بقلم : سامي ابراهيم
لم يكن الهدف الأساسي من عملية سحق الثورة في سوريا من قبل الديكتاتور باستخدام شتى أنواع الأسلحة الثقيلة هو قتل آلاف الأشخاص بقدر ما كان الهدف قتل الأمل في نفوس ملايين السوريين الطامحين إلى حياة حرة كريمة ومستقبل أكثر إشراقاً بعيداً عن العبودية وتقديس القائد الإله والامتنان لمكرماته.
لقد كان هذا التدمير الوحشي لسوريا الجميلة بمدنها وقراها عقابا أنزله الديكتاتور على من تجرأ على الاقتراب من الهالة المقدسة التي أحاط نفسه بها بمؤسساته الأمنية المرعبة التي جسدته كإله.
أليس كفرا أن تشكك بالسلطة الإلهية؟! أليس إلحادا أن يكون لك رأي مغاير لما يقترفه القائد الإله؟! ألن يحل غضب السماء لو كفرت بالقائد الإله؟!
فهذا التدمير والقتل للآلاف أراد تسويق صورته كأنه عقاب إلهي لأولئك الذين طالبوا بالحرية التي تتوق إليها النفس البشرية المستعبدة التي عاشت سنوات طويلة في القهر والذل وغدت متعطشة لحياة ديمقراطية حقيقية تحقّقت في بلدان كثيرة.
لقد أراد الديكتاتور ومن خلال منظومته الأمنية القمعية التي تطورت خلال عشرات السنين بث شعور في الناس من أن أي عملية تغيير في الحكم أو في المعادلة السياسية هي عملية لا أهمية لها ولا معنى لها، مسوقا للشعب فكرة أنه لا يوجد بديل أفضل منه في هذا الوقت العصيب الذي تمر به الأمة!
ظن النظام بأنه يستطيع أن يخلق إحساساً في قلوب ملايين السوريين بأنّ عملية التغيير القادمة هي عملية عبثية وأنها عبارة عن مضيعة للوقت، فأي قادم جديد وبهذه الإمكانات المتوفرة في البلد لن يستطيع أن يحمل أكثر مما يحمله هو.
دأب النظام على تخويف الناس بأن عامل الاستقرار الذي نعمت به سوريا لسنوات طويلة هو صنيعة وفضل هذا النظام، وان هذا العامل "عامل الأمان" هو الأكثر أهمية من أي عوامل أخرى كالعامل الاقتصادي وخنق الحريات وتضيق القبضة الأمنية، وهو الأكثر تعرضا للتهديد في ظل الظروف التي صاحبت البلدان التي شهدت وتشهد ربيعا عربيا.
فسوّقت أبواقه للناس فكرة أن "الأمان" أهم من رغيف الخبز، فكل شيء يستطيع الإنسان الاستغناء عنه إلا الأمان! وأن ملاحقة النشطاء وسجنهم ونفيهم وتصفيتهم هي عبارة عن عمليات فردية ضد أشخاص يهددون أمن الدولة ويرتبطون بأجندات خارجية وليست نهجاً لنظامٍ أخذ على عاتقه مهمة تحرير الأرض المغتصبة وقائداً لمحور المقاومة والممانعة في وجه الأطماع الغربية والصهيونية.
راح يُخيف الناس من (الفوضى) التي تتزامن مع أي عملية تغيير للنظام أو انتقال للسلطة، فشهدت الشهور الأولى للحراك الثوري السلمي عمليات نهب وسرقة وخطف، ونسب جميع هذه الحوادث للمطالبين بالتغيير وحمّلهم المسؤولية، معتقدا أنه بهذا الشكل سيخيف الشعب وسيتمنى بقاء القائد الإله الذي شيّد للشعب هذا الوطن ورسّخ هذا الاستقرار وزرع الأمان والاطمئنان في ربوع سوريا، فأخرج الآلاف من موظفي الدولة في مسيرات يومية تمجد اسم القائد الإله وتفديه بالروح والدم، وراح يتباهى بهذه المسيرات أمام وسائل الإعلام ويتذاكى على الشعب، في الوقت الذي أصبح هذا النظام أضحوكة وألعوبة بيد الدول.
