دمشق(سوريا) – وكالات >>> تعيش سوريا هذه الأيام واقعاً مؤلماً لم تعرفه منذ الثمانينات، وقت اندلعت المعارك بين النظام والأخوان المسلمين في وسط سوريا وشمالها، وأُجهض بالتالي، حلم السوريين بدولة ديمقراطية – حلم يتحمّل وزر إجهاضه النظام والأخوان على حد سواء. لقد عاشت سوريا، بعد " خروج " فرنسا التي تركت في الوطن أعرافاً ومؤسسات مدنية-ديمقراطية لا يمكن إنكارها، طوراً جنينياً لمرحلة ليبرالية-مدنية-ديمقراطية، كان يمكن لها لو رأت النور أن تجعل من هذا الوطن المغرق في الحضارة أحد أهم دول آسيا؛ لكن الواقع المر يقول، إن البورجوازية السورية التي تربت في أحضان البنى الديمقراطية الفرنسية، تخلّت بفعل غرائزي غير معقلن، فرضه واقع المرحلة المعرفي، عن الاستقلال السوري لصالح وحدة غريبة مع النظام الناصري الاستبدادي، فخرجت سوريا من التاريخ بمعناه الصيروري، ولم تفق على واقعها غير الطبيعي إلا بعد فوات الأوان. كان خطأ النظام القاتل أنه بعد انتصاره على جماعة الأخوان المسلمين في تلك الحرب الطائفية الدموية، أنه لم يشرف على نقل سوريا إلى مصاف الدول المتحضرة عبر فرض تام للأسس العلمانية-الديمقراطية-الليبرالية، بل إن كل حراكه السياسي منذ الثمانينات إلى اليوم لا يشير إلا إلى عكس ذلك. وكان أسوأ ما قام به النظام وهو ما أوصل سوريا إلى الأفق المسدود الحالي، هو التالي:
1 – اعتقاد النظام الخاطئ، الذي يتحمّل وزره مجموعة مستشاري الرئيس، أن الحل الأمني كاف لنزع فتيل الانفجار؛ لكن الجرح الذي أقفله الحل الأمني من قبل على الزغل في منطقة صغيرة، تفجّر في كافة أرجاء سوريا عند أول فرصة أتاحت له إمكانية التفجّر موضوعياً؛
2 – بدل أن يفتح النظام الباب على مصراعيه أمام القوى العلمانية التي هي القطب الوحيد المقابل للسلفية؛ بدل أن يختار النظام فتح الأبواب نحو المستقبل، اختار أن يدخل في سباق " غير مسبوق " مع الأخوان المسلمين على العودة إلى غياهب الماضي ومحاربة حركة التاريخ. وكان اختيار النظام الاعتماد على رجال الدين من أجل إقناع الناس العاديين أن النظام إسلامي وليس العكس. وكانت النتيجة كارثية: انتشار أفقي لا مثيل له في تاريخ سوريا لحركات التطرف الديني التي كان طبيعياً أن تفرز جزراً سلفية تكفيرية غير قابلة للتدجين أو السيطرة؛
3 – المركزية غير المنطقية للقرار التي تجعل السلطات كلها في يد شخص واحد، الأمر الذي يشوش منطقية فصل السلطات ويفعّل الاستبداد إلى أقصى مراحله.
ولما كانت السلفية التكفيرية هي الوجه الآخر للاستبداد، فقد لعبت مركزية القرار وذيولها أدواراً لا تنسى في تنامي ظواهر التكفير والسلفية. إذن، إن النظام، الذي شجع بشكل غير مباشر وأحياناً بشكل مباشر على تفشي الحركات التكفيرية في سوريا، هو المسئول الأول والأخير عن الحوادث الدموية في الوطن. مع أن سوريا، بسبب وضعها الإثني-الطائفي المغرق في تعدديته، كانت تمتلك إمكانية أن تكون الحامل الحقيقي للديمقراطية إلى كل العالم العربي. وكان لهذا أسبابه الكثيرة؛ منها:
أ– انتماء كثير من المتنفذين في الحياة السياسية السورية إلى بيئة أبوية استبدادية معادية للمدنية، لا يمكنها أن تفهم – لمجرد الفهم – وجود آخر معارض؛ وزاد الطين بلة كالعادة جيش المنافقين المحيط بهؤلاء، الذين يبررون لهم لكسب رضاهم كل أفعالهم المعادية للمنطق؛
ب– استبعاد البورجوازية السورية الحقيقية، الحامل الحقيقي للديمقراطية، عن الحياة السياسية السورية؛ وكان أمام تلك البورجوازية أحد ثلاثة خيارات: الهجرة، السكوت، أو القبول بشروط السلطة والدخول المنفعي إليها من الباب الأوسع عبر الشعارات الغرائزية التي يعرف الجميع عقمها؛
ج– استبعاد السلطة الكامل للمثقفين، صوت العقل؛ مقابل اعتمادها على جيش من الفنانين ورجال الدين، نداء الغريزة.
