عنكاوا كوم ـ سوريا ـ خاص
تشهد سوريا ومنذ أسابيع حراكا شعبيا تجلّى في حركة احتجاجات وتظاهرات سلمية في العديد من المدن والبلدات السورية. وعلى هامش هذا الحراك، ثار لغط و جدل واسع في أوساط شعبنا الكلداني الآشوري السرياني حول مواقف المنظمة الآثورية الديمقراطية ولا سيما مشاركته في المظاهرات التي جرت في مدينة القامشلي. ومن أجل التعرف على مواقف المنظمة، وكشف دوافع مشاركتها هذه، توجّه موقع “عنكاوا كوم” إلى مسؤول المكتب السياسي للمنظمة المهندس كبرئيل موشي كورية، بالعديد من الأسئلة التي يتداولها أبناء شعبنا في الوطن والمهجر، فكان هذا اللقاء المطوّل:
كحزب سياسي معارض كيف تنظرون لما يجري في سوريا من أحداث وتطورات، لا سيما في هذه الظروف الاستثنائية التي تمرّبها؟
تشهد سوريا في المرحلة الراهنة حراكاً شعبياً غير مسبوق، ويأتي هذا الحراك امتداداً للثورات التي انطلقت في تونس ومصر وغيرها.
وعلى الرغم من خصوصية الحالة السورية، ووجود تمايزات في بعض التفاصيل، فإن هناك العديد من أوجه التشابه، من حيث طبيعة النظام الشمولي الحاكم، ووجود عوامل التوتر والاحتقان الكامنة في بنية المجتمع السوري، بسبب غياب الحريات، وتراكم عوامل القهر والظلم والفقر، وتسلط الأجهزة الأمنية على الحياة العامة، وانعدام فرص المشاركة في الحياة السياسية. ومماطلة السلطة في تنفيذ وعودها بالإصلاح لسنوات. لكل هذا، انتفض الشباب السوري هادماً جدار الخوف، فاندلعت حركة احتجاجات سلمية واسعة، عمّت مدناً وبلدات كثيرة في سوريا، مطالبة بالحرية والكرامة، وبناء دولة ديمقراطية عصرية، يحكمها القانون والمؤسسات، وتوفر العدالة والمساواة لكافة مواطنيها، وتقرّ بحالة التنوع القومي والديني والثقافي في إطار وحدة البلاد.
وجاءت حركة الاحتجاجات نابعة من حاجات ومصالح الشعب السوري بكافة أطيافه، ومنسجمة مع تطلعاته في التغيير الوطني الديمقراطي السلمي.
وبمعزل عن الخارج وحساباته ومصالحه، وإن كنا لا نستبعد أو ننفي وجود محاولات لاستغلال هذه الحركة، وتسلّق موجتها من قبل البعض، سواء في الداخل أو الخارج لغايات وأهداف خاصة، لكن الوعي العميق للشعب السوري لشرعية مطالبه، يجعل منها نتاجاً وطنياً خالصاً.
كيف تقيّمون الحراك الوطني الحالي، وماذا تتوقعون أن ينتج عنه؟
إن سوريا دخلت مرحلة التغيير فعلاً، ومعالم ذلك تزداد وضوحاً مع تنامي وتطور واتساع رقعة الاحتجاجات والمظاهرات السلمية. فالعودة إلى ماقبل 15 آذار لم تعد ممكنة بأيّ حال من الأحوال. والشعب السوري مصمّم على مواصلة الكفاح حتى تحقيق مطالبه في الحرية والديمقراطية، خصوصاً بعد إراقة الكثير من الدماء وسقوط مئات الشهداء من المدنين والعسكريين ورجال الأمن، مايشكل بنظرنا خسارة وطنية فادحة.
