بيث زالين(سوريا) – عنكاوا كوم/ خاص ++ تشكل الهجرة إلى الغرب هاجساً وإحدى طرق البحث عن "الفردوس المفقود" لدى شرائح واسعة من شباب محافظة الحسكة السورية وخاصة مدينة القامشلي التي تتميز حتى الآن بسيادة مفاهيم الترابط الأسري والعائلي كما لا تقتصر فكرة الهجرة على فئة اجتماعية محددة فقد يكون المهاجر ذو تحصيل علمي أو عاملاً أو ما بين بين مما يفتح الباب على كثير من الأسئلة عن أسباب هذه الظاهرة.
يقول فادي يعقوب (29 عاماً، تقني كومبيوتر) أحد الراغبين بالهجرة "لم تسعفني ظروفي لمتابعة الدراسة، فاضطررت للتنقل من حرفة إلى أخرى. واعمل مبدئياً بأجر رمزي لأتعلم صيانة الكومبيوتر وبرمجته.. ولا أعتقد أنه حتى لو أصبحت صاحب محل سأجني مالاً يضمن لي حياة كريمة وخاصة في حال الزواج وتكوين أسرة في المستقبل". ما زالت سوريا تعاني من البطالة والفقر وضعف المنافسة والفساد. كما لا تزال خاضعة لعقوبات تفرضها الولايات المتحدة لمواقفها السياسية، ويقول محللون إذا لم تتغير الأمور، فإنه لن يكون هناك أمل يذكر لزيادة مدخول سكان البلاد الذين يشكل الفقراء غالبيتهم الساحقة، ويزداد عددهم بمعدل 2.5 بالمائة سنوياً. وأظهرت دراسة شملت ستة آلاف شاب وشابة من جميع المحافظات أعدتها هيئة تخطيط الدولة والهيئة السورية لشؤون الأسرة وصندوق الأمم المتحدة للسكان لدعم الإستراتيجية الوطنية للشباب في سوريا أن أكثر من نصف الشباب لا يفكرون في المرحلة الراهنة بالزواج إما بسبب السن أو بسبب ضغط العامل المادي، أما الذين يفكرون بالزواج، فلديهم صعوبات أهمها عدم وجود مسكن، وارتفاع تكاليف الزواج.
ويتابع فادي قائلاً "اعتقد أن الأوضاع الاقتصادية السيئة والبطالة هي ما تدفع الشباب للتفكير والسعي إلى الهجرة. وفي حال حصولي على دخل شهري مناسب في بلدي، فلن أفكر أبداً بالسفر والغربة ومصاعبهما. كما أن موجات الغلاء المتتالية في السوق تجعل الراتب وبشكل خاص رواتب القطاع الخاص هزيلة أمام الارتفاع الناري للأسعار في السوق". والرقم الرسمي المعلن لمعدل البطالة في سوريا هو 10 في المائة لكن تقديرات مستقلة تضع المعدل عند 25 في المائة بينما يبلغ متوسط الأجور الرسمي 240 دولاراً في الشهر.
وقال مسؤول في اتحاد الفلاحين المدعوم من الحكومة العام 2010، إن مستويات الفقر في المناطق الزراعية بشرق سوريا – ومحافظة الحسكة إحدى تلك المناطق – تبلغ 80 بالمائة حيث يعيش معظم الناس في تلك المنطقة على بضعة دولارات في اليوم. وتشكل قوة العمل في القطاع الزراعي إنتاجاً، وتسويقاً، وخدمة نحو 60 في المائة من أبناء محافظة الحسكة، ومن ضمنها القامشلي كبرى مدنها. وقال فادي "لا أعتقد أن جميع الشباب الذين هاجروا إلى أوروبا طلباً للرزق هم في حال جيدة أو راضون عن أحوالهم هناك".
وتشير الوقائع إلى أن الكثير من الشباب المهاجر يعمل في مجالات أو أعمال لا تناسب تحصيله العلمي في بلده الأم سوريا، كأن يعمل مهندس أو حتى طبيب في مجال الخدمات في إحدى دول المهجر. وتابع فادي قائلاً "وقد يكون بعض الذين هاجروا يدركون سلفاً أن الهجرة لن تصلح من أحوالهم كثيراً إلا أنهم يدركون سلفاً أيضاً أن مستقبل أولادهم سيكون مضموناً هناك". وذلك في إشارة إلى الإعانات التي توفرها تلك الدول على شكل رواتب شهرية للمهاجرين وأولادهم عدا الضمان الصحي والاجتماعي المقدم لهم. وأضاف فادي قائلاً "أصبح التوظيف في القطاع العام في السنوات الأخيرة شبه حلم، لذلك يضطر البعض للجوء إلى القطاع الخاص الذي في أفضل الأحوال تكون رواتبه هزيلة ولا تؤمن حياة كريمة.. ولكن القطاع الخاص يحاول الحصول على أعلى نسبة من الاستفادة مقابل أدنى أجر.. ويكون الموظف عرضة للطرد دون تعويض في كثير من الأحيان".
