الرئيسية / أخبار سوريا / بشير سعدي للحوار : اقتحام الكتائب المسلحة في عملية لا مبرر لها مدينتي معلولا وصدد وما نتج عنه من ضحايا بريئة ساهم في تعزيز هواجس المسيحيين في سوريا

بشير سعدي للحوار : اقتحام الكتائب المسلحة في عملية لا مبرر لها مدينتي معلولا وصدد وما نتج عنه من ضحايا بريئة ساهم في تعزيز هواجس المسيحيين في سوريا

آدو الإخباري ـ القامشلي: مجلة الحوار الكردية التابعة لحزب الوحدة الكردي في سوريا تحاور القيادي في المنظمة الآثورية الديمقراطية المهندس بشير اسحق سعدي وذلك في العدد(66)  من السنة (20) يسلط فيها الضوء على الكثير من القضايا القومية والوطنية، ننشر نص المقابلة كاملةً :

   في البداية يسرنا في هيئة تحرير مجلة "الحوار" أن نرحب بكم ضيفاً كريماً على صفحاتها بغية التحاور والنقاش وتسليط الأضواء على همومنا الوطنية ومجمل القضايا التي تهم مجتمعنا وتواجه بلادنا بصورة عامة, لنساهم معا في وضع الرؤى والحلول, والعمل على نشر الثقافة الإنسانية المعاصرة بغية إرساء أسس السلم وقيم  التسامح والعيش المشترك بين كافة الأقوام والأديان والطوائف على أرضية من الصداقة والاحترام المتبادل ونبذ لغة العنف والإرهاب والطائفية البغيضة لإبعاد شبح الحروب والقتل والدمار ما أمكن عن شعوبنا في هذا المشرق المنكوب بأنظمة حكم استبدادية شمولية من خلال تشجيع وتغليب لغة الحوار على سواها واعتمادها لغة وحيدة لحل القضايا بين الامم, نظرا لقناعتنا بأن العنف والقتل عبر استخدام القوة العسكرية الغاشمة لم تكن يوما ولن تصلح اليوم ومستقبلا حلولا لقضايا الشعوب المطالبة بحقوقها وحرياتها وكرامتها.

 

مرة أخرى, نرحب بكم أجمل ترحيب.

س1: كيف تنظرون إلى العلاقة التاريخية بين الشعبين الكردي والكلدو اشوري السرياني عبر القرون وروابط الصداقة بينهما في منطقة ما بين النهرين مهد الحضارات؟.

ج1- بداية اتقدم بالشكر الجزيل لاستضافتي بهذا اللقاء بمجلتكم الغراء "الحوار"، التي هي بحق بوابة من بوابات الحوار وتلاقي الأفكار والرؤى، داومت مسيرتها في وقت كانت الكلمة الحرة محرمة وملاحقة من اجهزة الاستبداد من ناحية، ومن هيمنة الأيديولوجيا على الفكر والثقافة والسياسة من ناحية أخرى، ساهمت مع غيرها من أدبيات رغم كل الصعاب في كسر حواجز وفتح ثغرات في أسوار الصمت والكبت والخوف للعبور إلى آفاق رحبة للكلمة الحرة وحرية للتعبير والرأي و الرأي الآخر بتنا اليوم نراه عاديا، ولم يكن كذلك قبل سنوات.

يشرفني هذا اللقاء لتبادل الرأي حول موضوع هام يهمنا جميعا، نحن أبناء الشعبين الكوردي والآشوري السرياني، كما يهم أيضا شركائنا في الوطن المشترك. وكلنا بأمس الحاجة إلى بناء علاقات قوية ومتينة على أرضية الاحترام والاعتراف المتبادل، والمساواة في الحقوق والواجبات، بعيدا عن نهج الإقصاء، بعيدا عن مقولة الأكثرية والأقلية، القوي والضعيف، صاحب البيت والضيف، فكلنا أبناء وطن واحد وركاب سفينة واحدة، يهمنا جميعا سلامتها كي تبحر بنا إلى مستقبل أفضل لنا ولأبنائنا وأحفادنا من بعدنا.

من المفيد عدم الغوص والتخندق في التاريخ والماضي، مفيد ان نفتح صفحاته فقط لنستلهم منه عبرا ودروسا لحاضرنا ومستقبلنا، ولا نهيم ونتلهى به وننسى حاضرنا وتغيرات الزمن من حولنا. في تاريخنا صفحات مضيئة يجب التركيز والبناء عليها، وفيه أيضا وهذه حال طبيعة وحركة التاريخ صفحات سوداء ورمادية علينا التوقف عندها لمعرفة أسبابها واستلهام العبر منها لحاضرنا ومستقبلنا. المستقبل الذي نحلم به جميعا.

الخوض في غمار سؤالنا، ومحاولة اختصاره في صفحات قليلة كمن يحاول أن يملأ ماء البحر في دلو صغير، اعتقد أننا بحاجة لأكثر من محطة حوار وندوة يشترك فيها نخبة من المثقفين والسياسيين من شعبينا لتناول هذا الموضوع وإعطائه حقه من الدراسة والبحث، لإلقاء الضوء على صفحات مطوية من  مسيرة تاريخ طويلة عاشها شعبانا نموذجاً حياً للتعايش الأخوي المشترك.

أود فيما يلي التركيز على عنوان العلاقة بين شعبينا في سوريا، كمثال للعلاقة بينهما في مناطق أخرى. وقبل ذلك لا بد من إعطاء نبذة عن اللوحة الآشورية الكردية بشكل عام في الأرض المشتركة التي عاشا عليها في أرض الرافدين، وهنا سأنقل وجهة نظري وقراءتي الخاصة للموضوع.

الأرض الموزعة حاليا بين دول سوريا وتركيا والعراق، هي الموطن التاريخي للآشوريين السريان، بنوا عليها في مراحل تاريخية مختلفة بدءا بالمرحلة السومرية ثم الأكادية والآشورية البابلية حضارة ومدنية معروفة كانت آخرها المرحلة البابلية التي سقطت عاصمتها بابل على أيدي الميديين 539 ق.م بقيادة كورش، سميت ما بين النهرين في الأدبيات الآشورية، وسماها اليونان "آسيريا" و ميزوبوتاميا، وسماها العرب أرض الجزيرة وأحيانا أرض الرافدين. شارك الآشوريين السريان هذه الأرض في مراحل لاحقة الأكراد والعرب والأرمن والتركمان وغيرهم، جاءت هذه الشعوب عبر هجرات متتابعة أو عبر غزوات، ولمئات و آلاف من السنين أصبحت هذه الأرض وطنا مشتركا للجميع.

