عزيز الحاج
بغداد – ايلاف ++ شبكات القاعدة الملطخة بالدم أعلنت أن الهجوم على كنسية سيدة النجاة في بغداد كان مدبرا، والكنيسة نفسها كانت الهدف. والقاعدة كانت، ومنذ سقوط صدام، الشريك الأكبر الثاني لجيش المهدي في مطاردة وتهجير وقتل المسيحيين وأبناء بقية الأقليات الدينية. إن مصير مسيحيي العراق نموذج لما يجري لجميع مسيحيي الشرق الأوسط: من تمييز فظ، وعدوان مستمر، وهضم للحقوق، ودفع للهجرة. ففي العراق، انخفض عدد المسيحيين من مليون و800 ألف إلى نحو 400 ألف فقط.
وتعرضت 51 كنيسة عراقية، قبل سيدة البشارة، للحرق والدمار، وخطف مطران و3 قساوسة وقتلوا، وتجاوز عدد من قتل من مسيحيي العراق 800 ضحية. وأما هجرتهم الجماعية، فمعروفة، فإن فضل المسيحي البقاء، فإنه معرض دوما للعدوان، وسيظل مواطنا من الدرجة الثانية، والمسيحيات يصبحن مجبرات على لبس الحجاب.وفي الأراضي الفلسطينية، لم يعد عدد المسيحيين يتجاوز50 ألفا، منهم أقل من 1000 في غزة [ جريدة الفيجارو بتاريخ 17 أكتوبر المنصرم].
وقد صار المسلمون أكثرية في بيت لحم وبيت جالا، مع استثناء بيت سحور، حيث بقي المسيحيون هنا أكثرية، ولكن نساءهم يتعرضن لمضايقات بعض المسلمين. فبيت لحم، وهو مهد المسيحية، راح يفرغ تدريجيا من المسيحيين. أما مآسي أقباط مصر، فالأمثلة عليها كثيرة، وهي تتجدد مع كل حادث عدوان جديد عليهم وعلى كنائسهم. وها هو الإرهابي المجرم بن لادن وشركاه يهددون من جديد أقباط مصر. ونعتقد أن القاعدة لا تحتاج إلى مساعدة من غيرها في مصر، لأن هناك دوما بعض الغوغاء المسلمين المتطرفين الذين يخترعون حجة بعد حجة لمهاجمة الأقباط وكنائسهم وأديرتهم دون أن تتخذ الحكومة تدابير صارمة ومحكمة لوقف هذا العدوان المستمر.
إن هناك اليوم صرخات تتعالي بين المسلمين، ساسة ومثقفين ورجال دين ومنظمات حكومية إسلامية، تتحدث عن "الإسلاموفوبيا" في دول الغرب الديمقراطية؛ فإن ظهر كتاب مشحون عن الهجرة في ألمانيا، أو هدد قس متهور بحرق القرآن دون أن ينفذ تهديده، أو أدلي سياسي عنصري غربي بتصريحات تخوف من المهاجرين، ومن المسلمين بالذات، فحينذاك ترتفع الصرخات للتدليل على وجود هذه " الإسلاموفوبيا" في الغرب مع أن المسلمين في بلدانه يمارسون شعائرهم بحرية ولهم حقوق واسعة، وآلاف المساجد، التي إذا تعرض أحدها لعدوان ما، سارعت حكومة ذلك البلد لردع ومعاقبة المعتدين، برغم أن حوادث كهذه تظل نادرة جدا. هذه الصرخات تصدر من بيننا حيث يستمر اضطهاد المسيحيين عندنا بشراسة دون أن نجد الصارخين يعملون من أجل وضع حد لهذه الظاهرة والمطالبة بالتعامل مع المسيحيين وغير المسلم الآخر على قدم المساواة مع المسلمين.
وكما كتبت في مقال سابق، فالأولى بنا أن ننظر إلى ما يجري عندنا من جنايات وخطايا ضد غير المسلمين قبل أن نوجه الاتهامات للغير.لقد قرأت عدة مقالات عربية حول نتائج أعمال " سينودس" [ مجمع ]، روما للكنائس الشرقية وتوصياته ومناشدات البابا. لم تبرز وسائل الإعلام العربية غير إدانة الاجتماع للاحتلال الإسرائيلي. أما المطالبة بالحرية الدينية في الشرق الأوسط وبمساواة المواطنة، فقد مرت على الإعلام العربي وكأنه لم يسمع بها! وقد نشر عدد من الكتاب العرب مقالات حاولت التلطيف من المشكلة والتخفيف من وطأتها، متحدثة عن معاناة الجميع من مسيحيين ومسلمين وغيرهم.