إن سلمية الاحتجاجات، لم تمنع السلطة من مجابهتها منذ اليوم الأول بالقمع، واللجوء إلى استخدام العنف المفرط ضد المحتجين، وصولاً إلى إقحام الجيش في عملية إخمادها، غير أنها لم تنجح في القضاء عليها، أو وقف انتشارها، ما اضطرها للإقرار بأحقية ومشروعية الكثير من المطالب الشعبية، وسارعت لتقديم بعض التنازلات، مثل زيادة الرواتب، وتعديل المرسوم49 الخاص بالعقارات، وإصدار مرسوم الجنسية للإخوة الأكراد( للأسف فإن هذا المرسوم لم يتضمن حل مشكلة عشرات العائلات من شعبنا الكلداني السرياني الآشوري من مكتومي القيد) وغير ذلك من الإجراءات والقرارات. وهذه الاستجابة على الرغم من أهميتها، فإنها تبقى شكلية وقاصرة عن معالجة جذر المشاكل التي تعصف بالبلاد، لأنها لم تلامس جوهر الإصلاحات المطلوبة شعبيا، لا سيما تلك المتعلقة بالجانب السياسي. لهذا اتسع نطاق الاحتجاجات ومعه ارتفعت وتيرة القمع، وأدّى ذلك إلى تعميق حالة انعدام الثقة بوعود السلطة، واتساع الهوّة بينها وبين الشعب، ودفع البلاد إلى حافة أزمة وطنية عميقة..
برأيكم ماهي سبل الخروج من هذه لأزمة؟
إن اعتماد الحل الأمني كخيار وحيد في مواجهة هذا الحراك من قبل السلطة، واستبعاد الحلول السياسية، يؤدي برأينا إلى تأزيم الأوضاع وتعقيدها، وسيؤدي إلى تباعد متزايد للنظام مع شعبه، وسيدفع البلاد نحو المجهول، كما ويهدد باستدراج التدخلات الإقليمية والدولية في الشؤون الداخلية السورية، مؤشرات ذلك بدأت تلوح في الأفق، وهذا ما لانريده ونرفضه كلياً، ونتطلّع إلى حلّ وطني سوري شامل لهذه الأزمة، عبر انتهاج سبل الانفتاح على المجتمع، وتلبية مطالبه، وإطلاق حوار وطني شامل بين كافة القوى الوطنية في السلطة والمعارضة، يتمخض عنه مؤتمر وطني جامع يدعو له رئيس الجمهورية، وتشارك فيه جميع القوى الوطنية من مختلف الأطياف القومية والسياسية، دون إقصاء أحد، لوضع أسس ومبادئ، وخريطة طريق للانتقال إلى نظام ديمقراطي علماني بطريقة سلمية وآمنة. ونرى أن تحقيق ذلك يتطلب اتخاذ مبادرة جريئة ونوعية من رئيس الجمهورية بما يملكه من صلاحيات دستورية واسعة لوضع البلاد على طريق الإنقاذ الوطني. وبرأينا فإنه لم يعد مجدياً إهدار المزيد من الوقت والفرص، ولابد من خلق المناخ الملائم،وتوفير الأسباب الكافية لإنجاح هذا المسعى، من خلال اتخاذ جملة من التدابير والإجراءات الضرورية تتمثل بـ:
– السماح بالتظاهر السلمي، ووقف كافة أعمال القمع من قتل واعتقال للمتظاهرين و حصار المدن،و سحب الجيش من المدن و إعادته إلى دوره الطبيعي في حماية الوطن و الشعب، بدلا ً من توريطه في مواجهة الشعب.
– الإفراج عن جميع الموقوفين منذ إنطلاق الإنتفاضة، و عن جميع معتقلي الرأي و الضمير، و طي ملف الإعتقال السياسي نهائيا.ً
-تشكيل لجنة تحقيق مستقلة و نزيهة للتحقيق في أعمال القتل و إطلاق النار على المتظاهرين و محاسبة المسؤولين عنها.
–إطلاق الحريات العامة، و إصدار قوانين عصرية للأحزاب و الجمعيات و الإنتخابات و الإعلام.
– إلغاء المادتين الثالثة و الثامنة من الدستور اللتين تكرسان التمييز بين المواطنين.
–الحد من نفوذ الأجهزة الأمنية وتدخلها في الحياة العامة.