على هذه الأرض المشتركة عاشت شعوبنا سوية، وتعايشت وفق معادلة العيش المشترك واحترام وقبول الآخر، وخير دليل على حقيقة هذه المعادلة استمرارهما في قرى ومدن متداخلة ومتشابكة، وفي أحياء واحدة في حالات عديدة. حتى وصلنا إلى منعطف حاسم، كان اندلاع الحرب العالمية الأولى، وقبل هذه الحرب ولنقل بأيام، كان الشعبان الآشوري السرياني والكردي يتقاسمان العيش سوية إلى جانب شركائهم في الأرض المشتركة، من عرب وأرمن وأتراك وفرس وتركمان وغيرهم. كانت سهول أوروميا وسلامس وجولاميرك في إيران، وكذلك جبال حيكاري ومرتفعات طورعبدين وماردين ودياربكر وخربوت والرها وآزخ وسهول نينوى ولواء الموصل في إطار الدولة العثمانية مليئة بالآشوريين السريان.

كانت نتائج الصراع الدولي، بين الحلفاء (فرنسا- بريطانيا- روسيا) من جهة، وتركيا والمانيا من جهة أخرى، وبالا على منطقتنا وعلى شعوبها وخصوصا على الشعبين الأرمني والآشوري السرياني، ولاحقا على الشعب الكردي.

في خطة القوميين الأتراك- "حزب الاتحاد والترقي"- لإفراغ المنطقة من الأرمن والآشوريين السريان والمسيحيين عموما بما فيهم اليونانيون، تطبيقا لمشروع قومي تعصبي نظروا فيه إلى مسيحيي تركيا بأنهم بمثابة الخاصرة الضعيفة للسلطنة العثمانية لأمنهم القومي، جرت أكبر مذبحة في التاريخ الحديث. مليون ونصف من الأرمن، ونصف مليون من الآشوريين السريان، وللأسف تم تضليل بعض الزعماء الأكراد للمشاركة في هذه المذابح بفعل التحريض الديني في إطار تحالف الدولة التركية مع النظام الإقطاعي الكردي، ما أدى أيضا لتفريغ هذه المنطقة- ما بين النهرين العليا- من الأرمن والآشوريين السريان، كان عدد أبناء شعبنا في تلك المناطق قبل بداية الحرب يناهز المليون إنسان، قتل نصفهم وهجر النصف الآخر على مراحل كنتيجة مباشرة وغير مباشرة لسياسة التمييز التركية ضد المسيحيين بشكل عام وشعبنا بشكل خاص، من سياسة التتريك، تغيير أسماء العائلات إلى أسماء تركية، تغيير أسماء القرى الآشورية السريانية لأسماء تركية، فرض ضرائب عالية على المسيحيين في الأربعينات، فرض تدريس الديانة الإسلامية على الطلاب المسيحيين، والاستيلاء على الكنائس في القرى الخالية وتحويلها لمساجد. كنتيجة لكل ذلك لم يتبقَّ حالياً في جنوب شرق تركيا من شعبنا سوى قرابة الفي شخص. لو لم تقع هذه المجازر لكان عدد الآشوريين السريان في تركيا الحالية عشرة ملايين إنسان، إذا أخذنا مقياس التزايد السكاني الطبيعي لهذا العدد. 

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وخسارة تركيا وألمانيا هذه الحرب، تم تقسيم المنطقة بحدودها الحالية، ووضعت سوريا تحت الانتداب الفرنسي، وأصبحت بالتالي منطقة الجزيرة السورية الحالية المجاورة تماما لساحة المذابح، والتي كانت شبه خالية من السكان عدا بعض قرى مجاورة للخط الحديدي، ملاذا لمسيحيي تركيا الذين بدأوا بالنزوح إليها، كما نزح إليها الأكراد أيضا وخصوصا بعد ثورة الشيخ سعيد عام 1925. وأصبحت الجزيرة موطنا جديدا لبناء حياة جديدة قائمة على قيم التسامح وإرادة العيش المشترك.

للإنسان قدرات هائلة على تناسي الماضي، وعلى العفو والتسامح، بقيت في الذاكرة الجمعية لشعبنا صورة المذابح في الحرب العالمية الأولى التي يسميها " السيفو" أو " سفر بلك" ، وإذ يتذكر بأسى ومرارة القتلة، الحكومة التركية وأدواتها، في الوقت نفسه لم ينسَ المواقف الرائعة التي وقفتْها نخب من الأكراد في رفضهم القتل وسعيهم في حماية وتخليص أخوتهم المسيحيين في تلك الأيام الصعبة. فكما يتذكر شعبنا بمرارة جريمة سيمكو الشكاكي باغتياله ببيته البطريرك مار بنيامين شمعون بعد دقائق من توقيعهما المشترك على اتفاقية صداقة وتعاون عام 1918، يتذكر شعبنا بايجابية "الملا سعيد" الذي وقف إلى جانب الآشوريين السريان منددا بالجرائم المرتكبة ضدهم، وقد ذكره القنصل الروسي بايران فاسيلي نيكيتن في كتابه "الكرد" حيث يقول:"كان الملا سعيد واحداً من بين الكثيرين من الكرد المثقفين، وقف دون خوف او وجل ضد صيحات الجهاد المقدس. وقد أوقف بسبب من مواقفه تلك من قبل السلطات التركية وقدم للمحاكمة لأنه أفتى بعدم شرعية نعت تلك الحرب بالجهاد المقدس، وقد قال في معرض دفاعه عن نفسه أمام المحكمة: "إنني لست مسؤولا بموجب أحكام الشريعة ولا بموجب القوانين الوضعية لأنني لم أجد في شريعتنا ما يأمر بقتل أناس أبرياء لا يؤذون أحداً. .. فإني أعتقد أن تقوى شيخ الإسلام وعلمه وكذلك عدالة الخليفة ورحمته واسعة، وهي أوسع من أن تسمح بإصدار فتوى تأمر بقتل الفقراء من الرعايا (المسيحيين النسطوريين) ونهب أموالهم، والذين لم يرفعوا منذ بداية الإسلام وحتى الان السلاح بوجه المسلمين، ولم يعلنوا حرباً ضدهم". (وأعتقد أن الملا سعيد هنا هو نفسه الشيخ سعيد قائد الثورة الكردية التي عرفت باسمه)

