مقدمة:
لكل إنسان أسلوب خاص في التعامل مع الواقع.. وفي رؤيته للأشياء من حوله.. شيء يبدأ منذ الطفولة الأولى التي تترك بصماتها الواضحة على نفسيته وطريقة تفكيره وتعايشه مع غيره في المجتمع.. هذا النوع ينعكس على أفكاره.. وعلى طريقة تصوره للأشياء.. على أحلامه ومخيلته.. هذا الإنسان بشكل عام.. فكيف لو كان هذا الإنسان قد أخذ يمشي بخطوات واثقة في طريق الكتابة والأدب.. هذه الخطوات التي تعكس لنا نفسية هذا الكاتب أو عقلية ذاك الأديب.. وهذا كاتب من أبناء شعبنا أخذ يتطلع إلى من حوله من الناس فيراهم كتلة من الأحزان والكآبة.. إن هذه النظرة السوداوية تكاد تصبغ أكثر أعمال هذا الكاتب الشاب إلا أنها تترك خطاً رمادياً فاتحاً من الأمل لكي لا يغلق كل الفجوات..
أنه كاتب أحس بمرارة الواقع وجدية الموقف.. فكتب مجموعة من القصص الواقعية القصيرة جمعها في كتاب تحت عنوان: (طفلة من الشرق).. هذه الطفلة التي أخذت تحبو.. تصرخ.. تبكي.. تقرع أبواب الذاكرة ولا تدخل..
إنه باكورة إنتاج الكاتب الذي أخذ يشق طريقه بقوة وتصميم إلى الأمام وهو واثق أنه يمتلك الإرادة الصلبة ليقدم لنا المزيد من مثل هذه الأعمال.. أنه الكاتب اسكندر شمعون.
وأخيراً نقدم هذه القصة القصيرة لقراء أثـرا مأخوذة من مجموعته:
لك أيتها الطفلة البريئة لأنك ولدت في الشرق؟!..
أي شرق هذا الذي تفتخرين بالانتماء له، إنه هو.. هو الذي حولك من ناطقة بالحروف الهجائية إلى ناطقة بالحروف الببغائية، تقلدين ما تسمعين: (ددد.. مم ما.. آنا.. آبا.. هييييه.. أكا..) تعبرين عن نفسك بأصوات تصويرية كان جدك الأكبر يستخدمها حين ترك الصيد والتقاط الحبوب منذ آلاف السنين وبنى المدن فوق هذه الأرض التي كانت مهداً لأقدم حضارة في تاريخ البشرية. أساؤوا إليك قبل أن تتعلمي القراءة، هل تعرفين أن جدك الأوسط قد وضع الكتابة المسمارية وطورها أبناؤه إلى حروف أبجدية؟.
انظري إلى تلك الصور.. إنها بقايا القلاع الضخمة والحصون المنيعة التي شيدتها سلالة جدك الأصغر. أما جدك الحفيد فقد فتح المدارس وجلب أمهات الكتب.
حاولنا الكثير من أجلك.. حتى العاملين في المشفى لم يعتنوا بك عندما مرضت في القامشلي سنة 1987 لأن الفوضى غزت عقولهم، وعدم احترام المسؤولية انتشر في نفوس المسؤولين. جهوده مشكورة طبيب هتف للأطباء وسأل الصيادلة. عشيرة بكاملها تعلن الاستنفار لتغزو إحدى الدول المجاورة، المتوفر فيها دواء لينقذك من مرض التهاب السحايا.
شرحنا وضعك لمدير المشفى فرد بخمول كاد أن يسقط أنفه من برجه العاجي:(ماذا تريدون مني أن افعل لمئات الأطفال الذين يمرضون فيموتون، أصبحت الحالة عندي روتينية، قال لي وزير الصحة: إن هذا الدواء مفقود).
ـ لكننا اشترينا بعض العلب بأضعاف سعرها النظامي.
ـ إذن لا توجد هناك مشكلة اشتروا ثانية رغم أنه مفقود، اشتروا مائة.. ألف.. انصرفوا الآن واتركوني مسترخياً لأنني مدعو بعد قليل إلى مائدة وجهاء البلد الرسميين وغير الرسميين.
كانت قبضة أضخم شاب في العائلة تهوي على طاولته الزجاجية، وقف المدير بسرعة وتشنج أسرع، وسقط مغمياً فوق كرسيه الدوار، أسعف إلى العناية المشددة، والشاب اعتقله شرطي المشفى.
كل هذه الإجراءات وكنت تحصلين على ربع الكمية الدوائية المطلوبة لعلاجك. والنتيجة بعد تصويرك (طبقي محوري) كانت ضموراً في دماغك.
