بقلم : رستم محمود ـ المستقبل اللبنانية
كان لأسماء رفقة الصف الأول رنين غريب الوقع في مداركي: أنكيدو، فيليب، شمعون، جلجامش، متى، شربل، وحنا… كانت لوشوشاتهم، الخاشية من المدرّسة الوحيدة أمل يوسف وقع أغرب؛ إذ ليست لغتهم هي العربية الرسمية، تلك التي كان للطلبة أن ينطقوها بأعلى نبراتهم، وليست الكردية الممنوعة، التي كان الأهل يحذروننا من النطق بها في المدرسة.
ستمضي سنوات كثيرة، قبل أن نعرف أن هذه اللغة نفسها، هي لغة مئات الكُتب المقدسة وآلاف التراتيل، ملايين الابتهالات والتعاويذ والأشعار والحكايات والعذابات والنذور والأغاني والآمال. لغة، عبرها تُرجمت أمهات الكُتب والمعارف والفنون والآداب. كانت تلك اللغة الأولى لبلادنا سوريا ومنبع إسمها، لغة مسيحها الذي أهدى الآدمية كلها، مرجل الحُب الذي لا يُنضب، وأقحوان السلام والرأفة. كانت لغتهم تلك هي السريانية، ورنينها الذي بقي في الوجدان، كوداعات الأم ودعائها الرؤوم، الذي لا يُنسى.
حسب رواية الرواة، فأن السريان هم ثاني من سكن هذه مدينتنا- القامشلي، في أقصى الشمال الشرقي من سوريا. سكنوها بُعيد اليهود الذين أتوها من سهوب نصيبين المقابلة، في الضفة التركية، من على الشريط الحدودي الفاصل بين البلدين. نصيبين التي كانت مدرسة سريانية للعلوم والترجمات والآداب والفنون، مدرسة على شكل مدينة، والتي أنجبت مار أفرام السرياني، قيثارة الروح القدس وشمس السريان، الذي ما خلت كنيسة في أصقاع الأرض قاطبة، إلا وأنشدت واحدة من تراتيله التي تمجد أسم الرب وتتضرع السلام.
في مسرح المدينة الوحيد، كان ثمة رجل لا بد أن تراه دوما. فارع القامة خشن اليدين، ثيابه البسيطة كانت مزركشة ببقايا شحوم المعادن وآثار التصليح. فهو لم يترك قط مهنته كميكانيكي محترف. كان السرياني سمير أيشوع، أبن المدينة المتيم بالإخراج المسرحي، الذي أهدى أجيالها المتلاحقة عشرات المسرحيات الباهرة، من على خشبة ذلك المسرح البسيط. كان المسرح وجدان سمير أيشوع، فهو التمظهر الأرقى لمدنية المدينة وحداثتها الواجبة. فحسب أيشوع، أي شيء أنبل من أن يجلس كل أبناء المدينة، على اختلاف هوياتهم ولغاتهم ونزعاتهم وصراعاتهم، حول تلك الخشبة، يملؤهم الشغف العميق بوصال المعنى!
كان سمير أيشوع يقف منتصبا في آخر المسرح دوما، يراقب تنهدات ضيوفه الأعزاء من المتفرجين، يفحص حركاتهم وآهاتهم وقلقهم. مرة حينما كان يعرض أجمل منتجاته، رائعة المسرحي الصيني غاو شينغجيان «موقف الباص»، وحينما وصلت الديباجة المسرحية قمتها، واكتشف المنتظرون أن الباص لن يأتي، وأن المكان الذين يأملونه موقفا للباص الذي ربما يقلهم، ليس سوى مقبرة؛ وقتها التفت أحدهم إلى سمير إيشوع، الذي كان واقفا كعادته في آخر مدرج المسرح، ولقط دمعته المنهمرة، هز إيشوع رأسه بخسران لا يوصف، مرددا «نعم، أنها مقبرة يا صديقي، مجرد مقبرة».
على جهات مسرح المدينة ذاك، كان ثمة صالات السينما الأربع في المدينة، حداد ودمشق وشهرزاد وفؤاد. بناها أصحابها السريان منذ الربع الثاني من القرن المنصرم، لتكون تتويجا لما بدأوه من انشطتهم الثقافية والكشفية والاجتماعية والفنية والرياضية. حيث كان نادي الرافدين أهم معلم مؤسساتي حديث في تاريخ المدينة المعاصر، النادي الذي كان يؤمه عشرات الآلاف كل عام، في مهرجاناته الفنية والرياضية والثقافية والاجتماعية التي لا تنتهي. وعلى جنبات دور السينما تلك، انتشرت أيضا مقاهي المدينة التي لا تُحصى، كربيس ورميلان وكبرو وماميكون ..الخ.
