بقلم / أبرم شبيرا: لا يا سعدي … لا … لم يكن الوقت مناسباٌ لكي تغادرنا وأنت في قمة نشاطك المعهود به.. لا يا سعدي … لا لا.. فالسنين القادمة كانت أمامك والمزيد من العطاء المبدع كان بإنتظارك لتخرجها إلى النور ليعزز طريقنا نحن الذين زاملناك منذ زمن طويل… الزمن الذي بدأ في بداية السبعينيات من القرن الماضي في النادي الثقافي الآشوري.. الزمن الذي لم يكن قد غزا الشيب شعر رأسنا فكنا في قمة النشاط الشبابي أنت ومن معك من الماركسيين والشيوعيين من جهة اليسار والبعثيين من جهة اليمين ونحن اللذين كنا معروفين بـ "القوميين المستقلين" في الوسط. تارة يحتدم النقاش مع هذه الجهة وتارة أخرى مع الجهة الأخرى… فإذا كان النقاش مع البعثيين يشوبه الكثير من التذبذب والمواجهة والتحدي، فالنقاش معكم كان فكرياً جدلياً وموضوعياً رغم أن العاطفة القومية كانت ديدننا الأول والأخير في مواجهة الأفكار الماركسية والشيوعية ولكن النتيجة كانت في صالحنا جميعاً… في تطوير أفكارنا ومناهجنا القومية السياسية في تلك المرحلة الحرجة من تاريخ العراق المعاصر لأننا كنًا نتعلم منكم ومن رفاقك الشيوعيين الذين كانوا من خيرة مثقفي وسياسي أمتنا في تلك المرحلة نتعلم منهم أمور كثيرة في الفكر وأساليب العمل السياسي وضمن أجواء محمومة بالكبت والقهر الفكري، فكانت لجنة أصدقاء الأدب الآشوري في النادي من الأطر الأدبية والفكرية الرائعة التي عملت أنت ورفاقك من خلالها في أعلاء شأن هذا النادي وريادته في مسيرة تطوير الأدب والثقافة الآشورية.
عندما أستبد نظام البعث العراقي بسلطته وبدأ بمطاردة المعارضين له من السياسين والمثقفين والأدباء أرتحل سعدي وأختفى كبقية زملاءه وشخصياً لم أعد أسمع عنه شيئاً غير أنه غادر إلى الإتحاد السوفياتي للدراسة والحصول على شهادة الدكتوراه في الأدب المقارن ومن ثم سمعنا بأنه بعد سنوات وتخرجه من الجامعة بدأ العمل كأستاذ لللغة العربية وآدبها في أحدى الجامعات الليبية، هكذا بدأ الترحال به بين دول العالم متنقلاً بين لبنان وكنداً حتى أستقر به المقام في مدينة مونتريال في كندا ومن هناك بدأ بإصدار جريدة المرآة الآسبوعية للجالية العراقية والعربية فكانت ذات شهرة واسعة بين هذه الجاليات شكلت مصدر رزق له في حياة الغربة الصعبة.
عاد الزمن دورته لنلتقي مرة أخرى في بيروت حيث تليقنا دعوة من الدكتور عماد شمعون رئيس الجبهة السريانية الثقافية في بيروت لحضور مؤتمره الثاني تحت عنوان (الآشورية، حضار ولغة وهوية شعب) والذي عقد في الأول من شهر مايس عام 1998 وشارك إلى جانب سعدي وأنا العديد من المثقفين والمفكرين والكتاب منهم المرحوم هرمز أبونا وسعيد لحدو وكابي موشي (المعتقل حاليا من قبل النظام السوري) إضافة إلى مشاركة بعض رجال الدين منهم مثلث الرحمات مار نرسي دي باز مطربوليت كنيسة المشرق الأشورية، فشارك سعدي ببحثه القيم (الجذور الآشورية للكلدان) وشاركت أنا بموضوع (فصل الكنيسة عن السياسة) وتكللت أيام المؤتمر بالعديد من الندوات واللقاءات والمحاضرات كانت في معظمها من تنظيم وإدارة بعض من قادة المنظمة الديموقراطية الآثورية اللذين حضروا إلى بيروت لحضور المؤتمر أو المشاركة فيه أو من قبل الجمعية الثقافية الآشورية في بيروت.