لماذا تبكين..؟ ألست راضية على هذه الأرض المقدسة التي أعطت أرقى مدنية في العالم القديم والحديث، وانتشرت في جميع أنحاء العالم.
لا تبكي.. الاحتجاج بالبكاء لا يفيدك، أجمل ما فيك عندما تمسحين دموعك، وتتوقفين صامتة، تحدقين بنظرة جانبية إلى المغنية اورنينا وتدخلين في صورتها، تعزفين أناشيد أزلية مثل أميرة نهرية. وعندما تلامس أصابعك الذهبية أوتار قيثارتك العجائبية تحيا الألواح الطينية ويخرج كلكامش وأنكيدو وعشتار من الأسطورة ليشهدوا على الجريمة التي وقعت.. تمثال سركون الآكادي يدمرّ قبره الزجاجي في المتاحف العالمية ليرى ما يحدث.. تنهض المدن الأولى ثائرةً تحت خرائب (مدمري الحضارة) ويزورون الطفلة الرافدية المريضة ويقدمون لها نسخة عن الكتابة المسمارية.
ويطلب منهم المشرع حمورابي الاجتماع. وفي افتتاح الجلسة الأولى وبعد مشاورات ومداولات يخرجون برأي حاسم: استخراج جميع سحايا المسببين المباشرين وكل من له علاقة بنسلهم، ويمنع استمرار حياتهم الطبيعية إلا بعد أن يثبتوا صلاحية أفكارهم للحفاظ على مسار أخلاقيات العمل.
أعرف بأنك لا تفهمين ما أقول لكنني أتصور أن العدل يجب أن ينطق بالحقيقة وأحاول تفريغ داخلي المنتفخ بهموم ثقيلة تجاوزت عمري بضعفين.. أقول هذا.. فقط لأبرئ ذمتي مما أنت عليه، سؤال محير أرّقني طوال مرضك: ما ذنبك أنك ولدت في حضن الشرق؟.
ـ قالوا لي: (لو مرضت في إحدى الدول الغربية.. كانت ستشفى من مرضها.. ربما كان لها مستقبل ذو شأن عظيم) لأنك فعلاً كنت ذكية.
ـ ولكنني قلت لهم والثقة تملأ نفسي: (عندما كنا حضاريين ماذا كانوا هم؟).
ـ رد أحدهم: (غجر).
ـ من هم الغجر؟ أين هي تلك الحضارة.. اصح على نفسك وانظر ما يجري حولك.. لا زلت تسلسل أجدادك. واستيقظ من حلمك وعش مثل الآخرين، بدد تلك الحالة التي تتخيلها أنها موجودة حول ماضيك.. وحاضرك، سكن بالإيجار..! الحياة علمتني أن أكون أبن اليوم، ماذا أملك؟ ماذا ألبس؟.. وماذا؟. ستبقى مثل أسطورتك القديمة الناعمة النائمة تحت أتربة وصخور منقوشة لا قيمة لها. لم يرد على زوجته لأنها حزمت أمتعتها لتسافر إلى عند أهلها في حلب. وكان يودع ابنته على طريقته الخاصة.
غياب العائلة ترك فراغاً في البيت، أمضى وقته وحيداً مع تقلبات نفسية وحضور اجتماعي ضعيف. صورة ابنته المعوقة تلاحقه أينما وجد.
ـ وكلما رأى أطفالاً وحتى الكبار الناقصين يلقي عليهم نظرة ملؤها العطف والحنان.
عند المساء جهّز عشاءً خفيفاً أمام التلفزيون وانتبه إلى أن البرنامج عن المعالجة الطبيعية لمرضى الشلل الدماغي والمتخلفين عقلياً. نسي العشاء وراقب البرنامج بعينيه وشرع يعالج ابنته بيديه وذهب به خياله إلى أنها شفيت، وجربها برحلة علاجية إلى الحديقة.. يركضان معاً وراء الحشرات والفراشات حتى انتبه إلى أن البرنامج قد انتهى. فيشاهد آخر عن الطيور في الغابات. صباحاً لم يذهب إلى محله المهني بل إلى قلب المدينة ليتجول قليلاً لأن اليوم هو موعد قدوم العائلة من السفر. يريد أن يشتري لابنته غرضاً مسلياً، يعرف أنها تكسر اللعب وتمزق كل شيء تراه وفي نهاية تجواله حمل هدية اعتبرها مفاجأة قد ترغب بها..
تفحص أنحاء الغرف باحثاً عن مكان لا تصله الأيدي، متردداً أين يضعها. مرّ الوقت دون أن يشعر وإذ بصوت الجرس يرن فانتفض مذعوراً، وضع الهدية على الأرض، تنبأ بأن شيئاً ما قد حصل، قلبه بدأ يخفق خفقاناً غير طبيعي. سارع إلى فتح الباب.. أعصابه انهارت أكثر عندما مدت يدها باتجاهه تريده هو بالذات أن يحملها بدلاً من هذه المرأة السمينة زوجة عمه العاملة في المشفى.. وبيد فقدت توازنها، وإصبع تهتز مؤشرة إلى رأس ابنته الملفوف بشاش طبي وبعض الكدمات في وجهها..
