حلان أحلاهما مر لأنهما يقودان إلى الموت. كثير من البسطاء والسذج ممن يتلهون بقوت يومهم، ويجهدون أنفسهم لرفع مستواهم المادي أو هؤلاء اللذين يركبون السيارات الفاخرة، ويمضون الليالي الحمراء في المنتجعات على حدٍ سواء يتوهمون بأنهم أحياء.لكن بالحقيقة هم أموات لأن الموت في نظرهم هو الموت الجسدي الموت الذي يتوقف فيه نشاط الجسد بكل ما يعنيه من نبض للقلب واسترسال للعقل. تذرف على المرء الدموع، ويحزن الآباء والمحبين وتندب الأم فقيدها.لكن سرعان ما يتوارى تحت الثرى، ويذهب به النسيان إلى الماضي لأن الحياة لا تتوقف وتشق طريقها عبر الزمن لكن هناك موت آخر من نوع آخر أكثر أهمية وشأناً يلاحق المرء من جيل إلى جيل هو الموت المعنوي والنفسي والروحي، وتأثيره أكثر سطوة وتجذراً وعمقاً في إيذائه من الموت الجسدي لأن الموت الجسدي يمكن للمرء أن يسجل فيه كثير من الأحيان انتصاراً، وحياة للآخرين.خاصة الموت الذي يأتي في سبيل أهداف سامية كالدفاع عن النفس والوطن والأرض. عندما أقول النفس لأن الإنسان يولد حراً ومن حقه منع زهق روحه، وعندما أقول الوطن لأنه أقدس ما يملك الإنسان على الأرض فهو حافظ كرامته وحريته، وعندما أقول الأرض لأنها السياج المنيع الذي يمارس فيه الإنسان إنسانيته، بعيداً عن الذل، والمهانة، والاستبداد والاغتراب، هذا هو حال كل البشر، لكن للكلدو آشوريين شأن آخر. قبل أربعون عاماً كنت أتصفح كتاباً بعنوان الماضي يبعث حياً، ودققت ملياً بسطور ذلك الكتاب وهي تتحدث عن كبوة الشعوب ، ونهوضها ولكنني لم أعثر بين تلك الشعوب ما يشير إلى الكلدو آشوريين. فانتابني التوتر، وجعلني أعيد قراءة تلك السطور لعلني متوهماً لكن دون جدوى، وظل سؤالاً يراودني باستمرار لما حصل للآشوريين، ولماذا؟؟ هل هم استثناء عن مقولة التاريخ يعيد نفسه، أو الماضي يبعث حياً أو أنها أوهام يتناقلها البشر كل بما تخدم هذه المقولات أهدافه ،ونهوضه. لقد مضى على الآشوريين ستاً وعشرين قرناً وهم يقدمون قرابين بالملايين من خيرة أبنائهم بما أسميته الموت الجسدي لتحقيق نهوضهم، لكن هذا النهوض ظل بعيداً عن المنال، وظلوا غارقين مستسلمين للموت المعنوي والنفسي والروحي، وبالتالي فقدان للحرية والكرامة، والقرار المستقل في وطنهم، إلى جانب اغتراب داخلي وخارجي، عندما أقول اغتراب داخلي أعني فيه هروباً في الجغرافيا الداخلية بحثاً عن مكان في أرض الوطن يخلصهم من سيف الجزية تارة، والخوة تارة وأطماع ( الأغا والبيك والأمير ) تارة أخرى، وبعد انسداد أفق هذا الهروب الداخلي بدؤوا هروباً في الجغرافيا خارج الوطن للبحث عن مواطنة يتساوون فيها مع الآخرين. قبيل الحرب العالمية الأولى دفع الآشوريين، والسريان ثمناً باهظاً كموطن وشعب في جبال آشور وطور عبدين للحفاظ على ما تبقى من وطن تقاسمته الذئاب وعاثت فيه فساداً وزرعت الموت الجسدي والمعنوي في كل مكان من أرض الوطن. في بلاد