أنتجت دور السينما «السريانية» الاحتكاك الأول لسكان المدينة مع لغة العالم الحديث وطقوسه، سهرات عائلية مختلطة وأجواء شبابية مشتركة، مشاهدة لأحدث المنتجات الثقافية، وميل أول لتحرير الذات.
من هناك بالضبط بدأ التقليد الأول لأنماط الحياة المتوافقة مع حركة العالم، باتت الفتيات تقلدن فاتن حمامة ورقتها وثيابها وقبلاتها المسروقة لعمر الشريف. بات اليافعون يقلدون تسريحة الفيس بريسلي ويرددون اسم فيليني وروائعه في مروياتهم اليومية. أما مقاهي السريان، فانتشلت سكان المدينة من عذابات التراتبية الاجتماعية البطريركية التي كانت، أنهت الأدوار التقليدية لمضافات العشائر وصالونات المخاتير والزعماء المحليين. في المقاهي خُلق البشر الأسوياء المتساوون، مكانة وقدرا وسلطة، البشر الذين ليس لأحد من سلطان على ذواتهم وأرواحهم وسلوكياتهم.
أتت الناصرية على المدينة في أواخر الخمسينات من القرن المنصرم، وفعلت أول ما فعلت، أنها أغلقت نادي الرافدين، منبع كل تلك المؤسسات والممارسات المدنية. أجهزة الأمن ومؤسسات الضبط، اعتبرت الحياة العامرة بداخل ذلك النادي، خطرا يجب ضبط وكتمه، أُغلق النادي بأقفال حديدية كبيرة صدئة. فهرمت دور السينما، هجرها روادها الأولون، خلعت كراسيها، بات تعرض بعض الأفلام الجنسية لمراهقي الريف أيام الأعياد وحسب. أما مقاهي المدينة العامرة، فباتت صالات مضجرة لبيع البضائع الصينية التقليدية.
كمثل المسرح والسينما والمقاهي، فأن السريان أنتجوا كل جديد لسكان المدينة الملونين. الخيّاطات السريانيات أبدعن أجمل الفساتين وأرقها، الفساتين الأولى لا تخشى الجسد وإغواءه. سباكو الذهب السريان كانوا أول من خلصوا سكان المدينة من أنماط الحُلي التقليدية. باعة الورود ومعلمو المدارس، خطاطو المدينة ومغنيها. مسبح النساء الأول كان سريانيا، شهر العسل الأول قضاه عروسان سريانيان. الفرقة الكشفية الأولى والمكتبات الأولى، وتقريبا كل شيء جديد، كان سريانيا.
لكن الشيء الذي لم يكن لأحد من المدينة أن يهديه للبلاد كلها، سوى السريان، فقد كان شخصا يسمى كابي موشي. مواطن سرياني في أوائل الخمسينات من عمره، نهم القراءة والتدخين، نحيل الجسد، قوي الإرادة، علماني مدني ديموقراطي وطني وسلمي متواضع، متوازن، مليء بالأمل، والأيمان بمواطني البلاد، متجاوز للصغائر، ولا يملك سوى مستقبل البلاد في ظاهر نفسه وخبيئها.
ترك وظيفته كمهندس زراعي، لأنه لم يكن يحتمل دورة الإفساد والفساد. منذ أكثر من ربع قرن لا يشغله ولا يبالي بشيء سوى دمقرطة سوريا، وإعادة الكرامة لذويها المعذبين. فرد لا يبالي بسوء حاله الشخصي وظرفه العائلي، همه الوحيد هو السلام الاجتماعي بين مكونات المدينة ومجمل البلاد. كابي موشي مسؤول المكتب السياسي في المنظمة الآثورية الديموقراطية «السريانية»، هو المعتقل المبتهج الوحيد في زنازين النظام السوري، فعدم هجرة البلاد، والمقاومة السلمية المدنية، كفعل جوهري في الثورة السورية، هي مطلق إيمانه وآماله، وكل شيء في سبيل ذلك، لن يُنجب سوى البهجة.
قبل أكثر من سبعة عشر قرناً، هاجم الساسانيون «البرابرة»، حاضرة نصيبين العامرة، فتكوا بمدينة المار أفرام السرياني، حيث كان يحيا هناك وقتئذ. دمروا المدينة، لكن تراتيل المار أفرام، مازالت تنشد روح السلام في كل أصقاع الأرض كلها.
سريان مدينتنا، أضعفنا وأكثرنا هشاشة، أقلنا وأبسطنا، لكنهم فوق كل ذلك، أملنا الوحيد.
كاتب كردي سوري
شاهد أيضاً
عندما يغادرنا مبدعٌ كالموسيقار جورج جاجان
14-05-2021 بقلم سعيد لحدو تعود الموسيقا السريانية بجذورها إلى حضارة مابين النهرين وطقوسها الدينية والمهرجانات …