بيث زالين(سوريا) – مطاكستا ++ تعيش منطقة الشرق الأوسط حالة من التوتر وعدم الاستقرار, وتواجه أزمات وتحديات على قدر كبير من التعقيد والتشابك، وتنطوي على درجة عالية من السخونة بسبب الصراعات الحادة والمفتوحة بين القوى الدولية والإقليمية التي تتزاحم وتتسابق لحجز مكان لها في الخريطة الجيوسياسية المستجدة, وتوسيع رقعة نفوذها. مستفيدة من تراجع الولايات المتحدة, وانصراف الإدارة الأمريكية إلى إعادة ترتيب أولوياتها في العراق وأفغانستان, والعمل عل احتواء النتائج السلبية الناجمة عن تدخلها العسكري المكثف في شؤون المنطقة من أجل التفرغ لمعالجة بقية الملفات بما يحفظ نفوذها، ويحقق مصالحها ويسترد هيبتها ومصداقيتها المتآكلة. ويأتي في مقدمة هذه الملفات التي ترخي بثقلها على عموم المنطقة، الملف النووي الايراني ,والوضع في العراق, والصراع العربي الاسرائيلي.
وقد نجحت الجهود الأمريكية في دفع السلطة الفلسطينية واسرائيل للعودة الى طاولة المفاوضات المباشرة لمناقشة قضايا الحل النهائي والمتعلقة بالسيادة والحدود والأمن والقدس واللاجئين. وتحاول فرض تنازلات على اسرائيل كخطوة لابد منها لاستمرار التفاوض وصولا" لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة.
غير أن المفاوضات بدأت متعثرة، وتلازمها احتمالات الفشل بسبب إصرار الحكومة الاسرائيلية على المضي في سياسة الاستيطان وإقامة دولة يهودية، وبسبب الانقسام الفلسطيني بين حماس والسلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس. تزامن اطلاق المفاوضات الفلسطينية – الاسرائيلية مع تجدد الاهتمام بتحريك المسار السوري – الاسرائيلي، ويأتي هذا التطور بعد انهيار المفاوضات غير المباشرة التي رعتها تركيا بين سوريا واسرائيل.
حيث ما زالت سوريا تتمسك بحقها الشرعي باستعادة كل مرتفعات الجولان المحتل، في حين أن اسرائيل لم تظهر استعدادا" جديا" للوفاء بمتطلبات السلام مع سوريا.ويبدو أن ادارة أوباما تتطلع لتحقيق انجاز ما على المسار السوري يعوضها عن الفشل المتوقع للمفاوضات على المسار الفلسطيني، تنقذ به شعبيتها المتدهورة في الداخل، ويمنع تفجر الأوضاع فيما لو انهارت المفاوضات مع الفلسطينيين، وفيما لو تحقق هذا الخرق، ربما يساهم في ابتعاد سوريا عن ايران وهذا ما تأمل الادارة الأمريكية ومعها اسرائيل في حصوله.
ويبقى الملف النووي الايراني مصدر القلق الأكبر الذي يؤرق أمريكا والغرب وفي مقدمتهم اسرائيل , لاسيما بعد تزايد نفوذها وتمدد أذرعتها لعدد من دول المنطقة بدءا" من العراق ومرورا" بلبنان وفلسطين وانتهاء" بدول الخليج، مع امتلاكها القدرة على خلط الأوراق وتسخين بؤر التوتر واصطناع بؤر توتر جديدة على خلفية تنامي الصراع السني – الشيعي في غير مكان. ورغم نجاح الولايات المتحدة بانتزاع قرار من مجلس الأمن حاز إجماع الدول الدائمة العضوية بفرض عقوبات قاسية على إيران لإجبارها على التراجع عن برنامجها النووي, فان إيران تبدو ماضية في خططها، ما يزيد من احتمالات اللجوء إلى الخيار العسكري في حال فشل الجهود الدبلوماسية في معالجة هذا الملف.