وعندما فشلت محاولات النظام في إيقاف المظاهرات والاحتجاجات والمطالبة بالتغيير والإصلاح، لجأ إلى الحل العسكري، فأطلق النار على المتظاهرين محاولاً بث شعور الخوف في قلب من سيتجرأ على معاودة الخروج مرة أخرى، في الوقت ذاته أطلق عشرات القوانين وفي غضون أيام لكي يقطع حجة من يطالب بالإصلاح، متذاكيا على شعب قمعه أربعين عاما.
عشرات السنوات لم تكن كافية ولم يجد فيها الوقت الكافي لكي يقدم قانوناً إصلاحياً واحداً! ليأتي الآن في أيام معدودة ويطرح عشرات القوانين والمراسيم وإصدار العفو العام عن المساجين والمعتقلين! لا بل كتب دستوراً جديداً للبلاد وأنهاه في ساعات معدودة وطرحه في السوق للتصويت لتكون نسبة التصويت كالعادة لصالحه، متخبطاً في الوقت ذاته بتغييره الحكومات والوزراء ومجلس الرسوم المتحركة الذي كانت مهمته على الدوام التصفيق لكل نكتة ساذجة يتفوه بها الديكتاتور في خطاباته التي تعودنا فيها سماع قهقهته متعالياً مستخّفاً، ليعقب كل قهقهة هتاف وفداء بالروح والدم من قبل مجلس العبيد، ذلك المجلس بجبهته الوطنية التقدمية وقائمة ظلّه الذي كان على الدوام أضحوكة وسخرية الشعب.
……………………..
عندما باءت جميع محاولات النظام بالفشل في احتواء المظاهرات التي كانت سلمية لشهور عديدة، لجأ إلى عسكرة الحراك، معتقداً أنه سيسحق الثورة من خلال آلته العسكرية الضخمة في أيام معدودة.
ولكي يعطي لنفسه المبرّر للحل العسكري صوّر من طالبه بالحرية والتغيير كإرهابيين سلفيين يحملون أفكار الكراهية وإقصاء الآخر، وأدواتهم للمطالبة بالحرية هي السلاح والتفجيرات والقتل، وكأن أربعين عاما حكم فيها "الحزب القائد للدولة والمجتمع" حملت التعددية ومشاركة الآخر بالحياة السياسية! وكأنه هو نفسه عرف الديمقراطية يوما! وكأنه وصل للحكم بديمقراطية منتخبة! وكأن شبيحته لم تقتل وتفجر وتعتدي وتغتصب وتعتقل وتقطع الرؤوس!.
بدأت كتائبه باقتحام الأحياء والقرى واعتقال الشباب من تجاوزت أعمارهم الخامسة عشرة، حرق منازل النشطاء والمنشقين، معتقدا انه انتصر وأخضع الشعب، ولكنه على العكس، لم يكن يدري بعد أن حاجز الخوف قد كُسر، وأن سنوات العبودية قد ولت دون رجعة، وليبدأ الشعب بالدفاع عن نفسه ويحمل السلاح الذي أدخله النظام بنفسه عبر سنوات طويلة من فساد مدراء وعناصر الجمارك ومخابرات الحدود التي ارتشت واغتنت وبنت القصور والقلاع من خلال الأموال التي كانوا يقبضوها من تجار السلاح والمخدرات، ناهيك عن أن قسماً كبيراً من رؤساء أجهزة فروع الجمارك والمخابرات هم تجار أسلحة ومخدرات، وميناء اللاذقية وطرطوس المصدر الأكبر الذي يتم عبره إدخال الأسلحة والمخدرات.
