آدو الإخباري ـ مسار برس ـ محمد غريبو – دمشق : ينتشر أبناء الطائفة المسيحية في كل سورية، إذ لم يكن وجودهم فيها متوقفا عبر تاريخهم على منطقة دون أخرى، كما كانوا دائما مكونا أصيلا من مكونات الحياة الاجتماعية السورية في هذا البلد المتنوع طائفيا وعرقيا.
ومع انطلاقة الثورة السورية شارك المسيحيون كباقي المكونات في فعالياتها، إلا أن غياب الموقف الرسمي الواضح من قبل المرجعيات الدينية المسيحية تجاه الثورة، بالإضافة إلى بعض التصريحات التي صدرت من رجالاتها تأييدا لنظام الأسد، وحمل بعضهم السلاح إلى جانب قواته في عدة مناطق، جعل البعض ينظر إليهم كطائفة موالية للأسد برغم وجود فئات مسيحية ثورية قوية لا زالت تعمل إلى الآن على الساحتين السياسية والعسكرية للثورة.
“مسار برس” تلقي الضوء على الواقع المسيحي السوري، وتلتقي بعدد من الشخصيات المسيحية المؤيدة والمعارضة للإجابة عن الأسئلة التي تُطرح عن الموقف المسيحي من الثورة، ودورهم فيها سلبا أو إيجابا، والمخاوف التي تقلق هذه الطائفة، ومستقبلها في ظل الأحداث الراهنة.
الوجود والانتشار
يشكل المسيحيون في سورية نسبة تصل إلى 10% تقريبا من مجموع السكان أي حوالي 2 مليون شخص.
وتختلف كثافة انتشارهم من منطقة إلى أخرى، إذ يقطنون في مناطق عدة من دمشق وحمص وحلب والجزيرة الفراتية في الحسكة واللاذقية وبعض المناطق في درعا وطرطوس.
وينتمي أكثرهم إلى طائفة الروم الأرثوذكس، يليهم السريان الأرثوذكس والروم الكاثوليك مع وجود جماعات مختلفة من اللاتين والبروتستانت والموارنة والكلدان والآشوريين والسريان الكاثوليك والأرمن.
يتحدث المسيحيون في سورية اللغة العربية، إلى جانب الآرامية والسريانية والأرمنية، كما ينتمي بعضهم إلى قوميات مختلفة كالآشورية والأرمنية والسريانية.
تواجد المسيحيون تاريخيا في المدن بشكل عام، مما أتاح لهم فرصا اقتصادية أكثر من غيرهم، وارتفاعا في مستوى المعيشة، فقد انتمى أغلبهم عبر مختلف المراحل إلى الطبقة البرجوازية الوسطى والعليا.
وقد لعبوا دورا بارزا في تاريخ سورية السياسي الحديث، فكان لهم أثر بارز في دعم التيار القومي العربي في بلاد الشام أواخر العهد العثماني. كما كانت لهم مساهمات فعّالة في تأسيس الأحزاب السياسية، وقد تقلّدوا مناصب هامة في الدولة إبان الانتداب الفرنسي وبعده.
ومن أكثر الشخصيات السياسة المسيحية شهرة ميشيل عفلق الذي أسس حزب البعث العربي الاشتراكي، وأنطوان سعادة مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، وكذلك فارس الخوري الذي تولى منصب رئيس الوزراء لمرتين في فترة رئاستي هاشم الأتاسي وشكري القوتلي، إضافة إلى سعيد إسحق الذي تسلّم رئاسة البرلمان ومن ثم الدولة أثناء الاضطرابات السياسية في خمسينات القرن الماضي.
وكحال بقية مكونات الشعب السوري توزع المسيحيون على مختلف الأحزاب والتيارات السياسية، وإذا استثنينا الآشوريين والسريان فيمكن القول إن المسيحيين لم تكن لهم أحزاب سياسية مستقلة قبل الثورة السورية، إذ تعتبر “المنظمة الآثورية الديمقراطية” التنظيم الوحيد ذا الصبغة المسيحية الذي تشكل قبل الثورة.
المسيحيون في ظل حكم الأسد
تمتع المسيحيون في ظل حكم الأسد الأب والابن بكامل الحرية الدينية، وهذه الحرية في المعتقد وأداء الطقوس الدينية “لم تكن بفضل الأسد أو حزب البعث” كما يرى عضو المكتب التنفيذي في الحزب الوطني للعدالة والدستور “وعد” ريمون معجون، وإنما بفضل طبيعة المجتمع السوري القائم على التسامح والتآلف بين كل المكونات والتي يمكن اعتبارها امتدادا لـ”مرحلة حكم المسلمين السنة والأحزاب السابقة لحكم البعث” على حد تعبيره.
