق الاحداث والوقائع التاريخية لازال قائما، وهو للأسف محكوم بمعادلات المصالح السياسية بين الدول، وستبقى الشعوب والجماعات الضعيفة في التاريخ التي حرمت من حقوقها وجرى تهميشها والتنكر لوجودها وهويتها وتشويه تاريخها قائما حتى تتغير اتجاهات معادلات المصالح السياسية للدول، وحتى يبزغ فجر جديد تصنعه الشعوب بنفسها يقوم على معايير الحق والحقيقية، ويكتب تاريخها مؤرخون مهنيون يزينون كل حدث بموازين العدل، ويقيسون أبعاده بمقاييس الحيادية و والانصاف. وإن كان ذلك يبدو حلما إلا أن عدالة التاريخ يمكن ان تسمح بتحققيه.