كما يتذكر شعبنا باحترام موقف الأستاذ جلال طلباني بانتقاده وتنديده بجريمة سيمكو التي اعتبرها إساءة بحق سمعة نضال الشعب الكردي. ويتذكر شعبنا باحترام موقف الشيخ عبيد الله النهري عام 1880الذي رفض الانخراط في حملة خطط لها الأتراك لقتل المسيحيين في منطقته، وكذلك الموقف المشرف للشيخ فتح الله في طور عبدين الذي أنقذ العديد من المسيحيين من القتل، والذي كرمه شعبنا بتعليق صورته في ديوان "دير الزعفران" بماردين إلى جانب صور البطاركة والمطارنة. ويتذكر شعبنا باحترام أيضا موقف الأكراد اليزيديين وزعيمهم "حمو شيرو"في جبل سنجار بحماية أخوتهم المسيحيين من القتل أثناء الحرب العالمية الأولى. ويثمن شعبنا العلاقة المميزة التي تربط عائلة البارازاني بالآشوريين في العراق، وقبلها في حيكاري وبرازان، ومشاركة شخصيات عديدة من أبناء شعبنا في الثورة التحررية الكردية بالعراق، منهم القس بيداري، وهرمز مالك جكو، والشهيدة مارغريت وفرنسوا حريري وعديد وغيرهم، هذه العلاقة التي كان من أحد أهم محطاتها حماية البطريرك الآشوري في قرية قوجانس بجبال حيكاري للسيد عبد السلام البرزاني عام 1907 أثناء ملاحقته من قبل السلطات التركية رغم مخاطر وتبعات هذه الحماية على حياته وحياة شعبه. هذه الحادثة التي لازال يذكرها الأستاذ مسعود برزاني ويقيم ويثمن عاليا موقف البطريرك والآشوريين عموما.

كما لا ينسى شعبنا موقف السيد "اوجلان" الايجابي في تجاوبه الفوري مع طلب تقدم اليه وفد المنظمة الآثورية الديمقراطية بتحييد ما تبقى من أديرة وقرى سريانية في جنوب شرق تركيا عن الصراع الدائر بين الثوار الأكراد والجيش التركي، حيث كان قد نتج عن هذا الصراع انتقام السلطات التركية من عديد من هذه القرى وتخريبها وتفريغها من سكانها عقابا لإيوائهم واستضافتهم الثوار الاكراد.

ويثمن شعبنا سياسة اقليم كردستان العراق المنفتحة على حقوق شعبنا القومية وإيراد برلمانه في مسودة دستور الاقليم مادة تنص على الاقرار بالحقوق القومية لشعبنا الكلداني السرياني الآشوري السياسية والثقافية والادارية بما فيها حقه بالحكم الذاتي في مناطقه التاريخية التي يشكل فيها أكثرية، إضافة للمشاركة المتوفرة لشعبنا بالإقليم في ادارات الاقليم وحكومته وبرلمانه بنسبة مقبولة. 

بالعودة لعلاقة شعبينا في سوريا، بعد الحرب العالمية الأولى، وفي الجزيرة السورية تحديدا، حيث ابتدأت دورة حياة جديدة بينهما، في المجال الاقتصادي استمرت وتوثقت أكثر فأكثر العلاقات التجارية والزراعية بينهما مبنية على الثقة المتبادلة، وفي المجال الاجتماعي استمرت وتعززت العلاقات الاجتماعية، بتبادل حضور مناسبات الأفراح والأتراح، وكانت الأغاني والرقصات الكردية تشكل جزءا هاما من حيز الأعراس لدى شعبنا إلى جانب الأغاني السريانية دون عقد وحساسيات، وكانت فرقة آرام الشهيرة تقدم معظم برنامجها الغنائي بالكردية، كما أن ظاهرة القرابة المعروفة ب " الكرافة" استمرت وتوسعت أكثر من السابق، وكانت هذه العلاقة في بعض الأحيان تقارب رابطة القرابة العائلية.

أما في المجال السياسي: فقبل تشكل الأحزاب القومية لدى الشعبين، انخرط أبناءهما في الأحزاب الوطنية السورية، ك"حزب الكتلة الوطنية" و"حزب الشعب" و"الحزب السوري القومي الاجتماعي"، وبشكل أوسع في "الحزب الشيوعي السوري" الذي رأوا فيه آلية لتحقيق حلمهم بمجتمع يسوده العدل والمساواة ومظلة وطنية وأممية يمكن أن يروا انفسهم خلالها، ووصل لقياداته العديد من أبناء الشعبين.

وفي مرحلة الانتداب الفرنسي وبعدها في فترة الاستقلال كانت تجري تحالفات سياسية عبر قوائم مشتركة بين النخب الآشورية والكردية والعربية، كانت تتنافس فيما بينها تنافسا شريفا ملتزما بالقواعد والأسس الديمقراطية. ومن النواب الذين مثلوا الجزيرة في تلك الأعوام: سعيد أسحق، الياس نجار، دهام الهادي، عبد العزيز المسلط، حاجو آغا، خليل إبراهيم باشا. حيث كانوا يحصلون في الانتخابات عبر قوائمهم المشتركة على أصوات المسيحيين والأكراد والعرب على السواء.

لا بد من الإشارة إلى عدة حوادث تذكرنا بما كان يجمع شعبينا من علاقة خلال تلك المرحلة، ففي الحوادث التي عرفت ب " ثورة الجزيرة" في 5 تموز 1937، حيث قاد تلك الحركة مجموعة من الشخصيات الآشورية السريانية والكردية والعربية، للمطالبة وقتذاك بحكم ذاتي للجزيرة أسوة بحالة لواء الاسكندرون، كان من بينهم: سعيد اسحق، ميشيل دوم، حبيب مريمو، عبد الأحد قريو، الياس مرشو. من السريان الآشوريين، وعبد العزيز المسلط، محمد عبد الرحمن، ميزر عبد المحسن، من العرب. وحاجو آغا، خليل إبراهيم باشا ، محمود إبراهيم باشا ، قدري جميل باشا، من الأكراد. كما أنه كان في مقابل هذه المجموعة، جبهة معارضة لهم، كانت في صف الحكومة في دمشق وكانت متشكلة من نخب من العرب والأكراد والآشوريين السريان، مما يؤشر ويدل على حالة سياسية متطورة ووطنية كانت سائدة في الساحة السياسية بعيدا عن الاصطفاف الديني أو القومي آنذاك.

على خلفية الفراغ الامني الذي رافق انسحاب الفرنسيين من الدرباسية عام 1946 وقفت عائلة حاج درويش وهي من عشيرة الكيكية الكردية إلى جانب المسيحيين ساهموا في حمايتهم في الحادثة التي عرفت ب " طقة الدرباسية" او " طقة الباطرية" من هجمات كانت معدة لاستهدافهم.