يظهر بأن الحظ كان إلى جانبنا أن نلتقي مرة ثانية وبعد بضعة أشهر في السويد حيث تلقينا دعوة للمشاركة في المؤتمر الأول لجمعية آشور في السويد الذي أنعقد للفترة من 24 – 30 تشرين الثاني 1998 إلى جانب عدد كبير من المثقفين والكتاب والشعراء والفنانين حيث أتحف سعدي الحاضرين للمؤتمر بمحاضرة تحت عنوان (مدخل إلى تاريخ عنكاوه وضواحيها في عهود قبل المسيحية) وشاركت أنا بمحاضرة (الزعامة القومية في المجتمع الآشوري) وكان إلى جانبنا من المشاركين كبار المثقفين والأدباء والشعراء والبعض منهم يظهر في الصورة أدناه:
عاد سعدي من مؤتمر آشور إلى مونتريال وهو مفعهم بالأفكار والمشاريع ومتأثراً بكل ما جمعه بأصدقاءه وكبار أدباء ومثقفي شعبنا فوجد في جريدته الأسبوعية المرآة لا تشفي غليل عطشه وحبه للعمل لهذه الأمة.. كيف يكون سعدي بعيداً عن أبناء أمته أمر لا يمكن تصوره ولايحتمله هو، لذا بدأت المشاعر القومية تدغدغ فؤاءه وتعشش أكثر فأكثر في عقله فلم يستقر به الأمر إلا أن يترك جريدة المرآة ويؤسس دار نينوى للطباعة والنشر في مدينة مونتريال فبدأ بأصدار مجلة فصلية بأسم عشتار كمجلة فصلية حضارية ثقافية فكانت بكل معنى الكلمة مجلة ذات مستوى راقي من حيث الشكل والطباعة ومحتوياتها والمساهمين فيها. فصدر العدد الأول في شتاء عام 1999 وأحتوت على مواضيع مهمة وقيمة جداً ولكتاب ومثقفين وأدباء وفنانيين معروفين. غير أن صدور مثل هذه المجلة الراقية والمكلفة من حيث تحريرها وطباعتها وتوزيعها أمر لم يكن من السهل لشخص واحد أن يتحمل عنانها خاصة في مجتمع كمجتمعنا المتخلف من حيث الوعي القومي وأدراكه لأهمية الصحف والمجلات والإعلام في تطوير ثقافته ووعيه القومي والسياسي فبدأت العثرات المالية تتصدى صدور المجلة وبشكل منتظم، كما هو الحال في تاريخ معظم الصحف والمجلات التي أصدرها أبناء أمتنا، لذا وجد صاحب هذه المجلة الراقية نفسه في نضال مستميت من أجل أن تبقى هذه المجلة في النور وتصل إلى أيادي أبناء أمتنا فبعد مشقة وتضحيات جمة صدر العدد الثاني والثالث – ربيع وشتاء عام 1999 مدموجاً فكان ذلك آخر المطاف لهذه المسيرة القصيرة لعشتار ولكن الصعبة والمثمرة جداً حيث جمعت بين كبار مثقفي وكتاب وشعراء وأدباء أمتنا قلما نجدهم أو وجدناهم في المجلات والصحف الآخرى. ونظرة بسيطة لغلاف وأسماء المشاركين فيها وفهرست المواضيع المنشورة في العدد الأول تعوض عن الشرح المطول وتؤكد ما ذهبنا إليه أعلاه في وصف المجلة في كونها راقية وعظيمة ومن جميع الجوانب.