لكن الخطاب الرسمي يتحدث عن مؤامرة تستهدف سوريا، وخيوطها تربط أطراف داخلية وخارجية، ومجموعات سلفية وما إلى ذلك. كيف تردون على ذلك وما مصداقية هذه الرواية ؟
الحديث عن المندسين والمخربين و السلفيين والمؤامرات، لم يتوقف منذ اليوم الأول لإنطلاق الحراك السلمي , حيث استنفرت السلطة كل ماكينتها الإعلامية في حملات تضليلية مركزة لتشويه صورة التحركات الشعبية و إنكار طبيعتها السلمية و مطالبها المحقة. رافقها الكثير من التهويل و التحريض، و إثارة المخاوف عبر استحضار نماذج العراق و ليبيا و غيرها، و ذلك من أجل دفع الناس للإنسحاب من الشارع من أجل كسب الوقت، و ترتيب أوضاعها، و استعادة هيبتها ، وترميم شرعيتها، فإذا كان هناك ثمة مؤامرة، فإن المنطق يفرض تعزيزحالة الطوارئ بدلا من رفعها(ولو شكليا).
وحسب إعتقادي أن الحديث عن المؤامرة و التلويح بفزاعات السلفيين والإرهاب، والإمارات الإسلامية، والفوضى، ما هو إلا تكرار ممّل لنفس الإسطوانة التي سمعناها في تونس و مصر و ليبيا و اليمن و غيرها، و القصد منها تحذير الخارج من البدائل، و العزف على وتر الخوف الذي غذته الأجهزة الأمنية في نفوس المواطنين، من أجل استمرار هيبتها و نفوذها، و تبرير استخدام و سائل القمع ضد حركة الإحتجاجات التي تتميز بسلميتها و بأنها تحمل مطالب وطنية عامة تخصّ كل السوريين على مختلف إنتماءاتهم و هذا من أبرز نقاط قوتها الأخلاقية و السياسية.
ما هو موقع المنظمة الآثورية الديموقراطية في هذا الحراك ؟
منذ البداية دعمت المنظمة الآثورية الديمقراطية الحراك السلمي في سوريا، و يأتي هذا منسجما ً مع مبادئها و مع برنامجها السياسي في التعاطي مع المسألة الوطنية، و الذي يرتكز على ضرورة إجراء إصلاحات سياسية شاملة، و إجراء تعديلات دستورية تضمن الإنتقال إلى نظام ديمقراطي عصري بشكل سلمي و هادئ. و المنظمة الآثورية الديمقراطية من خلال عضويتها في إئتلاف إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي تعمل على تحقيق هذه الأهداف . إضافة إلى نيل الإعتراف الدستوري بالشعب الآشوري (السرياني) كشعب أصيل، و ضمان كافة حقوقه ضمن إطار وحدة البلاد. و هي على قناعة تامة بأن نيل حقوق شعبنا لا يمكن أن يتم بمعزل عن حلّ وطني ديمقراطي شامل يحظى برضا و قبول كافة شركائه في الوطن .
كيف تصف تفاعل الشارع الكلداني الآشوري السرياني اليوم مع هذا الحراك ؟
تفاعل شعبنا و المسيحيون عموما ً ما زال ضعيفا، و هذا حال معظم الأقليات الدينية و القومية في سوريا. و أسباب ذلك تعود إلى ثقافة الخوف التي كرستها منظومة الإستبداد، و الخوف على الإستقرار، والخشية من تكرار التجارب المؤلمة في العراق و غيرها، و أيضا ً التوجس من البديل المحتمل، حيث يعتقد الكثيرون أنه سيكون بديلا ً دينيا ًَ متطرفا . ً
لا شك أن هذه المخاوف مشروعة و مفهومة من قبلنا، لكن تضخيمها يصبّ في صالح استمرار الإستبداد و إحكام قبضته على المجتمع.
