بيث زالين(سوريا) – مطاكستا ++ تأسست الجمهورية التركية عام 1923 على يد مصطفى كمال أتاتورك على أنقاض السلطنة العثمانية. وجاء تأسيسها بعد الحرب العالمية الأولى التي قطعت أوصال السلطنة إلى دول عديدة. وبعد حروب مع جيوش الحلفاء جرت على الأراضي التركية, قادت لقيام الجمهورية التركية الجديدة التي اعتمدت أساساً على العنصر التركي, بعد أن تم تطهير واستئصال المسيحيين (أرمن – كلدان سريان آشوريين – يونان) في جريمة الإبادة الجماعية (السيفو) عام 1915 على يد الاتحاديين, وتهجير من تبقى منهم إلى دول الجوار. ولم يتوقف التمييز ضد المسيحيين في ظل الجمهورية التركية, بل استمر تهجير المسيحيين بدءاً من تبادل السكان الذي حصل عام 1923 مع اليونان, وصولاً إلى التنكيل الذي تعرض له اليونانيون والمسيحيون عامة في عدة محطات نذكر منها عام 1955 و 1964, وتصاعده بعد عام 1980 إثر الحرب التي دارت بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني, الذي أدى إلى هجرة وتهجير معظم أبناء شعبنا الكلداني السرياني الآشوري في منطقة طور عبدين.
تعترف تركيا بثلاث مجموعات فقط وتعتبرهم /أقليات غير مسلمة/ وهم اليونانيون واليهود والأرمن التي ورد ذكرها في معاهدة لوزان التي تحدثت عن أقليات وليس عن شعوب وقوميات, ولا تعترف بالأقليات الأخرى (غير المسلمة) مثل البلغار, والآشوريين (السريان) الذين كانوا يعيشون في البلاد أيضاً إبان إبرام المعاهدة.
لقد قام مصطفى كمال أتاتورك بثورة ثقافية واجتماعية في تركيا, فقد ألغى الخلافة الإسلامية, وتبنى العلمانية, وفرض قيم ومظاهر الحداثة الغربية من حيث الملبس ومنع الحجاب, وتقييد دور المؤسسات الدينية, واستبدال الأحرف العربية بالأحرف اللاتينية, وجعل تركيا جزءاً من المنظومة الغربية سياسياً وعسكرياً, بما يشبه نوعاً من القطيعة مع ماضي تركيا ومع محيطها الإقليمي.
غير أن العلمانية الأتاتوركية شابتها الكثير من العيوب, فقد قامت على أساس التداخل والتشابك الوثيق مع القومية التركية, ولم تؤمن بحقوق الأقليات والقوميات الأخرى, ولم تعترف بوجودها, بل سعت إلى تجريدها من أبسط حقوقها, وإذابتها قسراً في القومية التركية, وجاءت حملات التتريك الواسعة لأسماء المدن والقرى والناس ضمن هذا السياق. وتعاني الأقليات المسيحية (وهي شعوب أصلية) في تركيا من تمييز وظلم مضاعفين. فالمسيحي لا يجوز له التدرج في المراتب العسكرية حتى ولو كان من حملة الدكتوراه, وفي هذا انتقاص وطعن في مواطنيته. ولا يحق له فتح مدارسه الخاصة وتعليم لغته والتحدث بها. ويحرم عليه الحديث في جريمة الإبادة الجماعية (قضية القس يوسف اكبولوت مثال على ذلك).
وأكثر من ذلك فإن الدولة التركية تعاقب مواطنيها المسيحيين وتضيق على مؤسساتهم ومراكزهم الدينية عندما تثار قضية المذابح من قبل جالياتهم المهاجرة, في محاولة لردع وإسكات المقيمين والمهاجرين عن إثارة الموضوع (قضية محاكمات دير ماركبرئيل مثالاً). ويلاحق قانونياً كل من يطالب بحقوق الأقليات, وذلك بالاعتماد على المادة رقم /301/ من قانون العقوبات التركي بتهمة المس والقذف بالقومية التركية, ومازالت هناك قوانين تعاقب على النشاط السياسي السلمي وعلى التعبير عن الرأي. ولقد لخص البطريرك المسكوني الأرثوذكسي برتلماوس أوضاع الأقليات المسيحية في تركيا بإيجاز معبر ومكثف عندما قال: (أشعر بأني مصلوب في بلدي, وبأني أعامل كمواطن درجة ثانية).