وبهذا يكون سعدي قد سطر مرحلة عظيمة في تاريخ صحافتها وأن كانت قصيرة إلا أنها كانت نموذجاً رائعاً لمجلة لا نجد مثيلاتها في معظم الصحف التي تصدر باللغة العربية. ولكن مع الأسف الشديد وبسبب العجز المالي لم يستطيع سعدي متابعة المسيرة الصعبة. وفي أحدى إتصالاتنا الهاتفية علم سعدي بأنه تم نقل خدماتي في الشركة التي أعمل فيها في لندن إلى دبي فقال لي بأنه على وشك أن يغلق دار نينوى للطباعة والنشر ومجلة عشتار التي يصدرها لأنه أفلسته ولم يعد له مصدر رزق فأستغربت لهذا الخبر المحزن وعندما أستفسرت منه عن السبب فذكر كلمة لازالت محفورة في ذاكرتي فقال (هذا مصير الذي يعمل بإخلاص وتنفاني من أجل أمته) وطلب منيً أن أجد له عمل في الإمارات العربية يتلائم مع مؤهلاته فجاء الحظ مرة أخرى أمامنا ليلم شملنا في الإمارات حيث أبلغته بوجود وظيفة شاغرة كرئيس تحرير لمجلة شهرية معروفة فتقدم لها عبر الإنترنيت وتم مقابلته من خلالها فمن بين العشرات من المتقدمين إلى الوظيفة ومنهم كبار الصحفيين والأدباء العرب والأجانب تم إختيار سعدي وتعينه بمركز رئيس تحرير المجلة… هكذا مرة أخرى جنباً إلى جنب بدأنا مسيرة أخرى من الأفكار والنشاطات واللقاءات والزيارات… وأتذكر منها الزيارة التي قمنا بها إلى بيت الأستاذ عبد المجيد حسيب القيسي في أبو ظبي مؤلف الكتاب المشهور(التاريخ السياسي والعسكري للأثوريين في العراق) الذي طبع عدة مرات وكتبنًا عنه بعض التعليقات والردود. وسعدي مثله كمثلي كان يحب الإختلاط بأبناء أمته ويحضر مناسباتهم وأعيادهم فكنًا مع البعض نزور الأصدقاء وبعض من أبناء أمتنا المتواجدين في الأمارات أو نقوم برحلات بحرية أو صحراوية جعلتنا أن نقضي أيام ممتعة غير قابلة للنسيان
من الأخبار المثيرة التي كانت قد أثيرت إهتمامنا بشكل كبير في تلك الفترة هو نشر خبر في الصحف الإماراتيةعن إكتشاف أثار دير قديم لكنيسة المشرق في جزيرة صر بني ياس تابعة لإمارة أبو ظبي تبعد عن البر بحدود 7-10 كلم وعن مدينة دبي بحدود 400 كلم قيل بأن تاريخه يعود إلى نهاية القرن الثالث الميلادي، وفي أماكن أخرى قيل بأن تاريخ إنشاء الدير هو منتصف القرن السابع الميلادي وأنشأ من قبل الراهب يوحنان من رهبان هذه الكنيسة الذي قدم من جنوب بلاد مابين النهرين للتبشير بين صيادي الجزيرة. كان موضوع هذا الخبر هاجساً سيطر على عقلنا وشدً فينا رغب زيارة هذا الدير وبقينًا ننتظر الفرصة السانحة للقيام بهذه الزيارة حيث لم تكن مثل هذه الزيارة مسموحة لعامة الناس لأن الجزيرة كان محمية طبيعية وكانت جامعة نورويج البريطانية تقوم بالحفريات الأثارية في موقع الدير. في تلك الفترة أنعقد مؤتمر عن البيئة في أبو ظبي ودعي إليه الكثير من علماء البيئة والصحفيين ومنهم سعدي بأعتباره رئيس تحرير للمجلة وكان من ضمن برنامج المؤتمر زيارة هذه المحمية الطبيعية. خبر سار وعظيم جداً بلغني به سعدي وأدرج إسمي من ضمن الوفود الزائرة للجزيرة فكانت الزيارة يوماً رائعاً في مشاهدة المحمية غير أنها لم تكتمل بالكامل لأنه لم يسمح لنا بدخول موقع الدير غير أن نطل عليه من خلف السياج المحيط به. على العموم بعد عقد من الزمن وأكثر سنحت الفرصة لي مع بعض الآشوريين في الإمارات لزيارة موقع الدير ومعنا نيافة مار
نشاطات وفعاليات سعدي خلال فترة تواجده في الإمارات كانت كثيرة ولم تقتصر على الصحافة فحسب بل شارك في الكثير من اللقاءات والندوات وألقى بعض المحاضرات ومن أههما المحاضرة التي ألقاءها في إتحاد الكتاب والأدباء في أبو ظبي في منتصف عام 2000 وحتى لا أطيل على القارئ الكريم من تكرار ما سبق وأن كتبنا عن هذه المحاضرة أقول بأن الصحف اليومية الكبرى في الإمارات نشرت خبر هذه المحاضرة ومنه نص ما نشرته جريدة الخليج اليومية.
