بقلم: سامي ابراهيم
++ اللاشعور هو أداة تسجيل ذات سعات تخزين كبيرة جداً لا تتعطل أبدا، فهو يتلقى الأوامر البرمجية من الوسط المحيط من الأبوين ومن المدرسة ومن الشارع….، ليتبرمج الإنسان بناءً على هذه الأوامر. وكلما كانت الأوامر البرمجية سليمة كلما كان نمو الشخصية أنضج، ونضوج الشخصية يكون بالقدرة على أن يتخلص الإنسان من كل ما يعيق تقدمه وتطوره النفسي والعقلي، ويصبح قادراً على أن يكون من مجرد مملوك ورادّ فعل ومنفذ لأوامر الأب (الله) إلى عقل حر يكون هو وحده سيد نفسه وعقله فاعلا ورافضاً لغيبيات على أنها حقائق مطلقة.
وبالمقابل كلما كانت الأوامر البرمجية سيئة فإنها ستؤدي إلى إنتاج شخصية مقتنعة مقيدة ضعيفة الانطلاق مرتبطة بالأب لتحمي نفسها وتتخلص من مسؤولياتها، ولتقمع لاشعوريا أي تفكير أو سلوك من شأنه أن يجعلها تخسر حماية الأب أو يجعلها وحيدة في معترك الحياة، فتعمل هذه الشخصية على خنق عقل الإنسان كلما شعر الإنسان بحاجة لإظهار أي تغيير في سلوكه المطيع. تحمل هذه الأوامر صوت الأب الصارخ: (أنت ولد سيء) فيدخل هذا الأمر لداخل الجهاز النفسي للإنسان ويصبح حقيقة بالنسبة لهذا الإنسان فيقتنع في نفسه أنه "ولد سيء". النصوص الدينية هي مجموعة أقوال ينسبها الإنسان للأب الأعظم "الله" لتصبح حقيقة مطلقة، فكثيرا ما نسمع الطفل يقول: "أبي قال هذا"، إذاً الأمر لا نقاش فيه، بما أن أبي قال هذا فإنه الحقيقة المطلقة. النصوص الدينية باعتبارها أوامر برمجية تجعلنا نتفاعل مع الواقع بطريقة تفرضها هي، لتساهم في بناء المنظومة الفكرية للإنسان وتكوين شخصيته.
شخصية الإنسان المتدين (لنسميها الشخصية الدينية) هي شخصية تحمي نفسها وتهرب من مسؤولياتها لتبقى دائما في حضن الأب الدافئ (الأب في مرحلة الطفولة) الذي يتحول إلى الله (في مرحلة النضج). الشخصية الدينية شخصية تعيش في عمر الطفولة المستمرة والغير منتهية، وهي مرحلة اللاقدرة والحاجة للآخرين. وما إدعاء المتدين أنه يدافع عن الله إلا خداع للذات، لأنه في الحقيقة يدافع عن نفسه هو، يقاتل في سبيل أن يبقى في محيط من الحماية والأمن والاستقرار الذي يوفره الأب (الله). وهي بهذا الشكل فإن الشخصية الدينية تسمع ما تريد أن تسمعه، وترى ما تريد رؤيته، تضع الفكرة الميتافيزيقية كحقيقية أمامها ثم تأمر العقل بأن يقتنع بها.
الشخصية الدينية لا تستطيع الخروج من قوقعتها لأنها شخصية غير حرة، لا تستطيع الانطلاق نحو آفاق جديدة لأنها دائمة الشعور بالقلق والإحساس بالذنب اتجاه نفسها، هي تشعر بالذنب لمجرد أنها موجودة مخلوقة، وعندما تحس بالذنب، فإنها ستبحث دائما عن العقاب الذي تستحقه، فتفقد رغبتها في التقدم، تختلق لنفسها أي مبرر لتبقى مدينة بالعرفان لشيء تعتقد أنه أعطاها كيانها وخلقها، وهذا الشيء الذي تدين له بالعرفان هو الأب (الله).
الشخصية الدينية تلتصق بدينها كما يلتصق الرضيع بأمه وكأنها إحدى الملحقات أو الزوائد للمنظومة الدينية التي ربيت عليها. تجعل من نفسها عبدة، لتؤّمن أمنها وسلامها الداخلي. لا تستطيع الشخصية الدينية أن تعيش الحياة من كافة جوانبها، بل تعيشها من جانب واحد فقط، فتراها لا تستطيع أن تفكر بحرية وبإرادة مستقلة، بل تعيش في قوالب فكرية جامدة، وبذلك لا تستطيع أن تتحرر، ولا تستطيع أن تنمو ولا تستطيع أن تسير نحو الاتزان الكامل في الشخصية. الشخصية الدينية تصبح مملوكة وتابعة لنص ديني، وعندها يخسر الإنسان سيادته على نفسه ويفقد قدرته على التحكم في مجريات حياته، فينحني مع كل نص ديني حتى لو لم يتوافق معه، وتؤثر عليه الأجواء دون قدرته التأثير عليها، يصبح كأنه قارب صغير تتقاذفه الأمواج.