نستطيع القول أن الحياة استمرت طبيعية بين الأكراد والآشوريين السريان في سوريا بشكل عام وفي الجزيرة بشكل خاص وتمتنت قيم العيش المشترك، وانخرط أبناء الشعبين في الحياة السياسية من خلال الأحزاب السورية جنبا إلى جنب، وفي الحياة الاقتصادية، وفي العلاقات الاجتماعية أيضا، ويبدو أن مناخ الحياة الديمقراطية الذي كان متوفرا خصوصا في مرحلة الاستقلال ساعد في بناء الثقة وأسس العيش الايجابي المشترك.

ونظرا لكون مجمل الأحزاب العاملة في الساحة السورية في مرحلة الاستقلال خلت برامجها من أي طروحات تتعلق بحقوق القوميات التي يتكون منها النسيج السوري ومنها تجاهل تام بما يتعلق بطموحات شعبينا لتحقيق هويتهم وحقوقهم القومية، خلق ذلك التجاهل الحافز لملئ الفراغ وهكذا تأسس أول حزب سياسي كردي في سوريا في 14 حزيران 1957( الحزب الديمقراطي الكردي) ، ودفعت الحاجة نفسها لتأسيس أول حزب سياسي آشوري بعده بشهر واحد، في 15 تموز 1957 (المنظمة الآثورية الديمقراطية)، حيث نشأ الحزبان في ظل مرحلة ديمقراطية سادت سوريا آنذاك، أعتمد كلاهما نهجا وفكرا ديمقراطيا متشابها، وعلى أرضية وطنية متشابهة.

ولكن للأسف أدى لاحقا هيمنة سياسة الاستبداد وقمع الحريات والتنكيل بالأحزاب السياسية المعارضة رافقت مرحلة الوحدة المصرية السورية وتكرست خلال مرحلة هيمنة حزب البعث إلى خلق حالة من الانكفاء على الذات، والعمل السري لمجمل الاحزاب المعارضة ومنها الحركة الكردية والمنظمة الآثورية توقف نتيجتها التواصل السياسي بسبب سياسة القمع والاستبداد، أدى كل ذلك لقطيعة شبه تامة لم تبدأ إلا في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي، بعد أن تفتحت هوامش ضيقة للعمل السياسي فرضتها آنذاك موجة التغيرات الثورية التي بدأت في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي كمحاولة من النظام للانحناء نسبيا أمام موجة التغيرات، حيث سمح النظام وقتها بهامش ضيق بدأه في انتخابات مجلس الشعب لعام 1990 بعدم التدخل المباشر في حيز المستقلين مما هيأ ذلك فرصة للحركة الكردية والمنظمة الآثورية حققت انجازا في انجاح ممثلين عنها لمجلس الشعب السوري. وهيأ ذلك مناخا مناسبا لتنشيط العلاقة الكردية الآثورية وإعادة انطلاقتها من جديد، تكرس في الاستمرار في بناء تحالفات انتخابية لاحقة في مجمل الاستحقاقات السياسية في دورات لاحقة لمجلس الشعب والمجالس المحلية والنقابات، والمشاركة الفاعلة في مختلف الانشطة ذات الطابع السياسي والاجتماعي والثقافي، تمتنت من خلالها أواصر الثقة والصداقة والأخوة بين شعبينا وحركتهما السياسية.

ساهمت هذه الروحية الجديدة للعلاقة بين الشعبين والحركتين في حل كثير من القضايا الاجتماعية الشائكة والتعديات والخلافات البينية، مثال عنها انجاز المصالحة إثر مقتل شاب كردي (جوان) في المالكية إثر مشادة مع شباب سريان ربيع عام 2007  كان يمكن أن تتفاقم الأمور وتتجه للأسوأ لولا هذه العلاقة الطيبة والمتينة القائمة. ساهمت أيضا هذه العلاقة في تهدئة الخواطر والاستقرار إثر حادثة ملعب الجهاد بالقامشلي في 12 آذار 2004، كما كان لها دور مشابه في التهدئة والاستقرار إثر الأحداث وأعمال الشغب والمظاهرات التي أعقبت حادثة اغتيال الشيخ معشوق الخزنوي في حزيران 2005 . وهنا لا بد أن نثني على دور الأحزاب الكردية وتحليها بالحكمة وبالمسؤولية الوطنية العالية بتفاعلها الإيجابي والفوري مع مبادرات التهدئة للمنظمة الآثورية الديمقراطية والمبادرات الأخرى خلال الحدثين المذكورين.

ولا بد من الاشارة الى العمل المشترك للمنظمة الآثورية الديمقراطية وأحزاب الحركة الوطنية الكردية في "إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي" منذ بدايات تأسيسه، ومشاركتهما في معظم الانشطة والمحطات السياسية سواء بالندوات والمنتديات والاعتصامات، وفي لجان الدفاع عن المجتمع المدني والجمعيات المعنية بحقوق الانسان، وفي مؤتمر دير الزور عام 2005. واشتراكهما في تحمل أعباء وتبعات كل هذا النشاط السياسي المعارض من مضايقات وسجون ومعتقلات،  وصولا لبدايات الثورة السورية، حيث تشابكت الايدي في المظاهرات المطالبة بالحرية والكرامة، وتعاون ومشاركة التنسيقيات الكردية والآشورية السريانية في المظاهرات في سوريا واوروبا، وما تبع ذلك من أنشطة واستحقاقات ومؤتمرات وورشات عمل وطاولات حوار وندوات. إضافة للاشتراك في مبادرات لخلق أطر وطنية واجتماعية وتشكيل رؤية مشتركة لتعزيز السلم الأهلي ثقافة ونهجا ومؤسسات.

يبقى أن نقول: أننا لازلنا في بداية الطريق، ولكننا على الطريق الصحيح الذي سيوصلنا للهدف المشترك،  أمامنا استحقاقات كبيرة علينا التعاون لتحمل أعبائها وينتظرنا راهناً عملٌ مشترك في إطار الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة الذي انضم المجلس الوطني الكردي إليه، من أجل تنسيق جهودنا المشتركة في الدفع نحو إنجاز نصر لثورة الشعب السوري يتناسب مع تضحياته الجسيمة يتجلى في بناء نظام مدني ديمقراطي تعددي علماني يقر دستوره بهوية وحقوق شعبينا القومية إلى جانب كل شركائنا في الوطن تحت راية وهوية سورية تحتوي كل التنوع الرائع في بلدنا. ربما سيكون المشوار صعبا وطويلا بعض الشيء ، ربما سيحتاج الأمر لتقديم تضحيات، أعتقد أن جميعنا مستعدين وأهل لها.