لقد سلكت الحكومات التركية المتعاقبة هذا النهج تجاه القوميات بشكل عام والأقليات المسيحية بشكل خاص, وأظهرت الكثير من التشدد حيال موضوع الإبادة الجماعية الذي أضحى من المحرمات في الحياة السياسية التركية التي يحظر تناولها. غير أن جدار التحريم أخذ بالتداعي مؤخراً بسبب الضغوط السياسية والدبلوماسية الدولية التي حركتها الجاليات الأرمنية والآشورية (السريانية) لدفع الحكومة التركية للاعتراف بهذه الجريمة, وبسبب جرأة وشجاعة قسم من المثقفين والأكاديميين والناشطين الأتراك, ومراعاة لشروط الانضمام إلى الاتحاد الأوربي حيث تبدي تركيا رغبة جارفة في الوصول إلى هذه الغاية.
وعلى الرغم من أن الدستور التركي لا يشير إلى وجود قوميات أخرى غير القومية التركية فإن الحكومة التركية برئاسة حزب العدالة والتنمية ذي الخلفية الإسلامية, اتخذت مؤخراً بعض الخطوات الخجولة للانفتاح على الداخل التركي, تمثلت بإطلاق مبادرة الانفتاح الديمقراطي, وإشاعة الديمقراطية في مختلف المجالات, مستهدفة بشكل رئيسي إيجاد حل للمشكلة الكردية، وتشمل الخطة إزالة القيود على استعمال اللغة الكردية (طبقت عملياً ببث برامج باللغة الكردية في التلفزيون الرسمي) وإنشاء لجنة لمكافحة التمييز واستعادة أسماء القرى الكردية السابقة إضافة إلى إنشاء هيئة مستقلة للتعامل مع شكاوى التعذيب المقدمة ضد قوات الأمن وغير ذلك من الإجراءات التي تعثرت وتوقفت مع حلّ حزب المجتمع الديمقراطي الكردي (الذراع السياسي لحزب العمال الكردستاني) وتجدد الاشتباكات العسكرية مع PKK. ومع أن هذه المبادرة لم تسمّ شعبنا بالاسم, ولكن مفاعيلها الإيجابية لن تستثنيه بلا شك, فيما لو طبقت بشكل صحيح وشامل. وأوحت بعض الإجراءات الصغيرة بحدوث تبدل ما في التعاطي مع الأقليات, تجلت بتكرار لقاء المسؤولين مع القيادات الكنسية المسيحية, وتخفيف بعض القيود على ممارسة شيء من الحريات الدينية التي شهدت تحسناً طفيفاً في الآونة الأخيرة, إضافة لإظهار شيء من التساهل تجاه إصدار مجلات باللغة السريانية وإنشاء بعض الأندية الثقافية والاجتماعية. وهذه الخطوات على أهميتها ظلت محدودة ولم تلامس الجوهر ولم ترتق إلى مستوى الطموح, كونها افتقرت إلى التأطير القانوني والدستوري.
ولتأمين متطلبات الصعود الإقليمي وتعزيز مكانتها في الشرق الأوسط, اعتمدت الحكومة التركية الحالية دبلوماسية تصفير النزاعات والمشاكل مع دول المحيط, وحققت اختراقات هامة في هذا المجال مع عدد من الدول ومنها سوريا وإيران واليونان. لكن الخطوة الأهم تمثلت في سعيها لتطبيع العلاقات مع أرمينيا, وتوقيع اتفاقات تاريخية بين البلدين في سويسرا وحظيت بدعم وتأييد دولي واسع, بيد أن هذه الاتفاقات لم يصادق عليها برلمانا البلدين بسبب صعوبات ناجمة عن ربط تركيا المصادقة بانسحاب الجيش الأرمني من إقليم ناغورني كرباخ, وإصرار أرمينيا على اعتراف تركيا بجريمة الإبادة. وبموجب سياسة الانفتاح التي اتبعتها تركيا والمتسمة بقدر كبير من المرونة والدينامية, قامت تركيا بلعب أدوار وساطة بين سوريا وإسرائيل, ودافعت عن حقوق الفلسطينيين, وتبنت قضية فك الحصار عن غزة, ما ورطها في مواجهة مع حليفتها إسرائيل تجلت في قضية أسطول الحرية. والمفارقة أن الحكومة التركية افتقدت إلى الحماسة والجرأة في معالجة مشاكلها الداخلية المتراكمة, ولم تتعامل معها بنفس الانفتاح والمرونة التي تعاطت فيها مع دول الجوار.
