بقلم: سامي ابراهيم
++ كيف يكتب التاريخ؟ وما هي معايير الصدق فيه؟ كيف يتم تقييم المادة التاريخية؟ هل يمكن فصل المادة التاريخية عن أحاسيس ومشاعر كاتبها؟
هل يستطيع كاتب المادة التاريخية أن يتجرد من كامل أحاسيسه؟ وهل هو آلة تسجيل؟ همه فقط استخراج الحقيقة؟
هل هناك ارتبط بين الأثر الذي تتركه حادثة تاريخية من مشاعر وبين الحقيقة التاريخية؟ وإذا توفرت بين يديه حقائق عديدة، فهل يهمل بعضها؟ وعلى أي أساس يختار التي سيدرسها؟ وكيف يحدد مستوى أهمية المادة التي اختارها؟ وإلى أي مدى سيضع استنتاجاته الشخصية المستوحاة من الحقيقة التاريخية ليقدمها كمادة متكاملة؟ حادثة وقعت قبل مئات السنين، من كتبها وما مستواه الفكري؟! وعلى ماذا استند؟! وعلى من أستند؟!
هل من الممكن أن تدخل الأوهام وأساطير الشعوب في حركة التاريخ؟ كيف يمكن استخراج الحقيقة من كل هذا السيل الجارف من المواد التاريخية المتدفقة والمتناقضة؟!
هذه الأسئلة وغيرها التي تراود عقل الباحثين عن الحقيقة ُتظهر مدى الإشكالية في المادة التاريخية، وُتظهر مدى الأزمة التي يقع بها الباحث التاريخي، فإذا كانت الحقيقة تتطلب التقيد التام بالموضوعية والتخلي عن المشاعر والنزعات الشخصية، فإنه يمكن القول أن المادة التاريخية بما تحمله من مشاعر فردية وأحاسيس جماعية واقعة في مشكلة الافتقار للموضوعية. وبما أن المادة التاريخية لا تقاس بقوانين رياضية، فسنبقى نعاني من هذه المشكلة. فلو أن حادثة معينة وقعت في بلدة مجاورة للبلدة التي نعيش فيها ومع كل وسائل الاتصال الحديثة والتوثيق المتوفرة سيحدث لدينا تضارب بالأقاويل وستنطلق الإشاعات. تخيل لو أن النازية انتصرت في حربها الأخيرة وسيطرت على العالم، كيف كان سيكون شكل التاريخ؟ وكيف كان سيكتب؟ وما هي التعابير والمصطلحات التي ستعبر عن الحالة المعاصرة؟ هل كان سينظر للنازية بالصورة التي يتم تناولها فيها الآن؟ هل كانت ستتهم بهذا الكم من الوحشية وعدد المجازر التي ارتكبوها؟ هل جرائم الأتراك بحق الشعب الأرمني والشعب السرياني الكلداني الآشوري هي أقل من جرائم النازية حتى لا يتم الاعتراف بها؟ أم أن محو مدينتي ناكازاكي وهيروشيما عن وجه الأرض في ثواني معدودة هو أقل وحشية؟ وهل وحشية إسرائيل أقل من وحشية النازية؟ عدد القنابل التي سقطت على بغداد في أيام قليلة يفوق بأضعاف عدد القنابل التي سقطت على مدن أوربا في سنوات الحرب العالمية، ناهيك عن خطورة إشعاعات الأسلحة المتطورة والمضاعفات البيولوجية والآثار النفسية المصاحبة لها.
………………
النظرية الآشورية إن صح التعبير تقدم شرح تاريخي عن أصل الشعب السرياني، وبدورها النظرية الآرامية تنافس النظرية السابقة وتعبر عن رأيها في أصل الشعب السرياني. لو أسقطنا الأسئلة السابقة على الشرح التاريخي لكلا النظريتين لوجدنا أن كلا النظريتين ستقعان في نفس المأزق ألا وهو الموضوعية. فاستناد كلا النظريتين هو على مادة تاريخية، والمادة التاريخية ليست منزلة ولا هي قانون رياضي أو فيزيائي، ويحتمل الصح والخطأ. إن النظريتين السابقتان ما هما إلا حركتان سياسيتان، كل حركة وضعت منطلقات فكرية بنت عليها إيديولوجيتها، وأقنعت أفرادها بأهدافها وببرنامجها السياسي. للنظريتان نقاط قوة ونقاط ضعف، وكل نظرية تعمل جاهدة لتثبت أنها تملك الحقيقة.