فقد سعى نظام الأسد ومن خلال ذهنيّته الطائفية منذ استيلائه على الحكم في سورية إلى المتاجرة بملف الأقليات عامة، وبالأخص المسيحيين لما يتمتعون به من اهتمام لدى الغرب، في محاولة منه لربط مصيره بمصيرهم وجرهم معه إلى المجهول. وقد زاد نظام الأسد من اللعب على هذه الورقة مع انطلاقة الثورة السورية ليظهر نفسه حاميا للأقليات وأن البديل عنه في حال إسقاطه هو “الجماعات المسلحة التكفيرية والمتطرفة”.
المسيحيون في الثورة السورية
شهد الشارع المسيحي انقساما بين مناصر للثورة ومؤيد لنظام الأسد وآخر محايد، حاله حال بقية الشعب السوري عامة. ولفهم الموقف المسيحي من الثورة بوضوح أكثر كان لا بد لنا من تقسيمه إلى موقفين رئيسيين:
– الأول هو الموقف الرسمي المتمثل في المؤسسة الدينية
– والثاني هو الموقف الاجتماعي والسياسي
مع وجود استثناءات في كلا الموقفين.
أما الموقف الرسمي المتمثل في المؤسسة الدينية فهو مناصر للأسد كما هو ظاهر، برغم التصريحات الفردية المؤيدة للثورة التي تظهر هنا وهناك من قبل بعض رجال الدين.
فقد تمكن الأسد من تسخير طائفة من رجال الدين المسيحيين لممارسة الضغط على أتباع الطائفة لعدم الوقوف في وجه النظام والتزام الحياد أمام ما يفعله من ممارسات وحشية بحق الأكثرية المضطهدة.
كما برزت مجموعة أخرى من رجال الدين المسيحيين السوريين وغير السوريين أخذت على عاتقها الدفاع عن نظام الأسد في المحافل الدولية والعربية مثل: الراهبة الكاثوليكية إغنيس مريم أو فاديا اللحام راهبة دير مار يعقوب في مدينة قارة بريف دمشق، وبطريرك أنطاكية الماروني مار بشارة بطرس الراعي في لبنان، والمطران عطا الله حنا رئيس أساقفه سبسطية الروم الأرثوذكس في القدس، وكذلك “تنسيقية مسيحيو الشرق في خطر” بباريس.
واستكمالا لهذا كله قام الأسد بطرد كل رجال الدين المسيحيين الذين اتخذوا موقفا واضحا من الثورة السورية وعلى رأسهم الأب الإيطالي باولو دالوليو الذي كان مقيما في دير مار موسى الحبشي بالقرب من النبك بريف دمشق.
أما الموقف السياسي والاجتماعي المسيحي فيمكن تقسيمه إلى قسمين أيضا:
القسم الأول: مشارك بقوة في الثورة كالمسيحيين الآشوريين والسريان عبر أحزابهم السياسية وتنسيقياتهم الثورية وفصائلهم العسكرية المشاركة في الحراك العسكري مباشرة في منطقة الجزيرة الفراتية بالحسكة، بالإضافة إلى عدد كبير من الناشطين المسيحيين الذين لا زالوا يعملون في ساحة الثورة إلى الآن، ومنهم من اعتقل أو قتل على يد قوات الأسد، وعلى رأسهم باسل شحادة المخرج السينمائي الذي ترك دراسته في الولايات المتحدة وعاد إلى سورية مع بدء الثورة السورية فانتقل إلى حمص لتوثيق اعتداءات قوات الأسد وسقط ضحية القصف في حي الصفصافة.
ويرى ممثل المجلس الوطني في بلجيكا جورج شاشان حيدو أن المشاركة الواضحة للآشوريين السريان في الثورة، تأتي من فهمهم لألاعيب النظام أكثر من غيرهم من المسيحيين.
وبحسب إحصائية للمنظمة السورية لحقوق الإنسان “سواسية” في تاريخ 4/11/2013 فقد بلغ عدد الضحايا المسيحيين الذين سقطوا على يد قوات الأسد حوالي الـ100، “كما دمرت قوات الأسد 36 كنيسة في حين اعتدت كتائب المعارضة المسلحة على 4 كنائس” حسب الإحصائية.
القسم الثاني: ضد الثورة ويشارك عسكريا مع قوات الأسد من خلال ما يعرف بـ”ميليشيا جيش الدفاع الوطني”.
ويقول أبو ويليام لـ”مسار برس” – وهو أحد القادة المسيحيين في ميلشيا جيش الدفاع الوطني بوادي النصارى في ريف حمص – إن التطورات الأخيرة التي تشهدها الساحة السورية من سيطرة لـ”المجموعات المتطرفة” في أكثر من منطقة، وبالأخص المناطق القريبة من أماكن المسيحيين، وإحساسهم بالخطر على وجودهم هي التي تدفع الشباب المسيحي إلى المشاركة في العمل العسكري للدفاع عن النفس ضد “التنظيمات الإرهابية” خاصة مع “انهماك قوات الأسد في معارك طاحنة مع تلك المجموعات على جبهات متعددة”.