شاركتم كمنظمة في المظاهرات السلمية التي حصلت في مدينة القامشلي، هل من رسالة توجهونها من خلال مشاركتكم هذه ؟
من خلال مشاركتنا نريد التأكيد على أننا شركاء في الوطن تبعا ً لإمكاناتنا و قدراتنا، و هذه المشاركة تجسد خيارا ً سياسيا ً خاصة بنا كمنظمة، و لم نزعم أو ندّع يوما ً بأننا نشارك بإسم الشعب الآشوري السرياني أو المسيحيين، بالرغم من أننا جزء لا يتجزأ من هذا الشعب، و لنا حجمنا التمثيلي المعروف. و هذه المشاركة إضافة إلى كونها إلتزاما ًسياسيا ً، فهي واجب أخلاقي و وطني ننحاز فيه لقيم الحرية و الديمقراطية و حقوق الإنسان، و تحمل أيضاًَ كل معاني التضامن مع إخوتنا السوريين في باقي المحافظات، ممّن سقطوا شهداء، و ممّن يشقون بصدورهم العارية درب الحرية و الكرامة لكل السوريين و نحن منهم.
و نعتقد جازمين بأن لشعبنا مصلحة حقيقية في بناء دولة ديمقراطية مدنية لكل مواطنيها، و لا ننسى أننا من خلال هذه المشاركة نؤكد على عمق تلاحمنا الوطني مع كافة شركائنا في الوطن.
و إذا نجحنا في الوصول إلى أهدافنا في الحرية و الديمقراطية، بلا شك فإن شعبنا سيقطف ثمار مشاركتنا كباقي السوريين، و إذا لم ننجح فإن شعبنا لن يخسر شيئاً، و لن تطاله أية عقوبات بسببنا، و الخسارة ستكون علينا فقط، ونحن قادرون على تحملها وتجاوزها، ولن نتوقف عن النضال من أجل بلوغ أهدافنا النبيلة مهما كانت التضحيات.
يأخذ البعض من ابناء شعبنا عليكم مشاركتكم الأكراد في تظاهرات تنطلق من أمام مسجد، ما ردكم على ذلك؟
أولا: الأكراد شركاء لنا في الوطن، وهم مواطنون سوريون ونحن كذلك. في علاقتنا معهم في سوريا، نتطلع سوية إلى المستقبل انطلاقا ممّا يجمعنا وليس ممّا يفرقنا. وهذا نهجنا مع جميع شركائنا عربا كانوا أم أكرادا.
ثانيا: نحن نشارك في التظاهرات السلمية المطلبية مع مواطنين سوريين وإن كانت غالبيتهم من الإخوة الأكراد، فهناك بينهم عرب أيضا، وفيهم المسلم والمسيحي واليزيدي، وبينهم الحزبي والمستقل، والكل تجمعهم تطلعات وطموحات نحو المزيد من الحرية والديمقراطية. وهذه المشاركة في أرقى معانيها، تهدف إلى هدم جدران العزلة والخوف التي فصلت بين مكونات المجتمع قسرا. هذه الجدران التي أقامتها منظومة الأمن والاستبداد، إمعانا في تطبيق سياسة فرّق تسد لإحكام قبضتها وهيمنتها على المجتمع.
أمّا عن تذرع البعض بخروج التظاهرات من أمام مسجد، واتخاذها حجة للنيل من المنظمة والمتظاهرين على حد سواء. نقول: إن السؤال يجب توجيهه إلى السلطات التي تغلق كافة المنافذ المؤدية إلى الساحات العامة. ثمّ ما الضير في انطلاق المظاهرات من جامع قاسمو في الحي الغربي باتجاه دوّار الهلالية، وإقامتها في منطقة آمنة بعيدا عن أي استفزاز أو احتكاك مع المعترضين عليها أو مع القوى الأمنية؟ وهل يقبل المعترضون من أبناء شعبنا على فكرة خروج تظاهرات من أمام الكنائس، أوحتى مجرد دخول أحيائهم؟ أشكّ في ذلك، مع تأكيدي التام على أن كل التظاهرات التي خرجت من أمام الجامع لم تحمل أي معنى أو بعد ديني، والجامع المذكور مثّل للمتظاهرين مكانا للالتقاء والتجمع. كما لم يتخلل هذه المظاهرات أيّ شعارات متطرفة أو استفزازية لأحد، فشعارات الحرية والوحدة الوطنية طغت على كل ماعداها. وجميعها جرت بطريقة سلمية وحضارية، ولم تشهد أي اعتداء على الممتلكات العامة أو الخاصة، ولم تؤثر حتى على حركة السير على الطرقات العامة.