س2: وفق قوانين ومقررات المنظمات الدولية والحقوقية ومواثيق هيئة الأمم المتحدة ولوائح حقوق الإنسان, برأيكم, ما هو الحل الأنسب للقضايا القومية في بلداننا؟.

ج2 – بالعودة لنصوص المواثيق الدولية التي باتت تشكل جوهر القانون الدولي، وأهمها ميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهدين الدوليين، وإعلان حقوق الأفراد المنتمين للأقليات الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام 1992، وعديد من الاعلانات والاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الانسان والشعوب الاصيلة ذات الصلة، يمكن لنا أن نطرح تصورا ملائما لحل قضايا القوميات في بلد متعدد القوميات مثال سوريا، آخذين بالاعتبار ايضا تجارب دول عديدة تبنت دساتيرها حلولا لقضية  التعدد القومي والثقافي واللغوي، معتمدة معظمها على اشكال مختلفة للنظام الفيدرالي، وأدناه بعض أهم النصوص الواردة بالمواثيق الدولية ذات الصلة:

-المادتين الأولى والخامسة والخمسين من ميثاق الأمم المتحدة تؤكدان على المساواة التامة بالحقوق بين الشعوب وحقها في تقرير مصيرها، وعلى ضرورة تعزيز حقوق الانسان والحريات الاساسية للناس جميعا بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين.

-المادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تنص على :"لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق الواردة في الإعلان، دون تمييز، بسبب العنصر أو اللون أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي، أو أي رأي آخر، ودون أي تمييز بين الرجال والنساء…"، وهذا اعتراف بالتنوع القومي والديني والثقافي، وتأكيد ضمني على حقوق الأقليات.

-المادة الأولى من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية تقول: "كل الشعوب لها الحق بتقرير مصيرها وتحديد وضعها الاقتصادي بحرية تامة، وإدارة شؤونها الاقتصادية والثقافية وتطويرها" ومن  المفيد ذكره أنه لا توجد حدود فاصلة بين  تعريف الشعب وتعريف الأقلية، فلا زال هناك تشابك واختلاط بينهما في التعريف في القانون الدولي.

-المادة السابعة والعشرون من العهد الدولي أعلاه تقول: "في الدول حيث يوجد بها أقليات قومية أو دينية أو لغوية، الأفراد المنتمون لهذه الأقليات لا يمكن أن يحرموا من حقهم في الانضمام لأفراد مجموعاتهم وحياتهم الثقافية وممارسة دياناتهم ولغاتهم".

-المادة التاسعة عشر من إعلان مؤتمر الجزائر الدولي المنعقد بتاريخ 14 تموز عام 1976 نصت على: "حين يكون شعب ما أقلية ضمن دولة ما، يكون الحق لأفراد هذا الشعب بأن تحترم هويته وعاداته ولغته وتراثه الثقافي".   

-إعلان حقوق الأفراد المنتمين لأقليات قومية أو دينية أو ثقافية، الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام 1992 أوضح بجلاء تام حقوق الأقليات بحماية وتطوير هويتها ولغتها وثقافتها، وحقها في المشاركة في إدارة المناطق التي تتواجد عليها، ومسؤولية الدولة في رعاية وحماية وتطوير ثقافتها، وفي حق المجتمع الدولي في حماية هذه الأقليات في حال تعرضها لانتهاكات خطيرة تمس مصالحها وحقوقها الأساسية.

-مؤتمر حقوق الإنسان الدولي الذي عقد في "فيينا" عام 1993 أكد بيانه الختامي على الترابط العضوي بين حقوق الإنسان، وحقوق الأقليات وفق إعلان حقوق الأفراد المنتمين للأقليات لعام 1992.

   من خلال التمعن بهذه النصوص نجد أن حقوق الأفراد المنتمين لأقليات قومية كما يسميها القانون الدولي، والتي أفضل تسميتها بالقوميات الصغيرة العدد، أو بالمكونات القومية، ليست منة ومكرمة تقدمها الحكومات لمواطنيها، بل هي واجبة التنفيذ على كل دولة عضو بالأمم المتحدة كونها مصادقة على هذه المواثيق الدولية. وقد طبقت أحكامها معظم الدول الديمقراطية بالعالم المتعددة القوميات واللغات والثقافات.

ومفيد أن نعرض نماذج لدساتير بعض الدول المتعددة القوميات والثقافات، كأمثلة مثال سويسرا، بلجيكا، كندا، العراق:

-سويسرا: تتكون من :ثلاثة مقاطعات كونفيدرالية لثلاثة قوميات، الفرنسية والايطالية والألمانية، دستورها يقر بالتعدد القومي، ويعتبر اللغات الثلاثة رسمية.

-بلجيكا: يحدد دستورها بأنها دولة فيديرالية تتكون من ثلاث مجموعات ثقافية هي المجموعة الفلامانية والمجموعة الفرنسية والمجموعة الألمانية. وتعتبر اللغات الثلاثة الهولندية والفرنسية والألمانية لغات رسمية، ويضاف لها في بروكسل العاصمة اللغة الانكليزية ايضا كلغة رسمية.

-كندا: ينص دستورها على انها تتكون من مقاطعتين رئيسيتين كيبك ذات الأغلبية الفرنسية، وأوناريو ذات الأغلبية الإنجليزية. تعتبر كندا رسميا دولة ثنائية اللغة، تستعمل الفرنسية والإنجليزية في الخطاب الرسمي.

-العراق: اقر دستوره لعام 2005 على الفيدرالية والتعددية القومية، وأنه يتكون من العرب والاكراد وقوميات أخرى وبحق تشكل الأقاليم على أساس جغرافي، وأقر بالحقوق الإدارية والثقافية والسياسية للأقليات القومية كالتركمان والآشوريين والأرمن وغيرهم.