الإنسان المتدين يخشى أن يحدّث الآخرين بصدق عما يعتريه وعن حقيقة ما يفكر به وما يشعر به وما يحب وما يكره وما يتمنى وما يحلم، يخشى أن يخذل الله (الأب) ويخاف أن يخذل الأحباء والأصدقاء والآخرين المعتنقين لنفس المذهب الديني والمشاركين في نفس المنظومة الإيمانية، فتراه يبالغ في أشكال الدفاع عن مذهبه ومعتقده محاولاً إسعاد الآخرين ونيل إعجابهم، خصوصاً عندما يساوره القلق من ألا يكون مقبولاً لدى الآخرين إذا ما قال الحقيقة في أنه يعارض بعض الأقوال الإلهية، أو أنه يرى بعض النصوص الدينية غير مناسبة لشخصيته، أو يعبر عن مشاعره الحقيقة تجاه الطقوس الدينية المملة والتي تخلو من أي معنى.
إذاً تبقى الشخصية الدينية شخصية محبوسة ضمن سجن مقفل بأبواب حديدية تخشى الخروج لأنها لا تريد مواجهة الأخطار، تقلق من نظرة العالم إليها، تتساءل دائما هل سيقبلها المجتمع، هل سيرفضها المحيط. لقد رهن عقله ومشاعره بكل بساطة لنص ديني يفرض عليه ما يجب أن يفعله وما يجب أن يفكر به وما يجب أن يحلم به وما يجب أن يكره وما يجب أن يحب. لقد استسلم للنص الديني وباستسلامه هذا تخلى عن حرية القرار. الشخصية الدينية تجعل النمو النفسي وعملية النضج تراوح مكانها أشبه بسيارة علقت في الطين، وفي كل مرة تنتفض الشخصية الدينية وتحاول التحرر سواء بالشك أو بمواجهة ذهنية عقلية لتناقضات النصوص الدينية تجد جرعات مهدئة ومخدرة تدخل الجهاز النفسي لتحمل ارتياحا مزيفا، ولتقضي على هذه المواجهة، ومن هذه الجرعات المخدرة هي إرهاب المتدين وتخويفه أن العالم الخارجي قاسي وأنه لن يستطيع مصارعة محنه ومشاكله بعيداً عن المنظومة الدينية التي تحميه، وتجعله يعيش في حالة شك بقدراته على حل مشاكله لوحده، ومع وجود ضعف الثقة بالنفس، يخسر المتدين في النهاية معركته في التخلص من تسلط النصوص الدينية ويفشل في فك اسر شخصيته منها ويفضل عدم المحاولة مجدداً لكي يتجنب آلام الصراع المؤلم الذي ينتابه كلما حاول التخلص من قبضة النصوص.
الشخصية الدينية لا تملك الجرأة لتخاطر وتخرج من مخبأها وتكشف عن أفكارها وقراراتها وأحكامها، فلا هي تنمو ولا تساعد غيرها على النمو لتبقى مرغمة على العيش في عواطف مكبوتة. لنرى الآن كيف تتشكل الشخصية الدينية: الله يمثل الأب، الأب هنا مستبد جدا يمنح إحساسا للمتدين بأنه مخطئ وغير جدير بمحبة الله، ولكي يفلت الإنسان من مشاعر الحصر هذه، يلاطف الله، كيف؟ بأن يصلي له، يقدم له الأضاحي، يتكرم على الفقراء، يعذب جسده بالصوم من أجل الله، يرفض كل ما يسيء لهذا الأب، والأهم هو أنه يحارب بكل ما يملك من قوة أي نقد موجه للنص الديني، وكأن المتدين يقول لله :"أنظر يا الله أنا إنسان جيد أرجوك سامحني، أرجوك أن تحبني أنا استحق أن أنال المغفرة والصفح وأستحق أن أكون محبوبا عندك من جديد".