ينقسم أبناء شعبنا والمسيحيون في سوريا والجزيرة بشكل خاص بين مؤيد ومعارض لمواقفكم، ويترافق هذا بالكثير من الشائعات حولكم، كيف تنظرون للأمر.
هذا أمر طبيعي، فمجتمعنا قائم على أساس التعدد والتنوع، وأفراده ليسوا نسخا متماثلة في التفكير والتوجهات السياسية. وهناك الكثيرون من أبناء شعبنا يتفهمون موقفنا ودوافعنا للمشاركة ويحترمونها، والأغلبية الصامتة تدعم توجهاتنا القومية والوطنية، وهناك من يعارض وينتقد مواقفنا، ومن جهتنا نتفهم ونحترم ذلك لإيماننا بحق الاختلاف. ونعتقد أن مواقف الكثيرين ستتبدل مع تطور الحراك، وتوضح معالم التغيير في البلاد، هذا من جهة، أمّا من جهة أخرى، فمن المعروف بأن هناك الكثير من المنتسبين لحزب البعث الحاكم في صفوف شعبنا، وهؤلاء ملتزمون بتوجهات حزبهم الذي يسعى لإدامة حكمه للبلاد بكافة الوسائل. وخلافنا مع هؤلاء نسعى لوضعه في إطار الاختلاف السياسي الطبيعي، وضمن السياق الديمقراطي والحضاري بعيدا عن منطق الإقصاء والتخوين، وذلك على أرضية الشراكة الوطنية. لكن هناك قسم من أبناء شعبنا يتبنّى خطابا حادّا إن لم نقل عدائيا تجاهنا، مستقويا بعلاقاته الأمنية، مع علمنا التام أن جلّ هؤلاء من الفاسدين والمفسدين والانتهازيين.
وللأسف فإن هؤلاء مع آخرين، يقودون حملة شرسة ضدنا، قسم منها موجّه بإيحاء من الأجهزة الأمنية، وقسم آخر تفرضه هواجس الخوف المزمن عند أبناء شعبنا من العمل السياسي. ويتخلل هذه الحملة شائعات عن اعتقالات في صفوف المنظمة، مترافقة مع تهديدات مختلفة. وهذه الحملة، تطبخ وتصنّع في الغرف السوداء التابعة للأجهزة الأمنية، وأدواتها، بعض الأزلام من المتطوعين من أبناء شعبنا ممّن ارتضوا لأنفسهم القيام بدور الشبيحة والبلطجية. بلا شك لن يخيفنا الاعتقال ولن ترهبنا التهديدات. وهذه الأساليب لن تحرفنا عن قناعاتنا وإيماننا بأهمية التغيير الديمقراطي السلمي، هذا الإيمان المرتكز على موقف مبدئي وأخلاقي، قبل أن يكون موقفا سياسيا.
البعض يقول: إن سوريا يحكمها نظام علماني، وهو نظام جيد ويوفر الحماية للمسيحيين، لماذا تعملون على تقويضه وإسقاطه؟
هذا الكلام ليس دقيقا، وللتوضيح أقول:
أولا: إنّ ما يتخوف منه البعض قد حدث، فالانتفاضة مستمرة منذ أسابيع، وهي في تصاعد، وليعلم الجميع بأن الحدث ليس من صنع المنظمة، وبالتأكيد فإن المنظمة لا تملك قرار حسمه. فالانتفاضة صنعها السوريون الأحرار، والمنظمة تسعى لتكون شريكا فاعلا فيها.
ثانيا: تدرك المنظمة تماما حجم قدراتها، وقدرات شعبنا أيضا، لهذا تتبع سياسة عقلانية قائمة على الاعتدال بعيدا عن كل أشكال التطرف والاستفزاز، أو تضخيم الذات. ولهذه الاعتبارات فإن المنظمة لا تطلق شعارات تفوق إمكاناتها، وهي في الأصل لم تدعو لإسقاط النظام، وكل ما دعت إليه هو إجراء إصلاحات شاملة تفتح الطريق لنقل البلاد إلى الديمقراطية.