خيار المقاومة المسلّحة كان الخيار الوحيد المتبقي لصد النظام المستبد في ظل عجز دولي واضح عن استصدار أي قانون، لا بل تكونت قناعة لدى الشعب أن من يحمي النظام هي إسرائيل نفسها، فهي لا تريد تغييره ولا تريد لأحد أن يزعزع حدودها الشمالية، وتم توزيع الأدوار في المجتمع الدولي فكل طرف يؤدي دوره تاركا الشعب السوري يُذبح ويُهجر ويُشرد.
بينما في ليبيا تم استصدار القرار خلال الأيام الأولى للثورة الليبية التي لم يجد فيها القذافي الوقت ليعي ما يجري حوله!
……………………..
لم يعترف النظام السوري في يوم من الأيام بوجود تنظيمات مسلحة تكفيرية، وصرّح الديكتاتور على الدوام في خطاباته ولقاءاته الصحفية بأنها خدعة أمريكية غربية لتبرير الاحتلال والتدخل والسيطرة على مقدرات الشعوب، ولكن عندما ثار الشعب في سوريا أصبح من يقود الثورة والحراك هم سلفيون وإخوان وتنظيمات تكفيرية ومتطرفة تحمل السلاح وتدعو للجهاد معتمدة أيديولوجية دينية!
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو:
حتى لو وجد متطرفون وتكفيريون، أليس حزب البعث نفسه حزباً متطرفا متعصبا شوفينيا يُقصي الآخر ويُنصّب نفسه الحزب القائد للدولة والمجتمع؟!
ألم يفرض حزب البعث ثقافته وأفكاره بالقوة؟!
ألم يقصي من اختلف معه عن الحياة السياسية وغيبه في ظلمات السجون وقتله؟!
ألا يحمل البعث ايديولوجية تدعو لحمل السلاح لاسترداد الحق؟!
ألم يتبنى البعث "كأيديولوجية" العمل المسلح طريقا وخيارا وحيدا لنهجه؟!
فما الفرق إذاً بين حزب البعث وبين التنظيمات الجهادية التي يسوق لها النظام بأنها هي البديل وهي من تقود الثورة ويخيف بها الشعب الطامح للديمقراطية والعدالة والحرية والمساواة!
البعث حارب الشعب بلقمة عيشه، فلا يمكن لأحد أن يتوظف إن لم يكن بعثيا، لا يوجد مدير مؤسسة أو مستخدم غير البعثي، ولكي تتوظف كمدرس أو مهندس أو حقوقي أو اقتصادي أو ممرض أو حفار أو زبال فأنت بحاجة لأن تكون بعثيا ولموافقة أمنية.
ويحدثك البعث طوال أربعين عاما عن محاربته للعنصرية والتطرف والنضال من أجل الحرية ونيل الحقوق وتقديس الحريات وحق الاجتماع والاعتقاد!
إذاً ماذا يختلف التطرف القومي الشوفيني الذي حمله البعث عن التطرف الديني أو العرقي أو أي تطرف آخر؟!
لقد أظهرت الثورة في سوريا للعالم الوجه الحقيقي لحزب البعث، فهو الحزب الأكثر تطرفا وفاشيةً من أي حزب استلم زمام الأمور والحكم في البلدان التي حكمتها ديكتاتوريات.
لم يكتب التاريخ في يوم من الأيام فظاعة ما يمكن أن يرتكبه نظام حاكم بحق شعبه مثلما فعله في سوريا.
صدّع رأسنا بالمقاومة والممانعة وبأنه حامل هموم الأمة العربية وأنه المقاوم الوحيد للامبريالية وأن كل ما يجري في العالم لأي مطالب بالحرية هي مؤامرات تحاك من قبل الغرب هدفها الوصول لسوريا ومحاولة للنيل من صموده ومقاومته، لكنه في الوقت ذاته جعل حياة السوري جحيما لا يطاق.
لقد كانت مجموعاته الإرهابية المسلحة (عناصر الفروع الأمنية المختلفة) لمدة أربعين عاما تتسلط على المواطنين وترهبهم، يدخلون المطاعم والنوادي متسلطين على أصحابها، يبتزون أصحاب المحال التجارية، ولا يمكن أن تتخيل أنهم قد يعتقوا أحدا دون دفع المعلوم.