وتشير تقارير إعلامية إلى أن معظم العاملين في القطاع الخاص لا يتم تسجيلهم بالتأمينات الاجتماعية، كما أن متوسط رواتبهم لا يتجاوز 6 آلاف ليرة (نحو 130 دولارات)، ويتعرضون إلى استغلال من قبل أرباب العمل كإلزامهم بالتوقيع على ورقة استقالة قبل المباشرة بالعمل أو ساعات العمل الطويلة المخالفة لقوانين العمل الدولية والسورية. ويتذكر فادي قائلاً "عملت لفترة في أحد معامل القطاع الخاص بالقامشلي، وكنت أحصل على راتب شهري قدره 6 آلاف ليرة مقابل 8 ساعات عمل، وبدل إعطاء العامل أجراً مضاعفاً مقابل ساعات العمل الإضافية كما هو متعارف عليه كانوا يعطونه نفس أجر ساعة العمل العادية.. وفي حال عدم موافقة العامل على العمل لساعات إضافية لمرة أو مرتين كانوا لا يترددون في طرده وبكل بساطة".
ويقول جورج عيسى (21 عاماً) أحد الجامعيين الراغبين بالهجرة إن "أولى الصدمات للطلاب هي معدلات القبول العالية، فالآلاف من الشباب السوري بقي خارج جدران الجامعة بسبب سياسة الاستيعاب في الجامعات الرسمية، والتكاليف الباهظة في الجامعات الخاصة". وسجلت معدلات القبول في كليات الطب بالجامعات الحكومية للعام الدراسي أرقاماً خيالية وصلت إلى 236 من أصل 240 علامة أي ما نسبته 98 في المائة. وأما الجامعات الخاصة، فترتضي بعلامات أقل لكن بتكلفة قد تصل لنحو 600 ألف ليرة (نحو 13 آلاف دولار) سنوياً.
وتابع جورج قائلاً "كوني جامعي (طالب في كلية تجارة واقتصاد حكومية) أتعرض إلى عدة أنواع من المشكلات.. أولها خلال سنوات الجامعة نفسها بدءاً من رفع علامة نجاح المادة قبل ثلاثة سنوات من 48 إلى 60 في المائة، وهذا ما يفسر ازدياد نسبة الراسبين في الجامعات الرسمية". وأوضح جورج قائلاً "أضف إلى ذلك آلية تصحيح مقرراتنا خلال سنوات الدراسة، وتحويل أسئلة الامتحانات من النموذج المؤتمت (الأمريكي) إلى النموذج التحريري (الفرنسي)، وعدم ثقة أغلب الطلاب في نتائج التصحيح، وأعلل رفع علامة النجاح من 48 إلى 60 في المائة إلى قرار رسمي بسبب الأعباء التي تتكبدها الحكومة مع هؤلاء الخريجين، فعمدت إلى رفع علامة النجاح، وبالتالي تخفيض أعداد المتخرجين العاطلين عن العمل كنوع من الحل".
وقال جورج "هناك أيضاً نقطة أخرى هي كيفية الحصول على وظيفة للمتخرجين، إذ أن الحكومة كفت يدها عن توظيفهم… وقد تطول هذه المدة لتصل إلى عدة سنوات قبل الحصول على وظيفة مناسبة.. وتبدأ حينها المشكلة مع الراتب القليل بحدود 8 أو 9 آلاف ليرة (أقل من 200 دولار)، ولا أعتقد أنه مبلغ يكفل حياة كريمة لخريج جامعي". ويظهر ذلك جلياً في أعداد المتقدمين لمسابقات التوظيف الحكومية، ففي إحداها – وتمت قبل سنتين – كان المطلوب 200 خريج جامعي، إلا أنه تقدم نحو 7 آلاف. وأنهى جورج حديثه قائلاً "وبعد اجتياز كل هذه المعيقات بسلام سيكون عمر الطالب أقل من 30 عاماً بقليل، ولا أمل في التفكير بالمستقبل كالزواج أو شراء منزل خاص أو أو.. مع راتب هزيل لا يزيد عن 10 آلاف ليرة.. ومجرد التفكير في هذه المعيقات كفيل بدفعي نحو الهجرة".