ثالثا: النظام في سوريا فيه الكثير من مظاهر العلمانية، لكنه ليس علمانيا بالمطلق، بسبب وجود المادة الثالثة من الدستور والتي تنص على أن دين رئيس الجمهورية هو الإسلام، وأن الفقه الإسلامي هو مصدر رئيسي للتشريع. كما أنه لايصح القول فيه بأنه نظام طائفي، فهو نظام هجين تحكمه قلّة تربطها شبكة مصالح واسعة، وهذه الطبقة تحتكر كل شيئ، السلطة، المال، النفوذ..وهي موزعة على كل الطوائف ومستندة إلى منظومة أمنية فاعلة، تصل أذرعها لكل مفاصل المجتمع، متخذة من حزب البعث واجهة لإدامة حكمها.
لا ننكر أن هذا النظام أفسح مجالا واسعا أمام الحريات الدينية، واستفاد المسيحيون من ذلك كالآخرين، غير أن هذا الأمر ليس جديدا أو طارئا على المجتمع السوري، وإنّما هو استمرار لإرث قديم يعود لما قبل استلام البعث للسلطة. حيث حظي المسيحيون بمكانة متميزة دلّت على فاعلية دورهم في الحياة العامة، وهناك من تبوّأ موقع رئاسة الحكومة والبرلمان، ولعل أسماء فارس الخوري وسعيد اسحق لم تفارق ذاكرة الأجيال.والمسيحيون عامة وشعبنا بشكل خاص، لم يتخلفوا يوما عن أداء واجباتهم والتزاماتهم الوطنية، لذلك فإن مسألة حماية كافة المواطنين، ومنهم المسيحيين، تقع في صلب واجبات الدولة ومسؤولياتها، وليست منّة أو مكرمة يتفضلون بها علينا كما لو أننّا أهل ذمّة ورعايا، وليس مواطنون.
ألا تعتقدون بأن مواقفكم تزيد من مخاوف شعبنا من تكرار تجربة العراق، وتدفع بالتالي نحو المزيد من الهجرة؟
لا أحد يتمنى أو يريد تكرار تجربة العراق، والأمور في سوريا مختلفة نسبيا. فالتغيير المطروح في سوريا، نابع من إرادة ومصلحة وطنية، وتصنعه أياد سورية. أما في العراق، فإن التغيير جاء بإرادة خارجية وعبر الاحتلال العسكري المباشر وكترجمة عملية لمصالح الخارج، التي توافقت في لحظة ما مع حاجات ومصالح الداخل. لهذا نعمل مع كل القوى الوطنية لتحقيق التغيير المطلوب في بنية وهياكل النظام السياسي وصولا لدمقرطته بالكامل عبر الوسائل السلمية، مع الحفاظ على الدولة ومؤسساتها.
أمّا فيما يتعلق بالهجرة، فالموضوع قديم ومعقّد، فهجرة شعبنا من الجزيرة لم تتوقف منذ سبعينيات القرن الماضي، وشجّع عليها، عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية ناجمة عن غياب الحريات، والشعور بالتهميش والإقصاء والتمييز.. وأدّى ذلك إلى هجرة حوالي 250 ألف إنسان من أبناء شعبنا من الجزيرة وحدها. ماذا فعلت حكومات البعث المتعاقبة لوقف هذه الهجرة؟ وماهي الحقوق التي أقرّتها لشعبنا؟ وماذا فعلت لسكان الخابور؟ وهل قامت بتنفيذ مشاريع إنمائية حيوية قادرة على ربط الإنسان بأرضه، وتوفير أسباب العيش الكريم له؟ الحقيقة أن الجزيرة تعتبر من أشدّ المناطق حرمانا في سوريا. ثم هل تعلم أنه منذ بداية عام2011 ولغاية أواخر شهر شباط الماضي، أي قبل اندلاع حركة الاحتجاجات السلمية الأخيرة، هاجرت أكثر من 300 أسرة من القامشلي وحدها إلى السويد، بعد الحصول على إقامة عمل هناك، ومعظمها من العائلات الميسورة ماديا.