ويضيف الناشط الإعلامي باسل درويش من حماة أن مدينة السقيلبية (المسيحية) بريف حماة تعدّ من أهم معاقل “ميليشيا جيش الدفاع الوطني”، وتحوي المدينة مفارز أمنية ويشارك أبناؤها المسيحيون الذين ينتمون إلى هذه الميليشيا في اقتحامات القرى المجاورة والاعتداء عليها.
المسيحيون لا يعملون في السياسة وليسوا بعيدين عن الثورة
وعلى صعيد آخر يؤكد ممثل المجلس الوطني السوري في بلجيكا جورج شاشان حيدو لـ”مسار برس” أن المسيحيين ليسوا بعيدين عن الثورة، وإذا حسبنا الأمر بشكل نسبي فنرى أن وجودهم في الثورة لا يقل حضورا عن باقي فئات المجتمع السوري، صحيح أن هناك مجموعات من المسيحيين تقاتل مع النظام، إلا أن ذلك لا يقتصر على طائفة دون أخرى ويشمل جميع الطوائف، وذلك لمصالح شخصية أو اقتصادية.
ويقول حيدو متابعا: “فلا يمكننا مثلا أن نتّهم العرب السنة بالوقوف إلى جانب النظام لأن الكثير من جنود قوات الأسد محسوبون على الطائفة السنية ويقاتلون الآن في المعارك، فإثارة مثل هذه الشبهات بين السوريين الآن تخلق حساسية بين المكونات، وهذا ما يريده النظام وأعوانه. قد يكون الآشوريون والسريان لهم حضور بارز في الحراك الثوري، ولكن هذا لا ينقص من قيمة بقية المسيحيين ووجودهم في الثورة”.
وفي السياق ذاته، يرى عضو المكتب التنفيذي في حزب “وعد” ريمون معجون أن من ينظر إلى المسيحيين على أنهم واقفون إلى جانب النظام ينظر إلى المسألة من ناحية اجتماعية لا سياسية فاجتماعيا المسيحيون لا يعملون في السياسة وإنما في التجارة، ومن لا يعمل في السياسة النظام لا يقترب منه أبدا.
أما على المستوى السياسي فيعتقد ريمون معجون أن الكثير من المسيحيين وقفوا ضد النظام كما هو حال “المنظمة الآثورية الديمقراطية” والتي اعتقل عدد كبير من كوادرها في سجون الأسد ولا يزال بعضهم داخل السجن إلى الآن، بالإضافة إلى تنظيمات أخرى كالاتحاد السرياني الذي أعلن وقوفه إلى جانب الثورة السورية.
مخاوف المسيحيين
مع تقدم الثورة السورية يوما بعد آخر ومع تزايد تعقيدات المشهد، تعتري الطائفة المسيحية مخاوف كثيرة، خاصة بعد تكرر حوادث خطف بعض رجال الدين والاعتداء على عدد من الكنائس في بعض المناطق السورية. بالإضافة إلى ما يروج له النظام عن الجماعات الإرهابية وتحذيره المتكرر من خطر وصول الإسلاميين إلى السلطة.
رامي، وهو أحد المواطنين المسيحيين من حي الميدان بحلب، يرى أن بقاء نظام الأسد على ما هو عليه “هو الضمان الوحيد للوجود المسيحي أمام التيارات الإسلامية المتشددة”، مشيرا إلى أن الوقوف مع النظام أفضل من مجهول قد يكون أسوأ منه على حد وصفه.
من جانبه يتحدث جورج شاشان حيدو لـ “مسار برس” عن المخاوف المسيحية قائلا: إن هناك مجموعة كبيرة من المسيحيين خائفون من الأوضاع الراهنة في سورية، وخوفهم هذا ناتج عن كونهم أبناء أقلية.
ويتابع: “ولا ننسى المطرانين المخطوفين في سورية وكذلك الأب باولو، كل هذه التصرفات تجعل المكون المسيحي متخوفا من المستقبل، على الرغم من أننا نتّهم النظام وأعوانه بالوقوف وراء خطف رجال الدين المسيحيين”. يضاف إلى ذلك ما قامت به بعض “الجهات التكفيرية”، على حد وصف حيدو، من تكسير لتماثيل السيدة العذراء أو وضع رايات سود على بعض الكنائس وغيرها من التصرفات التي تعد رسائل سلبية ولا تساعد في إقناع بعض المسيحيين للمشاركة في الثورة.