إذاً الشخصية الدينية تجهد طيلة حياتها حتى تنال الصفح. ولا تكتفي من أجل تأمين الحماية النفسية أن تطلب الصفح والغفران، بل تقوم بهدم أية آلية تعمل على الانفتاح على الآخرين، موهمة الإنسان المتدين أن من هو موجود خارج معتقده الديني مخطئ وانه لا أحد غيره يملك الحقيقة، وأن الله (الأب) أختاره هو دون غيره فلماذا يرفض هذه النعمة ولماذا عليه أن ينمو وأن يكبر، وماذا سوف يجني من عملية النمو غير أنه سيصارع في معركة الحياة الرهيبة وسيبقى وحيدا! ثم تأتيه فكرة الموت المفزعة التي لا يستطيع أن يتقبلها لاشعوريا، لتكمل مخاوفه وتسحق أي مقاومة للنصوص الدينية، فماذا يختار: أن يعاني ويتألم وحيدا؟! أم أن يؤمن بما جاء بالنص الديني فيتخلص من معاناة الصراع في واقع الحياة ويضمن حياة أبدية سعيدة هانئة!. إن رفض المتدين للنقد الديني بكل بساطة هو تخلص مما يولده هذا النقد من صراع لاشعوري، صراع بين الحياة السهلة وتفسير بسيط للظواهر وبين الحياة الراشدة القاسية، بين خضوع تام للأب (الله) وما يحمله من رضوان ومحبة وعطايا وبين تمرد وخروج عن الطاعة وما يحمله من غضب وعقاب وخيبة أمل من قبل الأب تجاه الإنسان.
…………………………
بما أن الشخصية الدينية تكبت لا شعوريا مشاعر الحصر والعدوانية تجاه الله (الأب) الذي يوبخها على مدار الساعة ويستعبدها ويأمرها ويعاملها كطفل و…، فلابد من هذه المشاعر إذاً من أن تظهر ولابد لهذه العدوانية من أن تتفجر، فكيف ستجد المنفذ للخروج من أعماق اللاشعور إلى السطح؟ بكل بساطة تفجر الشخصية الدينية عدوانيتها في وجه الناقد الديني، تراها تقنع نفسها بأن الواجب الأخلاقي هو الذي يحتم عليها أن تدافع وتنتفض وتهاجم بهذه الشراسة ضد كل من يتجرأ على النقد والتشكيك برحمة الله (الأب) أو عدالته. إنها في الحقيقة تستجمع كل العدوانية المتراكمة تجاه الأب (الله) الساحق لها لتفرّغها في صراعٍ مع الناقد، يقول لك المتدين: "لقد أحبني الله حباً عظيماً لدرجة أنه اعتبرني شعب الله المختار يا رجل، أو، انظر يازلمة لعظمة المحبة التي يكنها الله لي لقد عدّني خير أمة أخرجت للناس يالـ محبته لي ويالـ تفضيله لي، أو يقول، انظر لقد أرسل ابنه الوحيد ليخلصني فأنا مدين له بالعرفان بحياتي، أنا آثم تجاهه….." فكيف يأتي الناقد ويتجرأ ويتطاول على من خصه بالمحبة الوحيدة على البشرية جمعاء، إنه بالتأكيد مدين له بالدفاع عنه وبرد الجميل. وكلما ضاق الخناق على المتدين من قبل الناقد نجد المتدين يزداد عدوانية وشراسة وعنفا كانوا مخفيين موجودين في أعماق اللاشعور لنرى كل هذه المغالاة في الدفاع عن شيء من المفترض أن يكون قوياً وقادرا على الدفاع عن نفسه بنفسه وهو يملك كل هذه القدرات الخارقة الإلهية.
…………………….
تبلغ النصوص الدينية ذروتها في سحق الشخصية وفرض تسلطها المطلق عليها عندما تحمل هذه النصوص التناقض والازدواجية، كأن يعاقبك نص ديني على فعلك لأمر معين ثم يعود ليعاقبك إن لم تفعل هذا الأمر نفسه! والنصوص الدينية مليئة بهذه التناقضات وتستطيعون استحضار العديد من هذه النصوص التي تملئ الكتب الدينية. وبالتأكيد في مخيلتكم الآن العديد من هذه النصوص ونقائضها. إن كبت العواطف المستمر من قبل الشخصية الدينية سيدعها تسيّر الإنسان لتجعل حياته مأساة متواصلة، تفتقر للنضج. عندما يحرر نفسه من القوالب الجامدة المتمثلة بالنصوص الدينية عندها سيتمكن من أن يكون ذاته وسيتمكن من أن يكبر وأن ينمو. وإذا كانت المتدين يرفض أن يتحرر وأن ينمو نحو آفاق جديدة، فهذا قانون مريح وهذا أسهل شيء يمكن لإنسان أن يفعله، لكنه سيبقى رهينة خديعة مضللة كبرى.
الايميل: sami198420@hotmail.com