لنستعرض نقاط القوة والضعف لكلا النظريتين متجنبين المسألة التاريخية التي يزعم كل شخص أنه يملك دلائل وإثباتات تؤكد صحة كلامه: إن نقاط القوة التي سنستعرضها عن النظرية الآرامية تمثل نقاط ضعف للنظرية الآشورية:
• تستمد النظرية الآرامية قوتها وحيوتها من تبني الكنيسة والمؤسسات الدينية لها، معتمدة على الكتاب المقدس، هذا الكتاب الذي يؤمن به ملايين البشر، والموجود منذ آلاف السنين، والذي أصبح في كثير من الأحيان مرجعاً تاريخياً وحيداً نظرا لشح وقلة المراجع التاريخية المتوفرة أو اندثارها وضياعها. فارتباط الشعب السرياني بالكنيسة هو ارتباط وثيق وعميق وهذه حقيقة لا يمكن لأحد أن ينكرها، فولائه للكنيسة مطلق، ومرجعياته العليا كنسية، وأوراقه ووثائقه الشخصية والرسمية كنسية وليست مدنية كأوراق الزواج والطلاق والمعمودية ومطلق الحال، إذاً هو تابع لكنيسته. لقد شكلت الكنيسة صورة الأم بالنسبة للإنسان للسرياني وهذا ما يجعل أي نظرية تتبناها الكنيسة قوية ومؤثرة.
• من أهم أركان ودعائم هذه النظرية هو أن السيد المسيح تكلم اللغة الآرامية وهذا ما يجعلها لغة مقدسة، ويجعل اسمها مقدسا، فالسيد المسيح يمثل الله المتجسد، مليارات البشر وجدوا منذ ألفي عام ومليارات ستولد وهي تؤمن بأنه الله المتجسد، وهذه نقطة قوة عظيمة تضاف لصالح هذه النظرية.
• النظرة الدونية من قبل أبناء الطائفة المشرقية الآشورية بحق أبناء الطائفة السريانية بأنهم قوم مجرد تابعين للإمبراطورية الآشورية هذه النظرة الدونية التي تولد ردة فعل سلبية من التسمية الآشورية، والتعصب الآشوري الذي يقصي كل التسميات الأخرى على أنه الوجود الوحيد في ارض سوريا والعراق ناعتا الجميع بأنهم قبائل بدوية! (لا أدري من أين جاءوا بهذه المعلومة)، والتعصب القبلي الآشوري أيضاً ولد نفورا من التسمية الآشورية وخلق حساسية تجاه التسمية الآشورية، أدى هذا إلى إضعاف النظرية القومية الآشورية وقوى النظرية الآرامية أكثر.
• ارتباط التسمية الآشورية بنسطور الذي تم حرمانه كنسيا ودينيا من قبل بقية الطوائف المسيحية، ما ولد نفورا شديدا من قبل الشعب السرياني المرتبط بكنيسته تجاه النظرية الآشورية، لتصبح نقطة قوة للنظرية الآرامية المتبناة كما ذكرنا من قبل الكنيسة. لكن بالمقابل هناك نقاط ضعف للنظرية الآرامية وتمثل بالمقابل نقاط قوة للنظرية الآشورية منها:
• نقطة الضعف الأولى: يخسر من ينادي بالنظرية الآرامية لفظة سوريا ويخسر الارتباط الوثيق المباشر والآني مع الاسم سوريا الذي يمثل جمهورية مستقلة لها تمثيل دبلوماسي في الأمم المتحدة وسفارات في جمع دول العالم. أي من ينادي بلفظة أرامي سيخسر بشكل مباشر اسما يحمله قرابة 25 مليون نسمة موجودين في الداخل مع عدة ملايين موجودة في الخارج. فعندما يعرّف المواطن السوري المكتوب على جواز سفره "الجمهورية العربية السورية" عن نفسه بقوله Iam Syrian فإنه في الحقيقة يقول أنا سرياني أو أنا آشوري. فأن تقول Iam assyrian Iam Syrian من جهة وان تقول Iam Aramaich من جهة أخرى فأنت في الحالة الأولى تعبر عن أصحاب الأرض الشرعيين الحاملين اسمها بينما في الحالة الثانية في قولك أنا آرامي فإنك بذلك تعبر عن قوم معينين سكنوا منطقة سوريا، ولا يملكون أي أفضلية عن بقية الأقوام التي سكنت سوريا واستوطنت أرضها، أي مثلك مثل أية أقوام أخرى هاجرت من منطقة ما واستقرت في سوريا.