  أما بالنسبة للوضع في سوريا ونظراً لخصوصيته في توزع معظم أقلياته القومية في معظم المحافظات السورية، ولا يتوفر تمركز كل أقلية قومية في منطقة بعينها، اعتقد أن الفيدرالية الجغرافية، وضمان الحقوق الثقافية والإدارية والسياسية ضمن هذه الفيدراليات للأقليات القومية هو الأنسب بالحالة السورية. ويمكن ان تكون برأيي النقاط التالية ادناه تصورا اوليا لحل القضايا القومية بسوريا:

1-إن الضمان الحقيقي للحقوق القومية وحتى للأفراد هو النظام الديمقراطي، إذ لا يمكن لنظام الاستبداد ان يوفر هذه الحقوق كونها تتناقض مع طبيعته، وعليه فإن الانطلاقة الاولى للحديث عن حل للقضايا القومية برأيي هي في اعتماد نظام ديمقراطي فيدرالي علماني تعددي، يقر صراحة بان سوريا دولة متعددة القوميات، يقوم دستورها على مبدأ المواطنة المتساوية، وشرعة حقوق الانسان، والاعتراف بالهوية والحقوق القومية لكل مكونات المجتمع السوري عربا وكوردا وتركمانا واشوريين سريان وأرمنا وغيرهم. تحت مظلة هوية سورية تحتوي التنوع القومي الذي تزخر به سوريا، واعتماد علم ونشيد يعكس حالة هذا التنوع.

2-اللغة العربية لغة رسمية لسوريا، واعتبار كل لغات الأقليات كالكردية والسريانية والأرمنية والتركمانية لغات وطنية واجب الدولة حمايتها وتطويرها.

3-نظام الفيدرالية الجغرافية المرنة التي تأخذ بالاعتبار التوزع القومي المنسجم قدر الامكان يناسب الوضع في سوريا، على اساس المحافظات أو تسميتها بالمقاطعات أو الولايات بحيث يوفر لها الدستور صلاحيات كاملة في إدارة أمورها الاقتصادية والثقافية والخدمية والاجتماعية والقضائية، وتبقى شؤون الدفاع والسياسة الخارجية من اختصاص السلطة المركزية.

4- في المقاطعة الفيدرالية يضمن حقوق كل المكونات القومية التي تتألف منها المقاطعة، وضمان مشاركتها السياسية وفق نسبها العددية، كحد أدنى، في جميع المؤسسات المحلية من حكومة محلية وبرلمان محلي وقضاء، اضافة لبقية المؤسسات الادارية والنقابية.

5-المشاركة السياسية للأقليات القومية في المؤسسات السيادية المركزية، الحكومة والبرلمان والقضاء، يجب ان تكون مصانة وحسب النسبة العددية للمكونات القومية، كحد أدنى، على نطاق الدولة ككل.

6-الحقوق الثقافية والادارية والسياسية للأقليات القومية تكون مصانة دستوريا، من حق التعليم لهذه اللغات بالمدارس الحكومية والخاصة، وفتح أقسام بالجامعات للغات والآداب الخاصة بها، وحق ترخيص المؤسسات الثقافية والاجتماعية الخاصة بها، وحقها في تخصيص حصص لها في وسائل الاعلام الحكومية، وحق ترخيص الاحزاب السياسية الخاصة بها.

 7- ضرورة تشكيل "مجلس أعلى للمكونات القومية" يكون معنيا بحقوقها الثقافية والسياسية والادارية وان يعطى لكل أقلية حق الفيتو في الأمور المتعلقة بخصوصياتها القومية.

8- في المقاطعات الفيدرالية، يحق في المدن والمناطق التي يتوفر فيها اغلبية ساحقة من مكون قومي معين ان يشكل فيها منطقة ادارة ذاتية او منطقة حكم ذاتي، تكون فيها لغة هذه المكون القومي لغة رسمية اضافة للغة العربية، مع ضمان حقوق افراد ومجموعات المكونات الاخرى المتواجدة كأقلية عددية فيها، ويمكن كأمثلة لمثل هذه المواقع المفترضة، منطقة القرى الأشورية بالخابور يمكن أن يشكل فيها منطقة حكم ذاتي، ومثال ذلك أيضا بلدة عامودا، بلدة عفرين، بلدة كوباني، وعلى هذا السياق اعتقد ليس من الخيال افتراض امكانية تطبيق نظام الادارة الذاتية حتى على احياء ضمن المدن عندما يكون الاغلبية الساحقة من سكان هذا الحي من مكون قومي معين، وهذا الحق هو تطبيق لمفهوم الحقوق الادارية للأقليات القومية.

اخيرا اعتقد ان ما ذكرته أعلاه ليس الا تصورا اوليا يحتاج  لمزيد من التفصيل يمكن ان يكمل باستلهام تجارب الدول المتعددة القوميات التي انتهجت الصيغ الفيدرالية حلولا لها.

س3: كيف تنظرون إلى المشهد السوري الدامي ودوامة العنف التي أودت بحياة ما يقارب الربع مليون إنسان سوري, وألحقت أشد الاضرار بالاقتصاد الوطني والبنية التحتية وغيرها من المآسي….إلى أين تتجه الأوضاع في بلادنا من وجهة نظركم؟

ج3 : المشهد السوري راهنا بحالة كارثية على المستوى الانساني، ثلاثة ملايين لاجئ بدول الجوار، سبعة ملايين نازح بالداخل، 150 الف قتيل، مئات آلاف الجرحى والمعطوبين، خراب ودمار بمعظم المحافظات السورية، والأكثر مأساوية هو تنامي الحساسية والانقسام الطائفي وشبه انهيار بالهوية الوطنية الجامعة، وخوف الأقليات القومية والدينية على مستقبلها، وضعف ثقتها ببعضها، وضعف ثقتها بالدولة التي كانت تنظر إليها كحامي لوجودها، سيطرة المجموعات التكفيرية الجهادية على مناطق عديدة خصوصا في محافظات الرقة وحلب ودير الزور، انتشار مخيف لعصابات مسلحة تدعي باطلا أنها جزء من الجيش الحر هدفها الأول والأخير النهب والتخريب وخطف المواطنين الأبرياء بهدف جني الأموال، تحول معظم الألوية والكتائب التي كانت جزءا من الجيش الحر لتوجه ديني وحملها لشعارات دينية وسلوكيات متشددة هي في الضد من شعارات الثورة ومن ارادة معظم الشعب السوري وأحلامه بمستقبل أفضل يقوم على الحرية والديمقراطية، وساهم اقتحام مجموعة من الكتائب المسلحة في عملية لا مبرر لها مدينتي معلولا وصدد وما نتج عنه من ضحايا بريئة وتشريد سكانهما، وكلتاهما لا اهمية عسكرية لمواقعهما فضلا عن مسالمة اهاليهما والموقع الاثري التاريخي لكلتاهما في تعزيز هواجس المسيحيين، وطبعا استثمر النظام من مجمل الممارسات الخاطئة عبر وسائل إعلامه في تشويه سمعة الثورة و الثوار، وساهم ذلك في تغير مواقف دول أوروبية عديدة من الثورة وأصبحت لا ترى فيها البديل المناسب الذي يتوافق مع مصالحها.