ـ مـ.. ماذا حـ.. صل؟!.
ـ ابنتك كانت مقيمة عندي منذ ساعة وربع لا تزعج كثيراً إنها مسلية.
ـ لم أفهم شيئاً.. و.. وبقية العائلة؟!.
ـ لقد وقع حادث سير للحافلة التي كانت تنقلهم. وتوفيت زوجتك وابنك الصغير مع جماعة كبيرة من الركاب. ونجت ابنتك بطريقة عجيبة لم يتمكن أحد من تفسير ذلك!.
خارت قواه البدنية وفقدت وظيفتها لا شعورياً أنزلها بهدوء ماسحة مقدمته المخدرة. الخبر ضربه كالصاعقة. زرعه مثل فزاعة في الحقول. مداركه المتحولة إلى عقارب ساعة تخبطه بين اللا زمان واللا مكان، هناك محاولة جادة لسحبه من التيه. بعد عدة محاولات هز وتحريك، استيقظ بليداً على صراخ قريب منه، بدأت الحياة تدب فيه عندما شعر بحمل معلق في ثيابه انحنى بطريقة آلية نحو الأسفل وإذ بابنته تطلق أصوات لغتها البدائية بوجهه بعد أن تسلت وعبثت بالهدية. وخرج البلبلان الصغيران من القفص المكسور ليلقيا عليها تحية الشكر على هذا الصنيع الخير ويعلنان بدء يوم المعوقين العالمي بطيرانهما الحر وينثران حولهما لحن الخلود وتقودهما الطفلة ديلما بزقزقة حديثة أدخلت الروح إلى وجدان أبيها المصدوم.
لكل إنسان أسلوب خاص في التعامل مع الواقع.. وفي رؤيته للأشياء من حوله.. شيء يبدأ منذ الطفولة الأولى التي تترك بصماتها الواضحة على نفسيته وطريقة تفكيره وتعايشه مع غيره في المجتمع.. هذا النوع ينعكس على أفكاره.. وعلى طريقة تصوره للأشياء.. على أحلامه ومخيلته.. هذا الإنسان بشكل عام.. فكيف لو كان هذا الإنسان قد أخذ يمشي بخطوات واثقة في طريق الكتابة والأدب.. هذه الخطوات التي تعكس لنا نفسية هذا الكاتب أو عقلية ذاك الأديب.. وهذا كاتب من أبناء شعبنا أخذ يتطلع إلى من حوله من الناس فيراهم كتلة من الأحزان والكآبة.. إن هذه النظرة السوداوية تكاد تصبغ أكثر أعمال هذا الكاتب الشاب إلا أنها تترك خطاً رمادياً فاتحاً من الأمل لكي لا يغلق كل الفجوات..
أنه كاتب أحس بمرارة الواقع وجدية الموقف.. فكتب مجموعة من القصص الواقعية القصيرة جمعها في كتاب تحت عنوان: (طفلة من الشرق).. هذه الطفلة التي أخذت تحبو.. تصرخ.. تبكي.. تقرع أبواب الذاكرة ولا تدخل..
إنه باكورة إنتاج الكاتب الذي أخذ يشق طريقه بقوة وتصميم إلى الأمام وهو واثق أنه يمتلك الإرادة الصلبة ليقدم لنا المزيد من مثل هذه الأعمال.. أنه الكاتب اسكندر شمعون.
وأخيراً نقدم هذه القصة القصيرة لقراء أثـرا مأخوذة من مجموعته:
لك أيتها الطفلة البريئة لأنك ولدت في الشرق؟!..
أي شرق هذا الذي تفتخرين بالانتماء له، إنه هو.. هو الذي حولك من ناطقة بالحروف الهجائية إلى ناطقة بالحروف الببغائية، تقلدين ما تسمعين: (ددد.. مم ما.. آنا.. آبا.. هييييه.. أكا..) تعبرين عن نفسك بأصوات تصويرية كان جدك الأكبر يستخدمها حين ترك الصيد والتقاط الحبوب منذ آلاف السنين وبنى المدن فوق هذه الأرض التي كانت مهداً لأقدم حضارة في تاريخ البشرية. أساؤوا إليك قبل أن تتعلمي القراءة، هل تعرفين أن جدك الأوسط قد وضع الكتابة المسمارية وطورها أبناؤه إلى حروف أبجدية؟.