صوّر نفسه المدافع الوحيد عن القضية الفلسطينية وراح يعدد انتصاراته على العدو الإسرائيلي وأن اسرئيل هي العدو الوحيد الذي قتل الشعب العربي وارتكب المجازر المروعة بحق أبناءه، في الوقت الذي باع فيه نظام "المقاومة والممانعة" الجولان متذاكيا على الشعب الذي أخضعه وأخنعه بوحشية وبطش.
والآن يدمر المدن ويمحو قرى بأكملها عن الوجود مرتكبا مجازر مروعة، حتى إسرائيل نفسها لم تقتل وتهجّر من الشعب الفلسطيني خلال أكثر من ستين عاما على وجودها ما قتله وهجّره من الشعب السوري خلال عام ونصف! ليكون رغيف الخبز واسطوانة الغاز لمن بقي تحت القصف أقصى ما يمكن للسوري أن يتمناه ويحلم به.
كل ذلك بحجة وجود مجموعات إرهابية متطرفة.
لقد أصبح جميع أفراد الشعب الآن "جبهة النصرة"! بما فيهم الأطفال والنساء والشيوخ الذين ذبحهم شبيحته بالسكاكين والسواطير.
…………………………..
لم تكن الثورة في سوريا مسلحة والجيش لم يكن معنيا بما يجري، فالأمور في البداية كانت بسيطة والمطالب سلمية وأغلب المظاهرات كانت عبارة عن أغاني ودبكات ونكات، ولم يكن لأكثر المتشائمين من التغيير أن يتوقع كل هذا الإجرام والقتل والتهجير والنزوح والاعتقال، فأن يصل الجنون بهذا النظام لاستخدام الدبابات والمدفعية والطيران والآن صورايخ استراتيجية لقصف المدن والقرى بهذه الوحشية، ومن رئيس شاب طبيب درس في لندن توقعه الجميع أن يكون ذكيا وأن يلعب دورا ايجابيا في تمهيده لطريقة نقل السلطة، ويكون وطنيا بما يكفي حتى يتلافى البلد ليس فقط الكارثة التي حلت به الآن بل كان بالإمكان تلافي أخطاء البلدان التي شهدت ربيعا عربيا، لكنه خيب ظن كل سوري، وانهارت الدولة قبل انهيار النظام وانهيار الدولة أخطر من انهيار النظام، وتم تدمير البنية التحتية للبلد. حرق الورش والمصانع والأراضي والمواسم، ليتم التهجير والنزوح من أغلب المحافظات السورية، ويصيب الفقر المدقع جميع أفراد الشعب.
وبعد أن كان الشعب السوري يقدم مساعدات لدول الجوار ويقدم لهم الدواء والماء والكهرباء والوقود والغذاء أصبح السوري العزيز النفس والأبي يستعطف العالم لإعطائه رغيف خبز يسد به رمق أطفاله.
بين ليلة وضحاها وبغباء هذا النظام الوحشي البربري حول الشعب السوري من مستقبل للاجئين من دول الجوار إلى مشردٍ نازحٍ يعيش تحت الخيم في ظروف مناخية تقتل أشرس الكائنات الحية.
قد تشهد سوريا في الأيام المقبلة وحتى الأشهر المقبلة المزيد من سوء الأوضاع الإنسانية والمزيد من المجازر ولكن في النهاية سينتصر الشعب السوري، وسيسجل التاريخ أعظم انتصار يمكن لشعب أن يحققه عبر التاريخ.
شعبٌ ناضل في سبيل الحرية، شعب وقف عاريا في وجه آلة الموت والقتل وتحدى البرد والجوع والمرض.
نعم انتصر الشعب السوري لذاته وانتصر لأجيال المستقبل، وانتصر لأرواح آلاف الشهداء الذين قدموا أنفسهم قرابين على مذبح الحرية في سبيل سوريا حرة واحدة أبية.