الكتائب المسلحة موزعة الولاءات لمرجعيات إقليمية حسب الدعم والتمويل والتسليح، لا ارتباط بين القيادة السياسية والعسكرية، تمرد معظم الألوية والكتائب الأساسية عن قيادة رئاسة الأركان والجيش الحر وسحبها الاعتراف بكافة الأطر السياسية المعارضة بما فيها الائتلاف، وتشكيلها لجبهات مستقلة، معلنة نهجا اسلاميا متشددا مثال "الجبهة الاسلامية" المكونة من سبعة ألوية وكتائب، وقبلها مجموعة ال 13 التي اعلنت في بيان تشكيلها الأول عدم اعترافها بالائتلاف وبقيادة الجيش الحر وإعلانها رؤيتها الدينية المتشددة المتناقضة مع مصلحة مستقبل سوريا وارادة معظم السوريين، وكان آخرها ما سمي ب"جبهة ثوار سوريا" المؤلفة من خمسة عشر كتيبة ولواء أعلنت انها ستحارب تحت شعار "لا إله إلا الله" وشعارها  بالتأكيد سيخلف انطباعا سلبيا وهواجس إضافية تجاه الثورة من قبل الاقليات السورية التي تطمح بدولة مدنية ديمقراطية، وايضا تجاه الغرب الذي يتوجس من اي بديل اسلامي متطرف، وراينا كيف اعلنت كل من امريكا وبريطانيا توقيف دعمهما للأسلحة غير الفتاكة للجيش الحر في شمال سوريا بعد ان سيطرت "الجبهة الاسلامية" على بوابة باب الهوى وايضا على مستودعات الاسلحة التابعة للجيش الحر.

الحراك الثوري المسلح للأسف ساهم في  حرف مسار الثورة إلى حالة قريبة من الحرب الأهلية تماما كما خطط لها النظام في جر الثورة للعسكرة والعنف وتوجيهها نحو التشدد الطائفي، كان لدخول جهاديين عرب واجانب للجهاد في الساحة السورية بمعرفة أكيدة وتخطيط من الدول الإقليمية الداعمة للثورة وبغض نظر لقيادة المعارضة، وسمعنا كيف ان رئيس الائتلاف معاذ الخطيب رفض اعلان امريكا باعتبار جبهة النصرة منظمة ارهابية وطالبها بتغيير موقفها كون هذه الجبهة حسب رايه جبهة معارضة للنظام ومقاتليها صناديد اشداء، وللأسف شاركه الرأي ايضا رئيس المجلس الوطني جورج صبرة، في الوقت الذي هذه الجبهة بالذات اعلنت انتمائها للقاعدة، كانت تلك فرصة استفاد منها النظام لتسويق وتأكيد ادعائه بأنه يحارب الارهاب وفرصة ثمينة له لتبرير إشراك حلفائه من ميليشيات حزب الله وأبو الفضل العباس والحرس الثوري الايراني في حربه وحماية نظامه.

المؤكد أن لا حل عسكري لهذا الصراع، الاستمرار بالصراع وفق تعادل ميزان القوى بين النظام والثورة وحلفاء كل طرف الاقليميين والدوليين الذي يستحيل فيه الحسم لاحد الطرفين سيؤدي حتما إلى الفوضى والتفكك والتقسيم وتدمير ما تبقى من سوريا شعبا وكيانا.

برأيي إن مبادرة مؤتمر جنيف2، هي الفرصة الوحيدة المتوفرة -التي ربما لن تتوفر لاحقا- يمكن لها ان تضع حدا للصراع، وبداية لحل مبني على  مبادئ جنيف1 ونقاطها الستة، وعبر تسوية وخارطة طريق تتلاءم مع مصلحة الشعب السوري ومصلحة القوى الإقليمية والكبرى المعنية بالشأن السوري، وانا معتقد بأن رعاتها الدوليين سيضغطون لإنجاحها ليس من أجل مصلحة الشعب السوري، بل من أجل مصالحهم، لأن فشلها لا سمح الله، سيقود البلاد نحو التفكك والتقسيم والفوضى وتحولها لساحة مفتوحة للمنظمات الجهادية والإرهابية كالقاعدة واخواتها ك"داعش" وجبهة النصرة، وهذا ما يهدد مصالح كلا القوتين وأمنهما القومي وأمن حلفائهما الاقليميين.

س4: من هي الجهة التي عملت على تغيير مسار الثورة السورية من سلمية إلى عنفية أدّتْ إلى ما آلت إليها الأوضاع وتحولها إلى مأساة وكارثة، من يتحمل هذه المسؤولية؟ وما هي الغاية من تدمير وطن بالكامل؟.

ج4 – قامت الثورة السورية منذ انطلاقتها في الخامس عشر من آذار 2011 منادية عبر تظاهرات سلمية بشعارات تؤكد على طلب الحرية والكرامة ووحدة الشعب السوري وسلمية الثورة، دامت الثورة سلمية مدة سبعة أشهر تتلقى ضربات أدوات وأجهزة النظام قمعا وتنكيلا واعتقالات واستعمال لكافة أساليب العنف والترهيب بما فيها استعمال الرصاص الحي ضد نشطاء التظاهرات السلمية. وكانت المعارضة السورية خلال هذه الأشهر ممثلة بإعلان دمشق وغيرها من أطر وأحزاب ونشطاء تطالب النظام بضرورة التجاوب مع مطالب الثورة والبدء بإجراء إصلاحات سياسية جوهرية عبر الحوار والمشاركة، وكانت الدعوة مستمرة لعقد مؤتمر حوار وطني يشمل كل القوى السياسية الفاعلة دون استثناء أحد، بما فيها حزب البعث واحزاب الجبهة الحاكمة، للوصول إلى صيغة وخارطة طريق لوضع البلاد في طريق التغيير الوطني الديمقراطي، ولكن للأسف لم يتجاوب النظام جديا مع مطالب الشعب وقوى المعارضة الوطنية، وأصر على وأد الثورة بقوة السلاح وبالحل الأمني، مع اتباع اسلوب اصلاحي خادع تجلى في إجراءات شكلية لم تنفذ عمليا، وفي عقده لما أسماه مؤتمر تحضيري للحوار حضره أفراد انتقاهم ممن لا يمثلون إلا أنفسهم بإدارة نائب الرئيس، في تموز 2011، وصدر بيان تضمن 12 نقطة لم تنفذ عمليا، عقبه مؤتمرات شكلية للمحافظات على أن تسبق مؤتمر الحوار الوطني المزمع عقده لاحقان والذي تأجل وألغي بحكم تطور وتفاقم الأحداث.

