بقلم رستم محمود – صحيفة الحياة
10 آذار 2015
” هم يحرقون كنائسنا، يحتجزون الرجال والنساء، وهناك الكثير من المشردين “. كم يبدو تراجيدياً أن يكون هذا الكلام الذي قيل قبل أيام فقط، لسيدة آشورية- سريانية من «وادي الخابور» في أقصى الشمال الشرقي من سورية، وذلك بعدما هاجم تنظيم «داعش» الإرهابي عدداً من القرى الآشورية هناك. التراجيديا هي أن يتطابق ذلك تماماً مع ما جرى قبل قرن كامل بالضبط، حين حدثت المجازر الأولى التي أطاحت بالوجود السكاني الآشوري في الأقاليم العثمانية، مجازر السيفو عام 1915 والتي راح ضحيتها عشرات آلاف المدنيين، كما حولت الآشوريين لأول مرة في تاريخ المنطقة، من شريك سكاني رئيس، إلى مجرد أقلية قومية- دينية. أما المجزرة الأخيرة فالمتوقع أن تنقلهم من كونهم أقلية إلى مجرد كتلة من المهاجرين في الدول الإسكندنافية.
طوال القرن الفاصل بين المجزرتين، لم تتعرض هذه الكتلة السكانية إلا لمزيج مركّب وقاس من الإقصاء والتعنيف والتهجير والاقتلاع. وليس من دلالة على ذلك أقوى من أن هؤلاء الآشوريين المقيمين على ضفاف الخابور، هم الأحفاد المباشرون للذين تعرضوا لمجزرة السيفو الأولى، في هكاري في أقصى الجنوب الشرقي التركي الراهن، وقد تم ترحيلهم على نحو كابوسي نـحو إقـليم أورميـة الإيـراني. هـؤلاء ما لبـثوا أن هُجروا إلى بعقوبة والحبانية العراقيتين، وبالضبط حينما اتُفق على إعادتهم إلى قراهم المهجورة في جبال هكاري، اكتشفت قوات الاحتلال البريطاني في العراق حاجتها إليهم، لأنها كانت مشغولة بقمع «ثورة العشرين» العراقية في الجنوب. هكذا ألفت منهم «لواء الليفي» العسكري، وأسكنت عشرات الآلاف من عوائلهم في سهل نينوى، ووعدتهم بالكثير من المزايا والعطاءات.
وما لبثت القوات البريطانية أن تركت هؤلاء المجندين مع عوائلهم ومع صورتهم كعدو وظيفي للنزعة الوطنية/العسكرية العراقية، التي ارتكبت بقيادة بكر صدقي مجزرة بلدة سيميل الشهيرة بحقهم في 7 آب (أغسطس) 1933، حيث جرى تهجيرهم من جديد إلى الأراضي السورية، ليستقروا على ضفاف نهر الخابور هذا، وليكونوا جزءاً مركزياً في إعادة تنمية سهل الجزيرة القاحل، في ظل الاستعمار الفرنسي، أمنياً واقتصادياً وتعليمياً ومدنياً.
لكنّ الفرنسيين أنفسهم ما لبثوا أن تركوهم من دون أية ضمانة دستورية أو سياسية لحقوقهم في الدولة السورية «الحديثة»، التي نضحت بعد سنوات قليلة بالنزعة السياسية الشعبوية للقومية العربية.
وبشيء من الثقة يمكن القول إن كل هذه السنوات الطويلة بالنسبة إلى الآشوريين، كانت تركيباً من ثلاثة أنماط من «مخادعة الذات»:
تتمثل المخادعة الأولى بالثقة بضمانات وتحالفات القوى الكبرى، تحت واعز الانتماء للأرومة الدينية المشتركة. فما تحرر الآشوريون من وهم الثقة بالقوة الروسية «العظمى» التي تعهدت حماية مسيحيي الإمبراطورية العثمانية أوائل القرن المنصرم، خلال حربها الطويلة مع العثمانيين، حتى وقعوا في شرك الثقة بنظيرتها البريطانية في العراق. وما إن تعرضوا لمجازر سهل نينوى عام 1933، في ظل صمت بريطاني تام، حتى استسلموا للوعود الفرنسية في سورية. وهكذا، ليس في ما حدث لآشوريي الخابور أخيراً، سوى التثبيت لأوهام الخطوط/الوعود الروسية، بل حتى الأميركية، بتقديم حماية خاصة لمسيحيي سورية حيال مصائب هذا التصارع الداخلي المرعب، في ما لو حافظوا على حياد تام.
لم يع الآشوريون حقيقة ما يحرك سياسات وممارسات هذه الدول في منطقتنا، تلك التي أبعد ما تكون عن مسائل الهوية والثقافة المشتركة. فأغلب الأرشيف الصوري المتوفر عن أحداث 1915، مستخرج من كاميرات الجنود الألمان، الذين كانوا يراقبون خيالة «الفرق الحميدية»، المندفعين لممارسة المجازر بحق آشوريي هكاري وديار بكر وطور عابدين، فيما الجنود الألمان منهمكون في بناء خطوط سكك الحديد لحلفائهم العثمانيين.
المخادعة الأخرى تتعلق بوهم آشوري مؤداه أن اندماجهم في أشكال من الهويات السياسية الفوقية، يمكن أن يرفع عنهم سمتهم الأقلوية، سواء كانت تلك الهوية يسارية شيوعية أو قومية سورية أو بعثية أو حتى ليبرالية. فالآشوريون بقوا في نظر «شركائهم» أشبه بـ «غرباء»، خصوصاً في أوقات الأزمات، وذلك بالضبط لأنهم جمعوا بين تمايز ديني/مذهبي وآخر قومي ولغوي ومناطقي، أي أنهم كانوا الأكثر عسراً على الهضم والاحتواء والتحويل إلى مجرد «جماعة ذمية» في ظلال الأكثرية الدينية والقومية وبشروطها. وذلك كان مطلوباً على الدوام، حتى ضمن هذه التنظيمات والأيديولوجيات السياسية الفوقية.
أما رأس المخادعات التي راكمها الآشوريون خلال هذا القرن، فتتعلق بالثقة بالأنظمة الشمولية، بوصفها ضمانة لأحوالهم واستقرارهم كجماعة. كان ذلك قمة المخادعات الذاتية، بالضبط لأن هذه الأنظمة الشمولية راكمت على الدوام أزمات اجتماعية وسياسية واقتصادية وحياتية في قاع المجتمعات التي تحكمها، أزماتٍ لا تلبث أن تنفجر بأشكال بالغة العنف والعبثية، وغالباً ما يكون ذلك على حساب الجماعات الأقلوية الأضعف، كالآشوريين. وما «داعش» إلا نموذج عن تلك الانفجارات العبثية العنيفة.
ليس من خارج السياق، أن يكون المار بنيامين شمعون أشهر شخصية في الوعي القومي/الديني الآشوري. فهو كان أحد أشهر الذين قادوا الرحلة الآشورية الطويلة، وكان الأكثر تعرضاً لمخادعات الدول الكبرى، ثم قُتل في آخر المطاف على يد مضيفه وجاره الكردي سمكو آغا شكاكي، الذي سيغدو لاحقاً أحد الرموز القومية الكردية. فكثافة حكاية المار بنيامين شمعون، تكاد تختصر الترحال الآشوري كله، حيث تتداخل الرحلات والخدع الصادرة عن الأقربين قبل الأغراب.