إن انفتاح تركيا على دول الجوار، إضافة لموقعها الجيوسياسي , وتنوع علاقاتها الدولية، وصعودها الاقتصادي المتسارع، وطبيعة نظامها السياسي وفرادته بين دول المنطقة , وفّر لها فرص البروز الاقليمي , وجعل منها قوة وازنة اقليميا"، قادرة على القيام بأدوار هامة في تبريد النزاعات في المنطقة والاسهام في حلها من ايران الى فلسطين. ونتيجة لانخراطها المكثف في ملفات المنطقة , تحولت إلى لاعب أساسي في شؤونها، وممرّ للكثير من المبادرات الاقليمية والدولية . لكن هذا الدور أصيب بشيْ من العطب جراء تدهور علاقتها باسرائيل بسبب موقفها من حرب غزة , وتصدرها لمحاولات فك الحصار عنها , وجراء اندفاعها في التقرب من إيران, هذه السياسات الشعبوية الصاخبة التي سعى أردوغان لتوظيفها في الداخل لرفع شعبية حزبه في المعادلة الداخلية , أفقد تركيا مزايا كثيرة في التدخل والتأثير في شؤون المنطقة، خصوصا" وأنه استحضر معه الصورة العثمانية القاتمة لكن بحلة جديدة .
في العراق ازدادت المخاوف من عودة الارهاب ومحاولة ضرب العملية السياسية المتعثرة وذلك بعد انسحاب الوحدات القتالية الامريكية أواخر شهر آب . وبقاء حوالي /50/ ألف عسكري مهمتهم تقتصر على التدريب والاسناد وذلك تنفيذا" للاتفاقية الأمنية , وجاء الانسحاب في وقت ما زالت فيه قوات الجيش والأمن العراقي غير جاهزة للقيام بمهامها في فرض الأمن والاستقرار وفق تأكيدات عدد من المسؤولين العراقيين . يتزامن ذلك مع تدخل إقليمي كثيف في الشأن الداخلي العراقي لسد الفراغ الناجم عن الانسحاب الأمريكي , وحجز حصة من النفوذ والمكاسب التي قد يوفرها العراق الغني في المستقبل . وما زاد الأمور تفاقما" عجز القوى والكتل السياسية العراقية عن تشكيل حكومة عراقية جديدة رغم مضي ستة أشهر على الانتخابات النيابية . لأسباب تعود لانعدام الثقة , وتغليب منطق المحاصصة الطائفية , والتغطية على الفساد , وفقدان الارادة المستقلة لدى الكثير من قادة العراق، والذين تحولوا إلى بيادق بيد دول الجوار وخدمة مصالحها , دون أية مراعاة لمصالح الشعب العراقي الذي يعاني من شتى ضروب القتل والارهاب والفقر وانعدام الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء، ما اضطر الكثيرين للهجرة . إن التباطؤ في تشكيل الحكومة العراقية , واستمرار الفراغ السياسي بلا شك سيغري ويدفع قوى الارهاب وتلك المتضررة من نجاح العملية السياسية وقيام عراق ديمقراطي حر وموحد، للعودة من أجل تعطيل وتخريب الحياة السياسية، وسيكون لهذا أفدح الأضرار على وحدة العراق ومستقبله.
أما لبنان فما يزال ساحة مفتوحة لتسديد فواتير إقليمية , وتصفية حسابات الصراعات الإقليمية الكبرى في المنطقة , حيث تشهد الساحة اللبنانية أزمة سياسية حادة , وتسيطر أجواء الخوف والقلق والترقب , بسبب تصاعد نذر هذه الصراعات مع قرب صدور القرار الظني في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان , التي تنظر في جريمة اغتيال الحريري , واحتمالات توجيه اتهام لعناصر من حزب الله , واصرار حزب الله وحلفائه على إلغاء المحكمة نهائيا" كشرط لضمان السلم الأهلي وتجنب الفتنة , وتجلّى ذلك في الحملات المحمومة ضد المحكمة والأطراف اللبنانية المؤيدة لاستمرارها . ويشكل القرار الاتهامي هاجسا" كبيرا" لدى قيادة حزب الله بسبب خشيتها من إلصاق صفة الارهاب به , بعد أن ترسخت في الأذهان صفة المقاومة . والبعض من المراقبين يرى أن أبعاد الحملة تتعدى مسألة إلغاء المحكمة إلى المس بكيان الدولة وشرعية مؤسساتها الدستورية , والتنصل من التزامات اتفاق الدوحة الذي أرسى حالة من الوفاق , وسد الطريق أمام الفراغ السياسي.