   تحت وقع العنف والدماء توجه الحراك الثوري من السلمية نحو العنف المضاد والعسكرة، نحو الساحة التي أرادها النظام وعمل بكل السبل لجر المعارضة لها، والتي يرى نفسه خلالها الأقوى والأقدر على الحسم وإنهاء الثورة. فتشكل الجيش الحر وتبنته المعارضة ممثلة بالمجلس الوطني السوري، وكان الرهان معقودا على دعم دول عربية واقليمية إضافة لمعظم الدول الاوروبية وأمريكا. وكان الرهان معقودا على دعم الجامعة العربية ومجلس الأمن باستصدار قرار دولي لصالح ثورة الشعب السوري عبر رهان آخر على فرضية تغير في الموقف الروسي والصيني على نسق الحالة الليبية. ولكن للأسف كانت الرهانات خاسرة، كان دور الجامعة العربية ضعيفا ومترددا، مجلس الأمن فشل بإصدار القرار المنتظر، الدول الداعمة قصرت في دعم الثورة خلافا لوعودها وما كان منتظرا منها. إضافة لتقصير ذاتي في أداء المعارضة السياسية، حيث تأخر المجلس الوطني في انجاز توحيد لمجمل قوى المعارضة السورية، متمثلة في عدد من الأطر الهامة منها الحركة الكردية ممثلة بالهيئة الكردية العليا وهيئة تنسيق العمل الوطني، وهنا لا يتحمل المسؤولية لا مجلس الوطني السوري وحده بل يتحملها أيضا الأطر الأخرى المذكورة نظرا لعدم توفر الإرادة لديها في انجاز الوحدة لحسابات خاصة بها، وكان مؤتمر القاهرة الذي عقد في الثالث من تموز 2012 فرصة تاريخية للوحدة المنشودة من حيث حجم المشاركة والوثائق السياسية الهامة التي صدرت عنه وأهمها وثيقة العهد الوطني، لكنه فشل أيضا للأسف في تحقيق هدف الوحدة. وكانت الفرصة مهيأة لحل الأزمة السورية قبل أيام منه حيث عقد مؤتمر جنيف الأول في الثلاثين من حزيران 2012، والذي أقر نقاط كوفي عنان الستة، إلا أن تضارب المصالح والرؤى بين روسيا من ناحية وأمريكا من ناحية أفشلت هذا المؤتمر بعد دقائق من التوقيع على وثيقته وبيانه الختامي، بخلافهما حول مسألة تنحي الرئيس من عدمه وفق فهمهما المتناقض لنصوص الاتفاق.

   باعتقادي كان من الممكن أن يوفر هذا الاتفاق لو تم تنفيذه واقتضت إرادة ومصالح الطرفين روسيا وأمريكا أن توفرا دمارا إضافيا وأكثر من مائة ألف ضحية إضافية، ومئات آلاف اللاجئين والنازحين على الشعب السوري، ولكنهما راهنا على ربح حربهما الخاصة على حساب دمار ما تبقى من مقدرات الشعب والكيان السوري. وهكذا تحولت الثورة السورية إلى معركة بالوكالة، يتحكم فيها القوتين الكبريين اللتان آخر ما يفكرا به مصلحة سوريا وحرية ومستقبل شعبها، لا روسيا تدافع عن النظام لحبها به ولا امريكا وحلفائها يدعمون الثورة من أحل الحرية والديمقراطية، ولو كان الامر كذلك لفرضت امريكا على السعودية على الاقل السماح للنساء بقيادة السيارة.  وهكذا دخلت الثورة في معركة استنزاف وتدمير ذاتي دون أي احتمال لحسم عسكري لأي طرف، ومما زاد الأمر سوءا وتعقيدا بروز التوجه الديني المتطرف للحراك الثوري على الأرض الذي ظهر بأسماء الجمع والألوية والكتائب والشعارات الدينية وانشاء المحاكم الشرعية، ودخول المنظمات الإرهابية ك"داعش" وفتحها لمعركتها الخاصة بها بإقامة إمارة إسلامية  على حساب المناطق التي حررها الجيش الحر، إضافة لتمرد ألوية وكتائب مسلحة وسحب اعترافها بالائتلاف وإعلانها بالدعوة لإقامة دولة دينية، وقيام عددٍ من المجموعات المسلحة باقتحام مدينتي صدد ومعلولا مما شوه كل ذلك سمعة الثورة وجعل قطاعات واسعة من الشعب السوري وخصوصا الطبقة الوسطى والأقليات من التوجس والقلق والخوف من نجاح الثورة اذا كانت ستأتي ببديل ديني متطرف، وهذا كله صب في مصلحة النظام الذي منذ انطلاق الثورة ركزت دعايته على أنه يدافع عن النظام العلماني ويقف في مواجهة التطرف والإرهاب.

يمكن القول بالنهاية أن أسباب الكارثة التي أصابت سوريا تقع بالدرجة الأولى على عاتق النظام الذي عالج الأمور منذ البداية بالعنف واعتماده الحلول الأمنية التي أدت للعنف المضاد، وثانيا يتحمل المسؤولية النظام العربي والنظام الدولي الذي وقف عاجزا ومترددا، وثالثا على الدول الإقليمية والدولية التي فشلت في نصر ودعم الثورة، ورابعا تتحمل المعارضة السورية مسؤولية تعثر وحدتها وضعف أدائها وإضاعة زمن في قضايا تنظيمية وشكلية على حساب العمل على الأرض، وأخيرا في عدم قدرتها على ضبط إيقاع كتائب وألوية الجيش الحر وتوحيد قيادتها وإلزامها بقرارات قيادة المعارضة، مما أدى ذلك لبعثرة وتشتت جهودها وممارساتها لسياسات خاطئة وتبنيها لشعارات دينية متطرفة أدى لخسارتها للحاضنة الاجتماعية، وأساء لسمعة الثورة والثوار.    

  اعتقد أن الرابح الوحيد لحد الآن مما آلت إليه الأوضاع في سوريا هو إسرائيل بالدرجة الأولى وكل من تتضرر مصلحته في إقامة وبناء سوريا ديمقراطية حرة.

 

 

شاهد أيضاً

جبهة السلام والحرية تعقد اجتماع هيئتها القيادية في أربيل والقامشلي بالتزامن مع الذكرى السنوية الأولى لتأسيسها

08-07-2021 عقدت الهيئة القيادية لجبهة السلام والحرية، الأربعاء 7 تموز 2021، اجتماعاً عبر “غرفتين” منفصلتين، …