فلأن السلطة غرائزية، ولأنها عاجزة عضوياً عن سماع صوت العقل، اختارت موقف الريبة والشك من المثقفين الحقيقيين الذين كانت سيئتهم الوحيدة أنهم لا يجيدون فن التصفيق النفاقي، ويعتبرون الصدق أقرب الطرق إلى التمدن. بالمقابل، ربطت الأجهزة نفسها، بفعل غرائزي لا يعني غير عجز أصحابه عن المنطقية الحقيقية، بمجموعة من الفنانين، الذين يعتمدون شكل إبهار بصري لا علاقة له في أغلب الأحوال بأي دفع باتجاه مدنية الدولة ( عاد بعضهم بغرائزية ملفتة إلى الماضي في الأعمال الأشهر )، ومجموعة من رجال الدين، كان همهم الأوحد إيغال الجماهير في أعماق الماضي عبر أفعال وأقوال تخاطب الغريزة وتعادي العقل؛ وانقسم الشارع السوري بالتالي إلى نوعين لا ثالث لهما تقريباً: نوع يلهث وراء الغرائزية الفنية، ونوع يركض بهرولة عكسية وراء الغرائزية الدينية. وكان الخاسر الأوحد في هذه المرحلة هم المثقفون ومن خلفهم الأقلية المدنية الحضارية الهاربة من أواصر الماضي، لأنهم صوت العقل والمستقبل. لقد أظهرت الظروف الأخيرة أن حزب البعث فشل بالمطلق.
لا نتحدث هنا نظريّاً، لأن مسألة العروبة كشفت عن وجهها المنير رغم كل الادعاءات في مسألة العدوى الثورية، بل عملياً؛ لأنه حزب سلطة امتلأ حتى أذنيه بجيوش المتسلقين والمنافقين والباحثين عن السلطة عبر ركوب حزب لا يؤمنون وربما لا يعرفون شيئاً عن مبادئه. وظهرت الكارثة في أن مدناً مغلقة حزبياً نظرياً بالقفل البعثي أظهرت واقعياً أنها الأكثر عدائية للنظام الذي أوجدها والحزب الذي يقال إنها تمثله. وكانت النتيجة الحقيقية للنضال البعثي على مدى ثمان وأربعين عاماً من تسلم الحكم والسلطة، تفشي الأصولية والسلفية والتكفيرية بشكل لا مثيل له في تاريخ سوريا الحديث.
إن التجمع الليبرالي السوري، الذي تم كتم صوته على أيدي مدعي التقدّم والوطنية عام 2004، والذين أثبت بعض رموزهم أنهم الأكثر عدائية للتقدّم والوطنية بل لم يخجل هذا البعض من إظهار ارتباطه بالتكفيريين وهو الذي اعتقلنا بسبب رفضنا لوجود المادة 8 في الدستور السوري، يرى أنه ما يزال ثمة ضوء في نهاية النفق، وأن الحل السياسي ما يزال ممكناً. بل أكثر من ذلك، فالتجمع الليبرالي السوري يعتقد جازماً أنه يمكن أن يكون للمرحلة الحالية من تاريخ سوريا، رغم المآسي والدماء، فوائدها المصيرية على مستقبل الوطن وتطلعاته نحو دولة العصر. هذه المرحلة أظهرت زيف اعتقادات بعضهم من أن كل شيء " تحت السيطرة "؛ وأن الوضع الذي كان راهناً يمكن أن يبقى على حاله بقوة البندقية إلى ما لا نهاية. البندقية قد تسكت الآخر لكن ما أن تتعب اليد التي تحملها حتى ينفجر الوضع. وحدها الثقافة الحقيقية تستطيع أن تخلق جوّاً حضارياً يرفض العنف بكافة أشكاله. إن التجمع الليبرالي السوري يرى أننا بحاجة إلى ثورة شاملة تنقل البلد كله إلى مصاف الدول المتحضرة.