تترافق هذه الحملات بجرعات متزايدة من الشحن والتحريض الطائفي والمذهبي , خصوصا" بين السنة والشيعة , حيث بدأت ارتدادات هذا الصراع تتخطى الساحة اللبنانية لتظهر في الكويت والبحرين والعراق . وما يضاعف المخاوف هو تزايد احتمالات شن اسرائيل لحرب عدوانية جديدة على لبنان بحجة القضاء على الخطر الناتج عن استمرار حزب الله بزيادة قوته العسكرية. ولمنع الأمور من التدهور والفلتان , تدخلت سوريا والسعودية لإرساء نوع من الهدنة والتهدئة بين الأطراف اللبنانية المتخاصمة, غير أن التهدئة تبدو هشة ومؤقتة وقابلة للخرق في كل لحظة، نظرا" للارتباط الوثيق للأوضاع اللبنانية بملفات الصراع المتحركة والمتغيرة في المنطقة، اذ تبرز تداعياتها وتأثيراتها المباشرة في الساحة اللبنانية العديمة المناعة أصلا" . تقع سوريا في صلب قضايا المنطقة وفي قلب صراعاتها، من العراق الى فلسطين ومرورا" بلبنان . ومؤخرا" تنامى دورها، وتعززت مكانتها الاقليمية، وزاد انخراطها في هذه الملفات، بعد نجاحها في تخطي الضغوط المكثفة التي تعرضت لها نتيجة موقفها المناهض لاحتلال العراق، والتي بلغت ذروتها بعد اغتيال الحريري، وانسحاب جيشها من لبنان .
وأصبح المجتمع الدولي يتطلع إلى سوريا للقيام بدور ايجابي لترسيخ دعائم الأمن والاستقرارفي المنطقة, بعد ازدياد الحاجة اليه والى فك وحلحلة الاستعصاءات في الساحتين العراقية واللبنانية واللتين تمثلان مركز التجاذب الاقليمي والدولي في المنطقة. ويؤكد صحة هذه المعطيات، توقيع سوريا اتفاقات استراتيجية غيرمسبوقة مع تركيان وتطوير علاقاتها مع كافة أطراف اللعبة السياسية في العراق، وعودة تفاهمها مع السعودية والذي تكرس بفرض تهدئة قلقة في لبنان، واستعادة نفوذها الكبير فيه، وبروز الحاجة لتدخلها المستمر لضبط ايقاعات التوتر، حتى من أطراف خاصمتها على مدى السنوات الخمس الماضية , وعلى رأسها رئيس وزراء لبنان سعد الحريري الذي تراجع عن الاتهام السياسي لسوريا باغتيال والده . اضافة إلى انفتاحها على الغرب بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية , ويؤكد على أهمية الدور المطلوب من سوريا، التوافد الدائم للدبلوماسيين الغربيين إلى دمشق , وآخرهم جورج ميتشيل الموفد الأمريكي للشرق الأوسط بهدف استئناف المفاوضات بين سوريا واسرائيل.
غير أن هذا الانفتاح يكتنفه شيء من التوجس والتحفظ جّراءالعلاقات الوثيقة بين سوريا وإيران , وكذلك مع حزب الله وحماس. ورغم التأكيد الدائم للحكومة السورية على التبني الاستراتيجي لخيار السلام العادل والشامل مع اسرائيل , والمستند إلى قرارات الشرعية الدولية , وبأنه ما زال يحظى بأولوية لديها . فان هناك خشية في أن تتسبب علاقاتها مع ما يسمى بمحور الممانعة الممثل بإيران وحزب الله وحماس , في جرها إلى مواجهة واسعة النطاق مع اسرائيل بشأن الملف النووي الإيراني , أو أخرى محدودة قد تدفع إليها حسابات خاطئة في الساحة اللبنانية . واحتمالات هذه المخاطر قد تتزايد بعد الانتخابات النصفية الأمريكية , واستكمال اسرائيل لاستعداداتها العسكرية التي تسير جنبا" إلى جنب مع سير المفاوضات المباشرة مع الفلسطينيين. وعموما" فان الانفتاح الغربي الكامل على سوريا، ما زال مشروطا" بابتعادها عن إيران . وربما هذه النقطة تفسر سرالاهتمام الدولي المتجدد بتحريك مسار السلام السوري– الاسرائيلي.