إذن الاستقرار الهش الذي عاشته سوريا على مدى عقود لم يوقف الهجرة، ولم يشكل ضمانة لطمأنة أبناء شعبنا، أو تبديد الخوف من المستقبل.
ثمة من يتخوف من الفوضى، ومن وصول بديل إسلامي متطرف إلى السلطة، ما مدى جدية هذه المخاوف؟
إن هذه الهواجس بلا شك تستمد مشروعيتها وجديتها من العديد من التجارب التي مرّت بها بعض شعوب المنطقة، واحتمالات حصولها أمر وارد، لكنني شخصيا أستبعد ذلك انطلاقا من أن المجتمع السوري، مجتمع غني بتنوعه القومي والديني والثقافي، وهذا التنوع أعطاه نوع من التوازن المستند إلى إرث عريق في التسامح والعيش المشترك تميّز به عن دول الجوار. وهذا قد يعطيه جرعة من الحصانة تجاه أيّ فوضى محتملة.لكن هذا وحده لا يكفي، فقطع الطريق على الفوضى، مسؤوليته تقع على السلطة القائمة بالدرجة الأولى، من خلال الكف عن أساليب القمع في مواجهة الحراك الشعبي، والابتعاد عن التحريض الطائفي والمذهبي، وإثارة الفتن والأحقاد، والاستجابة لمطالب الشعب في إجراء إصلاحات جذرية باتجاه الديمقراطية والشراكة السياسية، كما تقع مسؤولية كبيرة على قوى المعارضة الوطنية، والقوى الشبابية الفاعلة في الحراك الشعبي، بعدم الاستجابة لاستفزازات السلطة، والحفاظ على سلمية الحراك حتى النهاية، لتفادي جرّ البلاد إلى الفوضى.
أما ترداد الحديث عن البديل الإسلامي المتطرف، باعتقادي ينطوي على مبالغة كبيرة، والهدف من ترويجه، هو الحفاظ على إدامة الاستبداد، وتخويف المجتمع( خصوصا أبناء الأقليات) من الانخراط في عملية التغيير، ودفعها للإحجام عن المشاركة في الحراك الشعبي. وحسب علمي ومتابعتي، فإن معظم القوى السياسية السورية ينادي بقيام دولة مدنية ديمقراطية، بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين. كما أن دور و شعبية قوى الإسلام السياسي في سوريا، هي أقل من مثيلاتها في مصر والأردن وغيرها، بسبب وجود تيارات قومية ويسارية وليبرالية، تؤمن بالعلمانية وتستقطب أعدادا كبيرة من المسلمين. إضافة لوجود أقليات وإثنيات وازنة ترفض قيام نظام ديني. وإذا اعتبرنا أن جماعة الإخوان المسلمين (وفقا لبعض المزاعم) تشكل العمود الفقري للتيار الديني، فإن هذه الجماعة فقدت الكثير من قدراتها التنظيمية، وعمليا لم يعد لها وجود تنظيمي على الأرض منذ عام 1982 بعد حظر نشاطها وفق القانون 49الذي يحكم بالإعدام على كل من ينتمي إليها، وإن كان من المتعذر تقدير شعبيتها اليوم في الساحة السورية، لكن بإمكاننا الجزم بأن الكثير من الأجيال الشابة التي تقود حركة الاحتجاجات لاتعرفها أو هي بعيدة عنها.
المجتمع السوري كسائر مجتمعات الشرق، يميل بطبيعته إلى التدين، وهو في تدينه أقرب إلى الوسطية والاعتدال. ومؤخرا لمسنا تبلور تيار ديني يستلهم فكر وتجربة حزب العدالة والتنمية التركي، ونعتقد أن مثل هذا التيار سيكون له دور مهم في الحياة السياسية مستقبلا، وبلا شك فإن الساحة السياسية تتسع لكل القوى التي تنبذ العنف والتطرف، وتتبنى الطرق السلمية الديمقراطية، وينبغي أن يكون هذا حقا مكفولا للجميع.