وفي ذلك نعتقد أن اعتماد نقاط من تجارب مماثلة قريبة جغرافياً وتاريخياً، ونقصد بذلك تجربة غورباتشيف في روسيا، يمكن أن يكون مفيداً؛ فالإبداع لا يتأتى من الفراغ بل من الإضافة على التراكم المعرفي السابق وأحياناً نقده. الغلاسنوست ( الشفافية ) والبيروسترويكا ( إعادة البناء ) يجب أن يكونا عنوان المرحلة المقبلة. وانطلاقاً من الغلاسنوست تحديداً، يمكن أن نشير إلى التالي:
1 – نبدأ باسم الجمهورية؛ لا يعقل عبر البيروسترويكا المرجوة أن تظل سوريا تحمل الاسم الرسمي، الجمهورية العربية السورية، بتأثير من الأيديولوجيا البعثية. إن تعبير " العربية " يعني إقصاء كل المجموعات الإثنية غير العربية. لذلك لا بد من اسم يغطي كافة أطياف الوطن، ويمكن الاستعانة هنا بالتجربة اللبنانية. كذلك فالنشيد الوطني السوري الذي لا يعترف بغير العروبة هوية واٌلإسلام ديناً يضيف إلى الأطياف التي أقصتها التسمية الرسمية للوطن إقصاءات جديدة.
2 – ضرورة الإلغاء الفوري للمادة 8 من الدستور، التي تجعل من حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع، خاصة بعد أن أثبت فشله الذريع في كل المهام التي أنيطت به. كذلك فإن إلغاء هذه المادة سوف يطهر البعث من المنافقين ويعيده حزباً نضالياً وطنياً كما كان قبل ثورة آذار. يتبع ذلك منطقياً انتخابات حرة تتيح للشعب اختيار ممثليه إلى برلمان فعلي، والذي بالمناسبة لا بد من زيادة عدد أعضائه.
3 – ضرورة إعادة الروح السياسية الحقيقية إلى سوريا عبر تفعيل الحراك السياسي الحقيقي، وإلغاء الجبهة الوطنية التقدمية، التي يندر أن تجد سورياً يعرف ما فيها من أحزاب. الجبهة الوطنية التقدمية أكبر عنوان في بازار النفاق الذي لا يمكن العودة إليه في المرحلة المقبلة. لسنا ضد أحزاب الجبهة ككيانات سياسية، بل ضد المكاسب التي تحصل عليها من وجود خلبي لا علاقة له بالجماهير، إلا ما ندر، لا من قريب ولا من بعيد.
4 – ضرورة إعادة كتابة الدستور السوري بروح العصر، وإلغاء تلك الفقرات التي تعزز منطق مركزية السلطات المطلقة أو تشويش آلية فصل السلطات أو التمييز السلبي بحق أية فئة من الشعب.
5 – دعم الليبرالية الاقتصادية الأخلاقية، التي تضمن اقتصاداً حرّاً مدعوماً بعدالة اجتماعية واضحة المعالم.
6 – الانتقال الكامل من حالة الدولة الأمنية القلقة إلى دولة سيادة القانون المستقرة.
7 – التأسيس لديمقراطية معرفية تكون الحامل الحقيقي للديمقراطية السياسية؛ ففي مجتمع عاش نصف قرن في غياب تام عن أية بنى تحررية حقيقية، تبدو الحاجة ملحة فيه إلى إعادة بناء شاملة عبر تبن تام للديمقراطية المعرفية التي تتيح للجميع أن يفكّروا ويعبّروا عن أفكارهم بحرية كاملة، بغض النظر عن كونهم مصنفين أقلية أو غالبية.
8 – نشر وعي ديمغرافي ووضع قيود صارمة على الانفلات السكاني الذي تعرفه سوريا. هذا الانفلات الذي يتاخم حدود الانفجار هو أخطر عدو لسوريا المستقبل التي يجب أن تهتم بكل أبنائها بغض النظر عن خلفياتهم. وفي ظل هذا الانفلات لا يمكن لأية حكومة، مهما بدت عبقرية، أن توفر لأبناء الوطن العيش اللائق.
9 – دعم كافة أشكال التمييز الإيجابي بحق النساء؛ وإجبار الأحزاب المستقبلية على كوتا نسائية تخرج المرأة من قوقعة الماضي إلى حرية المستقبل.
المطلوب من النظام الحالي أن يشرف بنفسه على حركة تصحيحية جديدة ينقل فيها بنفسه سوريا إلى زمن التعددية والديمقراطية؛ إلى المدنية التي طال انتظارها.
عشتم وعاشت سوريا
التجمع الليبرالي السوري
دمشق 6 حزيران 2011