في حملته الأخيرة على المعارضة السورية وعلى «متآمري» الخارج، لجأ الرئيس بشار الأسد إلى الدفاع عن القومية العربية، واتّهم من يعتبرهم خصومه من العرب بأنهم «مستعربون»، وقال إن التجرؤ على سورية، وهي «قلب العروبة النابض»، يجعل عروبة هؤلاء مشكوكاً فيها. أليست دمشق هي عاصمة بلاد الشام وعاصمة الأمويين، على ما فاخر به الرئيس السوري. لا جدال حول موقع سورية التاريخي المهم في قلب العالم العربي، ولا حاجة لاستعادة شهادة الرئيس عبد الناصر فيها، فسورية لا تحتاج إلى شهادة.
غير أن استعادة هذا الموقع الآن على لسان الرئيس السوري، في الوقت الذي تنحاز دمشق إلى معسكر في المنطقة، لا يكنّ للعرب، حضارة وثقافة ولغة، إلا الاحتقار والاستخفاف، هو الذي يدعو إلى الاستغراب. فالاتكاء على موقع سورية العربي يأتي بعد أن ذهب النظام السوري بعيداً في تحالفه مع النظام الإيراني، الذي يعتبر القومية العربية وشعاراتها عدوه الأكبر، ويرفض اعتبار الخليج «عربياً» مصراً على تعريفه «الفارسي» له. بل إن قادته ممن يتقنون اللغة العربية، يرفضون النطق بها. أضف إلى ذلك رعاية ذلك النظام للمشروع التفتيتي المذهبي في المنطقة، الممتد في كل مواقع نفوذ ذلك النظام، من بغداد إلى بيروت، مروراً بعدد من دول الخليج، حتى وصل الآن إلى سورية نفسها.
كيف يستقيم في هذه الحال الاستنجاد بالعروبة، فيما العرب ينظرون إلى التحالف السوري الإيراني بحذر، معتبرين أن قواعده مذهبية بحتة لا تمت إلى القومية العربية الجامعة بأية صلة؟ اضف إلى ذلك أن العروبة التي يستحضرها الرئيس السوري اليوم فقدت لمعانها ولم تعد تسيل لعاب احد، في ظل عمليات التوحيد القسرية التي ارتكبها «القوميون العرب»، وفي طليعتهم أصحاب شعار «يا عروبة من حماكِ غير البعث الاشتراكي». يكفي ذكر ما اقدم عليه القيّمون على العروبة من البعثيين العراقيين والسوريين في كل من الكويت ولبنان، وقبلهما في الأردن وفلسطين. ث
م إن مشاعر العروبة الصادقة لا تتفق مع التعامل بعنصرية واستعلاء مع فريق من المواطنين ولو كانوا معارضين، أو مع العرب الآخرين، والخليجيين منهم على وجه خاص. السوريون الذين يتظاهرون ضد النظام يوصفون بأنهم فلاحون وأبناء قرى، لا يكنّون للمدن والحواضر سوى مشاعر الحسد. بل إن بعضهم وُصفوا مؤخراً بـ «الشياطين». أما الخليجيون فهم ليسوا في نظر القيادة السورية سوى أصحاب أموال يفتقرون إلى «الحضارة». ويصل الاستخفاف بهم إلى حد إهانة ملبسهم وطرق عيشهم، بما يذكر بشوفينية القومية النازية التي قامت شعاراتها على العنصرية والفوقية في التعاطي مع الأعراق والقوميات الأوروبية الأخرى.
ومشاعر القومية الصادقة لا تتفق مع تصنيف النظام السوري نفسه كمدافع عن الأقليات، بهدف استغلال خوفها وتعزيزه كوسيلة للمحافظة على دعمها للنظام. فالقومية يجب أن تكون وعاء حاضناً للجميع. وادعاء حماية الأقليات يعزز التفكك الوطني الذي أمعن النظام أصلاً في تفكيكه على أسس مذهبية، واضعاً المذهب والطائفة في موقع متقدم على الوطن، وهو بالطبع أبعد ما يكون عن الفكر الذي يفترض أن يعتنقه أي قومي حقيقي. انه دفاع واستنجاد متأخران بالقومية العربية، التي افقدها القوميون انفسهم بريقها، وبات معظم العرب متبرئين منها.
لأن الذين تولوا «رعاية» هذه القومية خلال أربعة عقود لم ينجحوا سوى في إطلاق الشعارات، سواء ما تعلق منها بالداخل في أوطانهم، أو في الخارج، في المواجهة المعروفة النتائج التي يتحدثون عنها مع «العدو الصهيوني». المتظاهرون في سورية اليوم لا يتظاهرون ضد انتماء سورية العربي.
انهم يتظاهرون مطالبين بحريتهم وبأن يسمع النظام صوتهم. ولو كانت العروبة متصالحة في الأصل مع قيم الحرية والديموقراطية والعدالة، كما كان يجب أن تكون، لما كفر بها كثيرون من العرب، كما أظهرت ثوراتهم، ولما كان صوت الرئيس السوري في دفاعه المتأخر عنها مثل صوت صارخ في البرية.
السبت 14 كانون الثاني 2011
الياس حرفوش