الرافدين لم يلق الكلدو آشوريون سلاحهم على الرغم من جراحهم البليغة لتجاربهم المريرة مع الشعوب المحيطة لعدم إيفائهم بالوعود ( كحادثة اغتيال مار بنيامين شمعون ) حتى عهد عبد الكريم قاسم في الخمسينيات من القرن الماضي بعد أن حصلوا على وعد قاطع بالمواطنة الكاملة وإنهاء معاناة الموت الجسدي، والمعنوي لهم لكن هذا سرعان ما تبخر في عهد البعث في العراق من خلال الإمعان في تعريبهم أو هجرتهم خارج الوطن ولكن ذلك لم يفقدهم الأمل، وعادوا إلى النضال المسلح حتى عام 1973 وصدور مقررات 11 آذار المتضمنة الاعتراف بحقوقهم الثقافية وتسمية الموصل بنينوى وفي عهد التحرير من الطاغية كما يحلو لبعض العراقيين أن يسمونه حلقة الموت الجسدي كان لها رأي آخر على مرآى ومسمع العالم ولم يفيد فيه قبول الموت المعنوي والروحي لأن الوقت لم يعد يتسع لذلك وحادث تفجير كنيسة سيدة النجاة شاهد على ذلك.أما في الجزيرة السورية استطاع السريان خلال ما يزيد عن عشرين عاماً في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي من بناء اقتصاد زراعي متطور، وكوادر ثقافية أذهل بعض المراقبين الدوليين بذلك ولكن يبدو أن المصير لم يكن أفضل حالاً من أخوتهم بالعراق أقله استمرار الشعور بالاستبداد، وفقدان للحرية ومن ثم الاغتراب الخارجي بحثاً عن مواطنة يتساوون فيها مع الآخرين خارج وطنهم لأن إخوتهم العرب على الرغم من المتغيرات العالمية صعوداً نحو مجتمعات ديمقراطية يحقق فيها الإنسان إنسانيته، ويستعيد كرامته ظلوا يهربون في التاريخ بحثاً عن مبررات ومقومات الدولة الدينية هذا ما نشهده من سجال بين مؤيدي الدولة المدنية ،والدولة الدينية في تونس ومصرلايبشربالخيروهما اللتان حققتا انتصاراً ثورياً للنهوض بالمجتمع نحو دولة مدنية تتحقق فيها أحلام الأفراد في الحرية والديمقراطية، وصون الكرامة الإنسانية أما في سورية ظلت الأحزاب الكلدو آشورية والسريانية المعنية بالشأن الوطني لا أقول عاجزة لكنها ظلت غير فاعلة فيما بينها في تكوين رؤيا شعبية مشتركة وعدم معالجة الاغتراب الخارجي قد تكون معذورة في ظل القمع الفكري والإستبداد السياسي وفي هذا المخاض الذي يعيشه الوطن نجد ضرورة ملحة إلى تكوين تحالفا وطنياً أو جمعية وطنية تشمل جميع مكونات المجتمع على مختلف انتماءاتهم القومية والدينية من عرب وكرد وآشوريين وسريان وأرمن يتخلى فيها الكردي عن أحلامه في قيام الدولة الكردية اقله في الجزيرة ،وتوقف العربي عن البحث عن مبررات الدولة الدينية ،والآشوري والسرياني عن الشعور بالاستبداد والاغتراب الخارجي لأنني كمواطن عادي أرى مستقبلاً واعداً في تحقيق لحمة اجتماعية إنسانية تمثل كل مكونات الوطن لبناء مجتمع حر ديمقراطي تعددي وطن يسع للجميع يستعيد فيه الفرد كرامته وإنسانيته وتتحقق فيه جميع أماله بعيداً عن الاستبداد والمهانة والشعور بالدونية والاغتراب .
أبـو تـغلات .. كاتب آشوري