المثقف الملتزم الأصيل يبقى أصيلاً مهماً مهما تغيرت به الظروف المحيطة به، فهكذا هو حال بعض المثقفين الآشوريين الذين دفعتهم صعاب الحياة المعاصرة إلى الإنتقال من مكان إلى مكان ولكن … نعم… ولكن مع ثبوت راسخ في القيم والمعتقدات والأفكار التي آمنوا بها وألتزموا بها في مناهجم الفكرية والعملية. فاذا كانت متطللات الخبز اليومي قد دفعت بعض المثقفين الآشوريين إلى العمل والإقامة في دولة الإمارات العربية المتحدة فإن هذا لم يحولهم إلى الابتعاد عن الساحة الثقافية والفكرية بل على العكس من ذلك ظلوا نشطين منتجين، ومن بين هؤلاء الكاتب والأديب الدكتور سعدي المالح .
ففي مساء يوم الإثنين المصادف 8/5/2000 نظم اتحاد الكتاب والادباء في أبو ظبي محاضرة للدكتور سعدي المالح تناول فيها تجربته الأدبية والظروف التي أثرت عليها من خلال معايشته لحياة الناس في قريته عنكاوا ومن ثم ترحاله عبر أقطار عديدة ومختلفة كما تضمنت المحاضرة قراءة لقصته الجديدة والتي تلتها قراءة نقدية أخرى لاستاذ النقد الادبي الدكتور سليمان قاصد، حضر الأمسية مجموعة من المهتمين بالأدب والثقافة كما حضرها عدد من المثقفين الآشوريين المتواجدين في دولة الإمارات العربية .
وقد تناول الصحف الرئيسية كالاتحاد والبيان والخليج هذا الحدث بالعرض والتحليل ولتعميم الفائدة نعيد ما نشرته جريدة الخليج اليومية بهذا الصدد .
بعد أقل من سنتين من العمل كرئيس لتحرير تلك الصحيفة ترك سعدي عمله وغادر إلى كنداً ليبدأ من هناك مشواراً آخر جديد يربطه بمدينته المفضلة بيروت فأصبح متنقلا بينها وبين مونتريال لوضع أسس جديد لكيان ثقافي وأدبي غير أن سقوط الصنم البعثي في العراق فتح الطريق أمامه ليعود إلى موطنه… إلى مسقط رأسه ليستمر من هناك مرة أخرى فواصل العمل حتى أستقر به المقام على موقع المدير العام للثقافة والفنون السريانية موقع مناسب لشخص مناسب غير أن المنية قطعت الطريق عنه ليكمل المسيرة فتركها من دون فارس يقودها نحو الأمام تاركاً لي شخصياً ذكريات جميلة وممتعة وربما بعضها مرة وخشنة ولكن كنًا قادرين على بلعها وهضمها من دون أن تؤثر على مسيرتنا الفكرية والثقافية… أتذكر بهذا الخصوص كنت أجادله عن لقبه (المالح) فكنت أقول له أما أحد أجدادك كان يعمل في جمع الملح وتجارتها أو كان أحد مستشاري الملك الآشوري في قلعة أربيل (قلا ليتا – التي جاء منها عائلة قليتا) وأن المالح مشتق من كلمة (مالوخا) أي المستشار بالسريانية وترجم خطاً إلى العربية بـ (المالح) فكان يفضل التفسير الثاني على الأول وفي معظم الأحيان لم أكن أسميه بأسمه المعروف بل كنت أناديه أما (برت عنكاوه – أي أبن عنكاوه) أو (برت مالوخا ـ أي أبن المستشار) فكنا نضفي على مناقشتنا الجادة والمملة في بعض الأحيان نوع من المزحة والفكاهة لغرض تلطيف الأجواء بيننا.
هذا ما تسمح به هذه الصفحات القليلة للكتابة عن مسيرة الراحل عنا الدكتور سعدي المالح الطويلة ولكن رحيله لم يكن خاوياً بل ترك لنا أرثاً ضخماً وثميناً من الإنتاجات الأدبية والثقافية وكان الكثير في أنتظاره وهذا الذي جعلنا أن نصرخ عند سماع خبر وفاته أن نقول لا يا سعدي … لا… فالوقت ليس مناسباً لرحيلك. رحمك الله وألهم عائلتك بالصبر والسلوان مفعمة برحمات ربنا يسوع المسيح.