سعيد لحدو
8 حزيران 2011
يقول المثل الشائع: (حبل الكذب قصير). ذلك لأنه لن يطول الوقت حتى تنكشف الكذبة. وبمناسبة ذكر الحبل فقد قيل أيضاً: (التعلق بحبال الهوا) كناية عمن فقد الأمل ويحاول التمسك حتى ولو بحبل من الهواء. أما النظام السوري وبعد أن ضاقت به سبل الإصلاح فقد تفتقت عبقريته عن ابتداع حبال من نوع آخر وهي حبال الشبيحة التي باتت أمله الوحيد رغم قصرها الشديد.
والشبيحة هو المصطلح الأحدث في عصر الثورات في المنطقة العربية. وإن كانت جذوره اللغوية تعود إلى كلمة شَبَح العربية، وجمعها أشباح. لكن دلالاتها المعاصرة تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير. ويستدل عليها من صيغة الجمع المستعملة شعبياً في الشارع السوري وهي الشبيحة. وهذه تتماهى في بعض تجلياتها مع مصطلح البلطجية في الثورة المصرية أو البلاطجة اليمنية. لكن الشبيحة في نسختها الأصلية السورية تتجاوز مفهوم البلطجية بكثير من حيث تعدد الأغراض والاستعمالات وأساليب أداء الأدوار المنوطة بأفرادها. فهم ببساطة ليسوا بحاجة لامتطاء حصان أوجمل كما فعل إخوانهم المصريون وندموا كما يبدو على فعلتهم تلك.
ذلك لأن تلك وسيلة نقل من العصور القديمة ولم تعد تصلح لزمن القائد الرمز من جهة، ومن جهة أخرى لأن الشبيحة فيهم الكثير من الوفاء لماضيهم ويستطيعون أن يمتطوا سيارات الشبح الفارهة التي يدينون لها بلقبهم الذي اكتسبوه عن جدارة واستحقاق. وأن يتحولوا من مهربين وزعران وسلبطجية وفارضي خوَّة وسمسرة إلى رجال أمن بامتياز بمهام واضحة ومحددة في شوارع الثورة السورية. وبالسرعة ذاتها يمكنهم التحول من عناصر أمنية تصوغ قوانينها الخاصة وتنفذها بنفسها، إلى مجموعات إرهابية مسلحة تروِّع وتقتل المواطنين كما رجال الأمن والجيش. أقله بحسب الإعلام الرسمي السوري.
ولأن صفة الشبح تظل تلازمهم أينما حلوا، فيمكنهم التحول بلمح البصر إلى مندسين في صفوف المتظاهرين العزل الآمنين المحتمين بالدستور الذي كفل لهم هذا الحق، بشهادة الكثير من المسؤولين السوريين وإعلامييهم على الفضائيات، فيعيث أولئك المندسون فساداً وتخريباً في الممتلكات العامة والخاصة مما يستدعي في هذه الحال (استنجاد) المواطنين بالقوى الأمنية الرسمية ودبابات الجيش ومجنزراته التي سرعان ماتتدخل فتطلق نيرانها على تلك الأشباح أو الشبيحة بحسب المصطلح الشعبي لطرد أرواحها الشريرة من المدن والبلدات السورية. ولكن ولأنها أشباح، فإن القذائف لاتصيبها، وإن أصابتها فلن تؤثر فيها. وعوضاً عن ذلك فإنها تصيب المدنيين والأطفال الأبرياء.
ولأن بمقدرة الأرواح التحرر من قيود الزمان والمكان فإن هذا هو المفتاح الذي يفك لنا لغز الظهور الفجائي لمجموعات سلفية على وشك إعلان إماراتها على بعض الأراضي السورية دون أن يلمحها أحد أو أن تتمكن أجهزة الأمن، بأعدادها وإمكاناتها المتورمة وصلاحياتها غير المحدودة والمحمية من أية ملاحقة قانونية جراء قيامها بوظيفتها الأمنية تلك، من القبض على أيٍ منها. في الوقت ذاته يمكن لتلك الأرواح الشريرة أن تقدم نفسها لوسائل الإعلام الرسمية كسلفيين إرهابيين مخربين مندسين وعصابات مسلحة تدربت جيداً على القنص والإصابة في الرأس والعنق تفادياً لأي شكٍ قد يأتي من المغرضين وهواة التشكيك من منقوصي الوطنية.
ومن نافل القول أن إحدى تجليات هؤلاء الشبيحة تتمثل بتحويل المدنيين السوريين في ساحات المدن والبلدات السورية إلى عناصر بيشمركه أو أفراد من قبائل يمنية مغمورة ليمارسوا ساديتهم عليهم كي لايقال أنهم خانوا وطنيتهم وأهانوا أبناء جلدتهم. وإن سقط أحد الأطفال بأيديهم فمن السهل القول بأنه وُلِدَ بدون عضو تناسلي، أما موته فلأن يومه قد انقضى وكلنا سائرون إلى المصير ذاته طال الزمن أم قصر.
ورغم أن أولئك الشبيحة بشر مثلنا، على الأقل من حيث الشكل، وكما يبدون لنا من لحم ودم، لكنهم يتمايزون عن الناس العاديين بتلك الأرواح الشريرة التي تسكنهم فتمنحهم خفة في الحركة وميزة التقمص تسهيلاً لأداء أدوارهم التي قُدِّرَ لهم أن يؤدوها. تلك المزايا الخارقة تجعلهم يتسلقون بخفة ورشاقة أعلى الأبنية وأكثرها تحصيناً أمنياً والمطلة على الساحات والشوارع الرئيسية ليقنصوا كل ما يتحرك في تلك الساحات والشوارع. ومن المصادفات الغريبة أن رصاص قناصاتهم تلك لا يصيب إلا المتظاهرين المعارضين في حين أن لعنة الموت الشريرة التي ابتلينا بها لم تصب بعد أياً من المؤيدين. وهذه قد تكون حكمة من المولى لم ندرك نحن البشر بعد أبعادها ومراميها وإن كنا نظن، وبعض الظن إثم، أن لادخل للإرادة الإلهية بهذا الشأن، لأن الله عادل ويوزع رحمته كما غضبه على عباده بالعدل والقسطاس.
ومهما طال الزمن فإن الحبال التي يتعلق بها النظام تبقى حبالاً من هواء كبقاء تلك الأغنية الشعبية السورية (وصَّلتينا لنص البير وقطعتِ الحبله فينا) خالدة في ضمائر السوريين الذين وجدوا فيها تصويراً لحال النظام مع شبيحته التي لن يطول بها المقام حتى تقطع حبال الوصل بينها وبين النظام لتبحث عن سبل النجاة لنفسها.