وعلى الصعيد الداخلي , فان انفراج العلاقات الخارجية لسوريا لم يجد صداه في الداخل السوري , وعلى العكس فان وعود الإصلاح بمجملها لم تترجم على صعيد الواقع والتطبيق العملي , وكذلك فان قضايا الحريات وحقوق الانسان شهدت تراجعا" ملحوظا" , قابلها تشديد القبضة الأمنية في مختلف مجالات الشأن العام . وبالرغم من الخطوة الايجابية والهامة التي أقدم عليها النظام , في العودة إلى القيم العلمانية , وكبح تأثير ونفوذ التيارات الأصولية , والحد من مظاهر التطرف والتعصب الديني , إلا أنها تبقى خطوة ناقصة ما لم تقترن بإجراء إصلاحات ديمقراطية جدية تشمل كافة الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية , تضمن تعزيز الوحدة الوطنية , وتجاوز الأزمات الحادة التي تعيشها البلاد . وهذا يقتضي اتباع نهج جديد يقوم على فتح حوار وطني حقيقي ومسؤول بين مختلف القوى الوطنبة في السلطة والمعارضة، لتوفير المناخات اللازمة للاصلاح , وبما يكفل النهوض للمجتمع السوري , ابتداءمن اشاعة الحريات الأساسية , ووقف العمل بقانون الطوارئ والأحكام الاستثنائية , واطلاق سراح معتقلي الرأي وقوننة الحياة السياسية , وحل مشكلة التنوع القومي حلا" ديمقراطيا" عادلا". وهذه القضايا وغيرها تتطلب المزيد من الحوار والتفاهم بين القوى الوطنية, بدلا" من اتباع لغة القمع والتضييق على المجتمع ونخبه السياسية والفكرية.
وفي المجال الاقتصادي والاجتماعي , فبالرغم من سير سوريا بعيدا" في مجال تحرير الاقتصاد وتبني خيار اقتصاد السوق الاجتماعي , فان السياسات الاقتصادية المعتمدة عجزت عن تلبية حاجات المواطنين المتزايدة . وأدى ذلك إلى تفاقم الأزمات الاجتماعية والمعيشية نتيجة ارتفاع معدلات الفقر والبطالة , وانتشار الفساد والنهب الممنهج وبلوغه معدلات غير مسبوقة . وكذلك بسبب غياب الاستثمارات الانتاجية (التي حدّت من تدفقها جزئيا"العقوبات الامريكية) وسيطرة الجفاف وتراجع الانتاج الزراعي وارتفاع نسب التزايد السكاني بشكل مخيف والتي أعاقت كثيرا" خطط التنمية.
وكانت معاناة الجزيرة السورية مضاعفة , حيث هاجر عشرات الآلاف من أبنائها إلى المحافظات الأخرى , بسبب الجفاف ومحدودية المواسم الزراعية وانعدام الاستثمارات فيها , وتداعيات المرسوم/ 49 / تاريخ 10/9/2008 الذي عطّل مختلف أوجه النشاط الاقتصادي فيها . ان انشغال الأنظمة والحكومات في دول المنطقة بقضايا الأمن والارهاب واهتمامها بترسيخ دعائم حكمها , لم يواكبه اهتماما" موازيا" بقضايا التنمية وقضايا الاصلاح , ما أدى الى تراجع قضايا الديمقراطية وحقوق الانسان والاقليات في معظم دول المشرق , وهذا النهج المكلف لم يجلب السلام والاستقرار , بل أدى الى زيادة بؤر التوتر نتيجة لصعود وتنامي التيارات الدينية المتطرفة , الخارجة على منطق الدولة , ما يشي بتحول العديد من دولها الى دول فاشلة , وهذا خيار كلفته تفوق كثيرا" كلفة اللجوء إلى خيار التنمية وتحقيق الإصلاحات الديمقراطية.
سوريا 3 تشرين الأول 2010م 6760 آ
المنظمة الآثورية الديمقراطية
اللجنة المركزية