هل هناك تواصل وتنسيق مع أحزاب ومؤسسات شعبنا؟ وماذا تنتظرون من الكنيسة في هذه المرحلة؟
بالتأكيد نحن على تواصل وتنسيق دائم مع الحزب الآشوري الديمقراطي الذي تربطنا به وثيقة تفاهم بكل ما يتعلق في الشأن القومي والوطني.كما فتحنا حوارا جديا وأخويا مع حزب حرية بيث نهرين (دورونويه) ونحن عازمون على إنجاحه لما فيه خير ومصلحة شعبنا ووطننا. إضافة إلى لقاءاتنا الدائمة مع فعاليات ومؤسسات شعبنا، تعميقا للتعاون في كل ما يخص شؤون شعبنا وضمان استقراره.
أمّا بالنسبة للكنيسة، فإننا كمنظمة آثورية ديمقراطية، نحترم ونجلّ كل كنائسنا، ونقدر دورها في المجال الروحي والاجتماعي والثقافي، وتربطنا علاقات احترام وتفاهم مع رؤسائها وقادتها الروحيين. والكنيسة كمؤسسة، معنية بما يجري في الوطن، وتحرص كل الحرص على وحدته واستقراره وسلامة أبنائه، بمعزل عن الموقف السياسي لهذا الطرف أو ذاك. وهي بهذا تترفع عن الانغماس في الصراعات والتجاذبات السياسية. ونتوقع من قياداتها أن تكون أمينة ومنسجمة مع رسالتها النبيلة، في التأكيد على قيم الحرية والعدالة والمساواة كقيم إنسانية سامية، والعمل على زرع مبادئ المحبة والسلام والإخاء، وترسيخ مفاهيم العيش المشترك والوحدة الوطنية بين كافة مكونات المحتمع.
ماهي الإجراءات المتخذة من قبلكم لحماية شعبنا في حال حصول فراغ أمني؟
إن مسؤولية توفير الحماية للمواطنين تقع على عاتق الدولة، وأية إجراءات خاصة لتوفير الحماية الذاتية تبقى قاصرة، مالم تنهض الدولة بواجباتها. علّمتنا تجارب العراق ولبنان وغيرها، أن السلاح ليس كافيا لحفظ الاستقرار وتحصينه. التفاهم والتعاون بين مكونات الوطن هو الذي يصون الاستقرار ويضمن الأمن. لهذا فإننا كمنظمة، نعمل وبالتنسيق مع مؤسساتنا ومع القوى الوطنية الأخرى، ومن خلال علاقاتنا مع كافة الشركاء من عرب وأكراد، على إرساء شبكة أمان اجتماعي لترسيخ السلم الأهلي، وقيم العيش المشترك في الجزيرة، استنادا إلى قاعدة المساواة واحترام الخصوصيات الدينية والقومية بغض النظر عن المواقف والرؤى السياسية. وبرأينا فإن هذا يشكل خط الدفاع الأول في الحفاظ على أمن وسلامة ووحدة المجتمع تجاه كل الأخطار.
كلمة أخيرة توجهونها..
لأعضاء المنظمة أقول: اصبروا واصمدوا ولا تكترثوا للأقاويل والشائعات.. فأنتم تشاركون في صنع مستقبل جديد لشعبكم ووطنكم.. مستقبل مفتوح على آفاق الحرية والديمقراطية..
لكل من ينتقدنا ويخالفنا الرأي نقول: نقدّر انتقاداتكم ونستفيد منها، ونحترم قناعاتكم، وتأكدوا أن المنظمة تعمل لكم ومن أجلكم..
لكل المحاصرين بالخوف نقول: واجهوا خوفكم.. أخرجوا رجل الأمن القابع في رؤوسكم.. لا تخافوا من شركائكم، اخرجوا من العزلة إلى رحاب الانفتاح والتفاعل، لا تخافوا من التغيير السلمي، فالتغيير قد يصاحبه آلام وهزّات ، لكن إلى حين، واعلموا أن الاستقرار المسوّر بالخوف، هو استقرار خادع ومضلّل ولا يدوم، وحده الاستقرار المبني على سلطة القانون والمؤسسات ودولة المواطنة يدوم.. ويدوم.
شكرا لك استاذ كبرئيل على هذه الإطلالة في موقع "عنكاوا كوم"