ففي مقال بصحيفة " الحياة" يقول كاتبه إنه، على رغم خصوصيات ما أصاب المسيحيين في البلدان العربية، فإن ما أصابهم يشبه ما أصاب الآخرين بمعظم تفاصيله- من تهديدات أمنية وترديات سياسية. ومقال كاتب آخر، في نفس الصحيفة، يجعل المسيحيين والمسلمين الشرقيين ضحايا لإسرائيل و" ويهودية الدولة". وأما كاتب الصحيفة الثالث، فيقول إن المشرق العربي قد تغير وتغيرت معه أحوال المسيحيين. وأحوالهم ليست وحدها التي تغيرت بسبب تحريم حق الاختلاف.
هذه نماذج من ردود الفعل العربية على أعمال السينودس. وأرى فيها سلسلة مغالطات والتهرب من الحقيقة التي تصدم العين جهارا. فانتشار التطرف والتزمت الدينيين بين المسلمين، واعتبار الإسلام هو وحده دين الله الحق، واعتبار غير المسلمين مجرد أهل ذمة لا مواطنين متساوين مع غيرهم، ظواهر ووقائع معروفة ولها عواقبها على التعامل مع غير المسلمين. وحرق الكنائس والاعتداء عليها وعلى الرهبان وغير ذلك من أعمال العدوان تكاد تصبح ظواهر يومية في الشرق الأوسط.
وكم من حوادث اعتقال وسجن مسيحيين بنهمة التبشير مع أن الدعاة المسلمين في الغرب يبشرون علنا بالإسلام ويقيمون الأفراح إذا أسلم بعض المسيحيين الغربيين. وفي بلدان الخليج نجد هنا وهناك قيودا ثقيلة على غير المسلمين، وعادة ما يضطر المسيحيون لإقامة الصلوات في منازل الدبلوماسيين أو في قاعات المؤتمرات بالفنادق في ظل مخاطرة كبرى. والمسلم الذي يتحول لدين آخر يعاقب بالإعدام بينما حرية التدين وتغيير الدين مسموح بها في الدول الغربية التي نتهمها بالعداء للإسلام وحرية عبادة المسلمين.وبينما رأينا موجات الهياج الصاخبة عند تهديد القس الأميركي المتطرف بحرق القرآن، فإن وسائل الإعلام العربية تجاهلت خبر استقبال كنيسة أميركية في شهر رمضان للمصلين المسلمين الذين كانوا بانتظار الانتهاء من بناء مركزهم الإسلامي قرب الكنيسة.
حدث ذلك في كنيسة قرب مدينة ممفيس في ولاية تينيسي. وقد نشرت الصحف والتلفزيونات الأميركية صور المصلين المسلين في تلك الكنيسة طوال رمضان. نعم، المسيحيون الشرقيون ينقرضون في أوطانهم مع أنهم هم أهلها الأصليون، ومع كل ما قدموه من خدمات في العلم والتربية والأدب والسياسة وعلم التاريخ والاقتصاد، وكانوا دوما نماذج في دماثة الخلق والوداعة وفي الوفاء لأوطانهم. ولكنهم اليوم في طريق الانقراض، وا أسفاه، والمسئولية تقع على الحكومات والبرلمانات ورجال الدين المسلمين ومعظم المثقفين، وكذلك على الدول الغربية نفسها التي لم تتخذ مواقف واضحة وصريحة في التعامل مع المأساة، إما لأسباب سياسية أو اقتصادية وتجارية، أو لكل هذه الاعتبارات.
لقد آن الأوان للشجعان من المفكرين والمثقفين المسلمين أن يكونوا في الصف الأمامي للدفاع عن المسيحيين الشرقيين وإدانة كل انتهاك بحقهم، والمطالبة بدولة المواطنة والمساواة وحقوق الإنسان، والدفاع الحازم عن الحرية الدينية. إن غياب المسيحيين عن بلداننا خسارة كبرى لنا جميعا. فمتى توقف المأساة؟