من جانبه يؤكد أبو خالد أحد القادة العسكريين في الجيش السوري الحر في مدينة الرقة أن الاعتداءات التي قامت بها بعض الفصائل على الكنائس في الرقة وريفها هو عمل مرفوض، مشيرا إلى أن حماية الطوائف واجب الجميع في سورية وأن هذه الأعمال هي أعمال فردية لا تمثل عموم الشعب السوري أو الكتائب المقاتلة.
وحول ما يتردد عن مخاوف المسيحيين من وصول الإسلاميين إلى السلطة يقول عضو المكتب التنفيذي في حزب “وعد” ريمون معجون إن وصول الإسلاميين إلى السلطة يتوقف على نوعية الإسلاميين وطبيعة برنامجهم لأنهم طيف واسع، صحيح أن هناك تجاوزات فردية تظهر هنا وهناك يقوم بها بعض الأفراد الذين يتحدثون باسم الإسلام، إلا أن المسلمين أنفسهم يقولون عن هؤلاء إنهم يسيئون للدين “فلا المسلمون ولا المسيحيون يقبلون بتلك التصرفات أو التجاوزات”.
كما يعتبر معجون أن هناك بعض الفصائل المقاتلة التي تتخذ تسميات إسلامية فيشعر المراقب للوهلة الأولى أن هؤلاء يسعون إلى إنشاء دولة إسلامية في سورية، “وبكل الأحوال إن كان البرنامج الذي يدعون إليه قابلا للتطبيق ويخدم الجميع فلا بأس به، وإن قبلهم المسلمون بنسبة عالية فنحن سنقبلهم، لأن الإسلام بالنسبة لنا كمسيحيين شرقيين هو مفخرة، وفي نهاية الأمر فإن المواطن المسيحي البسيط ينظر إلى سلوك هؤلاء الإسلاميين وأعمالهم وبناء على هذا السلوك يقيمهم”.
المسيحيون في قوى المعارضة
برزت أسماء كثيرة من المعارضين المسيحيين في الساحة قبل الثورة السورية، بالإضافة إلى بعض التنظيمات والحركات السياسية، وعلى رأسها “المنظمة الآثورية الديمقراطية” والتي كانت من أبرز الموقعين على إعلان دمشق.
أما بعد الثورة فقد شارك المسيحيون في تأسيس المجلس الوطني والائتلاف الوطني من بعده، كما تأسست عدة أحزاب سياسة ضمت نسبة من المسيحيين مثل الحزب الوطني للعدالة والدستور “وعد” ذي المرجعية الإسلامية.
ويتحدث عضو المكتب التنفيذي في حزب “وعد” ريمون معجون لـ”مسار برس” عن الحزب قائلا إن حزب وعد ينحو نحو الدولة السورية المدنية التداولية الديمقراطية من خلال “المرجعية الإسلامية لأن الإسلام هو الضابط والضامن للمواطنة، ولأنه لا يميز بين السوريين”.
ويضيف معجون أن الحزب يتكون من أعضاء ينتمون إلى تيارات وثقافات مختلفة، وهم ممثلون لدولة المواطنة كتنظيم سياسي يقوده إسلاميون. “وعندما أتحدث باسم “وعد” أكون متحدثا باسم كل مسلم ومسيحي في الحزب، وهذا يعطيني القوة لأنني أتحدث باسم الجماعة على قدمين ثابتتين، ومن أهم الأسباب التي جعلتني أنضم إلى صفوف الحزب هو الخروج من شرنقة الطائفية”.
المستقبل المسيحي
شهدت الساحة المسيحية في الفترة الأخيرة حالة من الهجرة نحو البلدان الغربية، وقد ساهم في تنامي هذه الحركة التسهيلات الكبيرة التي تقدم لهم من قبل العديد من دول الغرب. الأمر الذي فسره مراقبون بأنه رغبة من الغرب لإفراغ المنطقة من المسيحيين، وإظهارهم بمظهر المظلوم والملاحَق والمهدَّد دائما من قبل أهله في البلد الواحد.
وذلك على غرار ما فعلته ألمانيا والنمسا التي أعلنت عن استعدادها استقبال آلاف السوريين مشددة على أن الأولوية ستكون في ذلك للمسيحيين.
أما على الصعيد الثوري فيدعو ممثل المجلس الوطني السوري في بلجيكا جورج شاشان حيدو المسيحيين إلى أن يدركوا أهمية موقعهم في المجتمع السوري، وأن يتحملوا مسؤوليتهم الوطنية السورية والثورية من أجل دعم مطالب الشعب السوري المشروعة، ويرى حيدو أنه من الممكن القول إن العديد منهم قد أخذ موقفا فاعلا، مطالبا في الاستمرار به وتوسيع المجال في هذا العمل.
السبت 7 ديسمبر 2013