++ وكأنه حُكِمَ على شرقنا الحزين أن يظل متدثراً بحزنه الأزلي إلى أجل غير مسمى، وتظل شعوبه المغلوبة على أمرها مستسلمة لقدرها المحتوم. هذه الشعوب المحكومة بأنظمة جائرة متسلطة لا تسمع إلا صوت غنائها السمج وطبول مدَّاحيها اللامنقطع عند كل حركة أو إيماءة منظورة أو غير منظورة من أحد أئمة الحكم أو من يولونه أمر سَوق القطيع إلى حيث يشتهون.
أمام هذه الحال المزردية لأوطان ينتظرها المستقبل بكل ما يحمله من آمال وتطلعات للشعوب الطامحة إلى الحياة، لابد من بروز حالة من التململ والرفض في هذه المجتمعات في منطقة الشرق الأوسط التي لم يعد بإمكانها العيش معزولة عن العالم المتحضر مع ما يعنيه من أفكار ومتغيرات على كل صعيد. وهكذا تتجسد إمكانية صراع داخلي محتوم ولا يخلو من العنف في كل مجتمع بين تيارين أحدهما يتطلع إلى الأمام، والثاني يقاوم للاحتفاظ بما يمكن الاحتفاظ به من موروثه القديم حتى وإن لم يعد يتواكب مع العصر. ومن خلال التعاطي غير المتسامح والعنيف من قبل من يملك القوة والسلطة والقدرة مع المخالفين، يتم هنا نقل جدار برلين إلى الشرق الأوسط. ذلك الجدار الذي تداعى في نفوس وقلوب الأوربيين الشرقيين عموماً، والألمان بصورة خاصة سنين طويلة قبل أن تبدأ أول مطرقة وتتجرأ لتطيح بقطعة من إسمنته الجامد الذي تمكن من فصل أحياء المدينة عن بعضها قرابة نصف قرن، دون أن يتمكن من فصل الهواء والقلوب من التواصل والتأثر والتأثير.
هذا الجدار قد تم نقله الآن بكل رمزيته المثقلة بذكريات ومواقف رفضتها الحياة قبل أن يرفضها الناس، وأعيد نصبه في كل مدينة وحي وشارع وبيت في الشرق الأوسط، بل وحتى بين أفراد العائلة الواحدة. وليس الجدار الإسرائيلي أو البغدادي الأمثلة الوحيدة التي نشاهدها، وإن كانت الوحيدة المتجسدة مادياً للعين المجردة. فكم من الجدران الفكرية والسياسية أقيمت بين شعوب المنطقة بتسمياتها وانتماءاتها المختلفة القومية والدينية والطائفية والعرقية. وما يزيد من صلابة تلك الجدران ويرفعها ويرسخ دعائمها في تربة هذه المجتمعات هو دخول الأنظمة على الخط ومحاولتها تجيير هذه التقاسمات والاصطفافات لغاياتها السلطوية، إن لم تكن هي التي خلقتها وزادت من وتيرتها، للتلاعب بمقدرات الشعوب أطول مدة ممكنة. وذلك بعدما بنت حول نفسها جبالاً من الجدران التي تعزلها عن شعوبها. وحين تتعارض مصالح أنظمة معينة مع غيرها من الأنظمة، تنشأ اصطفافات جديدة على مستوى الدول هذه المرة، وتتعالى جدران الفصل السياسي، الطائفي، المقاوم، الممانع، المتطرف، المعتدل أو المتخاذل، كل بحسب التسمية التي تروق له، وتتناسب مع توجهاته وميوله. وهذا ما يقوي هذه الجدران ويرسخها أكثر. إذ أن مجرد التوافق على تسمية الجدار تشكل إشكالية عويصة بحد ذاتها، وغير قابلة للحل. فكيف يكون الحال عند الحديث عن ضرورة إزالة تلك الجدران وفتح جميع البوابات والحدود لتعاطي شعوب المنطقة مع بعضها دون أية معوقات مصطنعة، من أجل الحياة والمستقبل؟
نعتقد ونؤكد على اعتقادنا الراسخ بأن إسرائيل دولة عنصرية، احتلت أرضاً وشردت شعباً. ومن هذا المنطلق يمكن فهم بنائها للجدار العنصري المشؤوم، دون أن يعني ذلك تبرير هذا العمل بأي شكل من الأشكال. ولكن وفق أي منطق أو مبرر تقام كل هذه الحواجز والجدران بين شعوب المنطلقة للفصل المتعمد بينها؟ بل وفق أي منطق أو تبرير تقام كل تلك الحواجز والجدران بين أبناء الوطن الواحد والشعب الواحد لمجرد اختلاف أبناءه باللغة أو الانتماء القومي أو الرؤية السياسية أو الموقف الإيديولوجي؟ ما الذي يضير الوطن السوري مثلاً أن يتحدث بعض أبنائه بلغتهم الأم كالسريانية أو الكردية. وأن تحظى من السلطات ببعض الاهتمام التي تحظى به اللغة العربية؟ والحال ذاته مع الأقباط في مصر والقوميات المتنوعة في السودان، والبربر في دول شمال إفريقيا وهذه كلها لغات أصيلة في المنطقة لا تقل عن العربية قدماً وأصالة إن لم تتقدم عليها بعهود طويلة.
الأمر ذاته ينطبق على الأفكار السياسية والتيارات الفكرية المختلفة، من الماركسي إلى الليبرالي إلى القومي إلى المتدين، كلها تبقى ظواهر جداً طبيعية في أي مجتمع إن تم التعامل معها من هذا المنطلق. أما إذا كان القمع والكبت والتمييز،كما هو حاصل الآن، هو السبيل الوحيد للتعامل، فلا بد حينذاك من ولادة المشكلة التي لايمكن حلها بتدعيم الجدران الفاصلة، وإنما بإزالتها.
وإذا تجاوزنا الحدود الوطنية، لندخل فضاء الشرق الأوسط عموماً، سنجد أن الأمور لا تختلف كثيراً عن الحالة في الوطن الواحد باستثناء أن الجدران تقام هنا بين الأنظمة والحكومات التي تسعى جاهدة لإدخال شعوبها في قلب هذا الصراع فتدعم هذا وتعادي ذاك. والأمثلة أكثر من أن تعد وتحصى، في حين أن الشعوب إما أن تجد نفسها منساقة وراء سياسات حكوماتها بلا وعي ولا إرادة ولا مصلحة، وإما أن تتجاهل كل هذا الضجيج معتبرة نفسها غير معنية بما يدور حولها. وفي الحالتين تبقى هذه الشعوب فاقدة لإرادة الفعل البناء، على المستوى الذاتي كما على المستوى الإقليمي.
جدار برلين يبنى ويتدعم في الشرق الأوسط بقوى فاعلة ونشطة وتملك كل الإمكانات اللازمة لعملها. وفي الوقت ذاته هناك من يبحث عن أداة ليحطم بها هذا الجدار. فهل تستفيق الشعوب المعنية لتكون تلك الأداة؟
7 تشرين الأول 2009