ويؤكد سنحريب أيليا (26 عاماً) طبيب أسنان متخرج حديثاً، ويستعد للسفر إلى إحدى دول أوروبا الغربية، أن "سبب سفري هو لمتابعة التحصيل العلمي (بقصد التخصص) لأن فرص الاختصاص في سوريا بالنسبة إلى فرعي (طب الأسنان) قليلة.. قد أكون مفيداً للمجتمع أكثر كطبيب مختص.. والموضوع بالنسبة لي ليس حلم هجرة". وفي حين يؤكد، أغلب الخريجين المهاجرين إلى الغرب بقصد إكمال الدراسة، على عودتهم بعد إنهاء تحصيلهم العلمي، ولكن الوقائع تشير إلى عكس ذلك تماماً كحالة مألوفة وطبيعية لدى أبناء المنطقة.
ويقول الأستاذ كبرئيل موشي رئيس المكتب السياسي للمنظمة الآثورية الديمقراطية "لا تقتصر فكرة الهجرة إلى الغرب على شباب القامشلي أو منطقة الجزيرة إنما على نسبة كبيرة من الشباب السوري.. وأسبابها بالدرجة الأولى اقتصادية ترتبط بانسداد آفاق العمل والدراسة والتطلع إلى مستقبل أفضل في الغرب حيث يحظى الإنسان بفرص قد تكون متكافئة وخصوصاً أن أحوال العائلات القادمة من المهجر يبدو عليها تمدن كبير مقارنة مع الفترات القصيرة التي أمضوها هناك ما يغري الكثير من الشباب للهجرة كطريق وحيد لحل مشاكلهم". وتابع "موشي" قائلاً "ما يزيد من تفاقم المشكلة فيما يخص العمل هو انعدام الفرص المتكافئة وانتشار المحسوبية، وتفشي الفساد وكلها معوقات تحول دون توفر فرص للعمل أمام الشباب في مرحلة من المفترض أن يؤسسوا فيها مستقبلهم. بالإضافة إلى ضبابية وغموض المستقبل والخوف منه في ظل البطالة المتفاقمة، وتضاءل فرص العمل، وزيادة تكاليف الحياة الباهظة التي لا تتناسب مطلقاً مع المداخيل، بالإضافة إلى… الإحساس بالتهميش وانعدام الاستقرار في دول الجوار التي لها انعكاسات سلبية على مجتمعنا وتنامي المظاهر والنزعات الأصولية والسلفية وكل أشكال التعصب ما يدفع الكثير من الأسر أو الشباب إلى الهجرة".
وأشار "موشي" إلى ضرورة قيام الحكومة ببعض الإجراءات التي من شأنها أن تعزز الاندماج المجتمعي مثل السماح بإنشاء الجمعيات والنوادي ومراعاة الخصوصية الثقافية كنوع من "التمييز الايجابي" التي من شأنها أن تزيد الارتباط بالوطن. وتجمع أغلب الدراسات المتعلقة بموضوع الهجرة في مختلف مناطق العالم على أن عدم الإحساس بالأمان وحالة القلق العامة التي هي انعكاس لظروف سياسية واقتصادية بحتة بالإضافة إلى الغزو الثقافي من خلال الإعلام الغربي الموجه وسطوته هي السبب الجوهري للهجرة المتفشية في البلدان الطرفية، ودائماً جهة السفر هي إلى المركز أي الغرب بما يعنيه من فردية تحرر الإنسان من سطوة الكبت في المجالات المختلفة، ليعيش أغلبهم حالة اغتراب ثانية هي الاغتراب الروحي حيث نمط جديد من التفكير ومنظومة أخرى من القيم، وذوبان ضمن الوسط الجديد، وضياع الهوية الثقافية بعد أن هيمنت على الفرد فكرة "السوبرمان" الغربي القادر على توفير كل حاجات الإنسان بمجرد أن تطأ قدماه أحد المطارات الغربية أو شواطئها، وذلك كرد فعل على واقع مر في العالم الآخر الذي يسمى تجاوزا بالعالم الثالث.