تشكل مسألة الانضمام إلى الاتحاد الأوربي هدفاً مركزياً واستراتيجياً في ذهن وتفكير النخب السياسية التركية على مختلف توجهاتها السياسية، والتي سعت بكل قواها لدخول النادي الأوربي, لكن دون أن تنجح في تلبية شروط ومعايير الاتحاد الأوربي وخاصة في مجال حقوق الإنسان وحقوق الأقليات بسبب بطء الإصلاحات نتيجة هيمنة تقاليد تتحكم بها ذهنية سلطوية ارتبطت تاريخياً بالمؤسسة العسكرية التي تحظى بمكانة رفيعة وفريدة في الدولة التركية. خولتها القيام بأدوار مؤثرة على الصعيد السياسي والاجتماعي, تتجاوز مهمة الدفاع عن الدولة وفرض الأمن والاستقرار, إلى النهوض بدور حامي النظام الاجتماعي الذي يسهر على المحافظة على قيم ومبادئ العلمانية الأتاتوركية.
وفي محاولة للاقتراب من معايير الاتحاد الأوربي أجرت الحكومة التركية استفتاءاً عاماً بتاريخ 12/9/2010, تمحور حول إجراء تعديلات دستورية, لقطع أذرع الدولة الخفية في تركيا, وتحرير الحياة السياسية من وصاية الجيش, ونجح الاستفتاء في تحقيق أهدافه عبر إدخال تعديلات دستورية استهدفت إصلاح مجلس الأمن القومي ومجلس القضاء الأعلى والمحكمة الدستورية العليا التي شكلت أدوات الهيمنة العسكرية والقانونية للجيش في فرض سطوته على الحياة السياسية في تركيا. ولم تتطرق التعديلات لحقوق الأقليات القومية في تركيا بسبب عدم توفر الظرف الملائم لطرح مثل هذه التعديلات نتيجة لتضخم النزعة القومية التركية المتعصبة تجاه كل ما هو غير تركي. وهذا يشير بوضوح إلى أن الدولة التركية بالرغم من تطورها, وبالرغم من تقدمها ونمو مكانتها الإقليمية والدولية, فإنها مازالت تعاني من التوتر والقلق, ولم تبلغ مرحلة النضج السياسي المطلوب, ولا الثقة الكافية بالنفس التي تؤهلها للتصالح مع شعوبها, ومواجهة حقيقة الإبادة الجماعية التي تعرض لها شعبنا مع الأرمن واليونانيين, وبما يسمح بطي هذا الملف المأساوي وتطهير تاريخها ونفسها من هذه الجريمة التي تلاحقها من الناحيتين القانونية والسياسية.
إن تركيا المتوجهة نحو الديمقراطية والعلمانية المنفتحة والمتحررة من قيود الأتاتوركية ومن الأحادية القومية التركية, بلا شك ستلقى كل الترحيب والتقدير من شعبنا ومن شعوب المنطقة, عندما تبادر إلى الإقرار بالحقوق القومية الطبيعية والمشروعة لشعوبها, وهذا سيزيد من رسوخ دورها ومكانتها. وإن كان هذا يصب في صلب الممارسة الديمقراطية, لكنه لا يشكل بديلاً عن الاعتراف بجريمة الإبادة الجماعية (السيفو). لما لهذا الموضوع من أهمية في وجدان وذاكرة شعبنا, ولارتباطه العميق بوجوده ومستقبله. والمطالبة به لا ترتبط بكوننا شعب صغير لا يلتفت أحداً لمعاناته, بل يتعلق بحق قانوني وسياسي لا يموت بالتقادم, حق أقرته المعاهدات والمواثيق الدولية, ويملي علينا واجباً إنسانياً وأخلاقياً لا يمكن التنازل عنه أو المساومة عليه تحت أي شرط, وينبغي علينا متابعته بكل ما نملك من قوة وإمكانات وعبر تكثيف النشاط السياسي والدبلوماسي, حتى تصبح تركيا مؤهلة للاعتراف بهذه الجريمة والاعتذار عنها, وبقناعتنا فإن هذا لن يهز شرعيتها كدولة بل سيقويها.
وعليه فإنه ينبغي على قوانا ومؤسساتنا الفصل التام بين ما يتحقق من إنجازات ديمقراطية, على صعيد الوصول إلى حقوقنا القومية المشروعة ضمن الدولة التركية, وبين جريمة الإبادة الجماعية. من هنا فإننا نؤكد على كل المطالب الواردة في البرنامج السياسي بما يخص تركيا.
المنظمة الآثورية الديمقراطية
اللجنة المركزية