• نقطة الضعف الثانية: لدينا ثلاث طوائف تشكل ثلاث كتل أساسية تحمل نفس اللغة ونفس الموروث الثقافي والأهم تحمل نفس الموروث الديني ألا وهي الكتلة الكلدانية والكتلة السريانية والكتلة الآشورية أما الكتلة الآرامية فليس لها وجود طائفي أو عقائدي أو قومي أو أي شكل من أشكال الوجود، فالاسم اندثر مع الزمن، يبدو أنه لم يكن قويا ليبقى على وجه الأرض، لم يكن قويا ليقاوم ويصارع فمات، وهذا ما يجعل موقف النظرية ضعيفاً، فأن تحيي شيئاً ميتاً أصعب بكثير من أن تنسب نفسك لشيء موجود. فلو عرّف السرياني عن نفسه بأنه سرياني واكتفى بذلك لن تظهر لدينا أي مشكلة، لأن الشعب السرياني متمثل بالكتلة السريانية وله وجود حقيقي على الأرض وله طائفة دينية تعتبر أقدم طائفة مسيحية على وجه الأرض، ولو عرّف السرياني عن نفسه أنه آشوري أيضا لن تظهر مشكلة وجود أو اندثار بالمعنى الحرفي للكلمة لأن الشعب الآشوري متمثل بكتلة آشورية وله وجود قومي على الأرض أو حتى ديني، بينما لو عرّف السرياني عن نفسه بأنه آرامي فهنا ستبرز مشكلة الوجود، لأن الآرامية غير ممثلة بأي كتلة أو طائفة في العصر الحديث. فعلى سبيل المثال الوجود القبطي متمثل بطائفة أو جماعة أو عرق في مصر أي لهم رقم على الأرض ولن يهم كثيرا إن كان وجود قومي أو ديني لكن لهم خصائص اثنيه مستقلة، وأيضا الأمازيغ في المغرب لهم خصائصهم ولهم أحزابهم ويطالبون بحقوقهم، حتى الهنود الحمر الذين تعرضوا لعمليات إبادة احتفظوا بخصائصهم صحيح أن وجودهم قبلي بدائي لكنه يبقى وجوداً. بينما الوجود الآرامي اندثر بشكل كامل.
• نقطة الضعف الثالثة: بتبني التسمية الآرامية فإنك تخسر اسم أول طائفة مسيحية ألا وهي السريانية، فالآرامية هي تسمية مرتبطة بالوثنية وهذا لا يتعارض مع كونها لغة تحدث بها المسيح لأنها كانت لغة عالمية ولغة شهيرة كالانكليزية اليوم، فالمسيح تكلم بها فقط من أجل إيصال رسالته لأكبر شريحة ممكنة من الناس ليس إلا. إذاً عندما ترسخ الفكرة الآرامية فإنك بشكل أو بآخر تعود للوثنية، وبذلك تخسر تيهك وفخرك كأول طائفة مسيحية أمام ملياري مسيحي يشكلون القوى العظمى في العالم متواجدين في أوربا الغربية منها والشرقية وقارتي أمريكا الشمالية والجنوبية.
………………………
في النهاية ما الذي سيتغير إن كنا آراميين أو آشوريين؟! هل هناك مجد سنستعيده؟! هل هناك أية مكاسب سننالها؟! بالتأكيد لا.لن نستعيد مجدا ولن يتصدق علينا أحد بالعطايا. وطالما هذا الشعب بقي ممزقا فإنه سيبقى يعيش حاضرا تعيسا. لماذا يسأل السرياني عن الماضي، وما هي الجدوى والفائدة إن لم يحسن التعلم من أخطاء الماضي؟! ما هي فائدة الماضي إن لم يدرك الحاضر ويعد للمستقبل؟! بين مطرقة آشور وسندان آرام، ضاع الإنسان السرياني، وفقد انتمائه. لم يفقد ماضيه فحسب بل فقد حاضره، والذي لايعرف ماضيه وغير مهتم بحاضره، سيفقد مستقبله أيضا. وسيكون إدراكه للحياة إدراكا مشوشاً، ومرتبكا. لسنا هنا لنتشائم و نيأس، بل لننهض، سئمنا الانشقاقات والخلافات والتمزقات، مللنا التشرد والضياع واللا انتماء. لقد اشتقنا لبريقنا الحضاري وآن الأوان للعودة لموقعنا الرائد بين الشعوب. آن الآوان لنرجع بناة للحضارة.
الايميل:
sami198420@hotmail.com