انظري إلى تلك الصور.. إنها بقايا القلاع الضخمة والحصون المنيعة التي شيدتها سلالة جدك الأصغر. أما جدك الحفيد فقد فتح المدارس وجلب أمهات الكتب.
حاولنا الكثير من أجلك.. حتى العاملين في المشفى لم يعتنوا بك عندما مرضت في القامشلي سنة 1987 لأن الفوضى غزت عقولهم، وعدم احترام المسؤولية انتشر في نفوس المسؤولين. جهوده مشكورة طبيب هتف للأطباء وسأل الصيادلة. عشيرة بكاملها تعلن الاستنفار لتغزو إحدى الدول المجاورة، المتوفر فيها دواء لينقذك من مرض التهاب السحايا.
شرحنا وضعك لمدير المشفى فرد بخمول كاد أن يسقط أنفه من برجه العاجي:(ماذا تريدون مني أن افعل لمئات الأطفال الذين يمرضون فيموتون، أصبحت الحالة عندي روتينية، قال لي وزير الصحة: إن هذا الدواء مفقود).
ـ لكننا اشترينا بعض العلب بأضعاف سعرها النظامي.
ـ إذن لا توجد هناك مشكلة اشتروا ثانية رغم أنه مفقود، اشتروا مائة.. ألف.. انصرفوا الآن واتركوني مسترخياً لأنني مدعو بعد قليل إلى مائدة وجهاء البلد الرسميين وغير الرسميين.
كانت قبضة أضخم شاب في العائلة تهوي على طاولته الزجاجية، وقف المدير بسرعة وتشنج أسرع، وسقط مغمياً فوق كرسيه الدوار، أسعف إلى العناية المشددة، والشاب اعتقله شرطي المشفى.
كل هذه الإجراءات وكنت تحصلين على ربع الكمية الدوائية المطلوبة لعلاجك. والنتيجة بعد تصويرك (طبقي محوري) كانت ضموراً في دماغك.
لماذا تبكين..؟ ألست راضية على هذه الأرض المقدسة التي أعطت أرقى مدنية في العالم القديم والحديث، وانتشرت في جميع أنحاء العالم.
لا تبكي.. الاحتجاج بالبكاء لا يفيدك، أجمل ما فيك عندما تمسحين دموعك، وتتوقفين صامتة، تحدقين بنظرة جانبية إلى المغنية اورنينا وتدخلين في صورتها، تعزفين أناشيد أزلية مثل أميرة نهرية. وعندما تلامس أصابعك الذهبية أوتار قيثارتك العجائبية تحيا الألواح الطينية ويخرج كلكامش وأنكيدو وعشتار من الأسطورة ليشهدوا على الجريمة التي وقعت.. تمثال سركون الآكادي يدمرّ قبره الزجاجي في المتاحف العالمية ليرى ما يحدث.. تنهض المدن الأولى ثائرةً تحت خرائب (مدمري الحضارة) ويزورون الطفلة الرافدية المريضة ويقدمون لها نسخة عن الكتابة المسمارية.
ويطلب منهم المشرع حمورابي الاجتماع. وفي افتتاح الجلسة الأولى وبعد مشاورات ومداولات يخرجون برأي حاسم: استخراج جميع سحايا المسببين المباشرين وكل من له علاقة بنسلهم، ويمنع استمرار حياتهم الطبيعية إلا بعد أن يثبتوا صلاحية أفكارهم للحفاظ على مسار أخلاقيات العمل.
أعرف بأنك لا تفهمين ما أقول لكنني أتصور أن العدل يجب أن ينطق بالحقيقة وأحاول تفريغ داخلي المنتفخ بهموم ثقيلة تجاوزت عمري بضعفين.. أقول هذا.. فقط لأبرئ ذمتي مما أنت عليه، سؤال محير أرّقني طوال مرضك: ما ذنبك أنك ولدت في حضن الشرق؟.
ـ قالوا لي: (لو مرضت في إحدى الدول الغربية.. كانت ستشفى من مرضها.. ربما كان لها مستقبل ذو شأن عظيم) لأنك فعلاً كنت ذكية.
ـ ولكنني قلت لهم والثقة تملأ نفسي: (عندما كنا حضاريين ماذا كانوا هم؟).
ـ رد أحدهم: (غجر).
ـ من هم الغجر؟ أين هي تلك الحضارة.. اصح على نفسك وانظر ما يجري حولك.. لا زلت تسلسل أجدادك. واستيقظ من حلمك وعش مثل الآخرين، بدد تلك الحالة التي تتخيلها أنها موجودة حول ماضيك.. وحاضرك، سكن بالإيجار..! الحياة علمتني أن أكون أبن اليوم، ماذا أملك؟ ماذا ألبس؟.. وماذا؟. ستبقى مثل أسطورتك القديمة الناعمة النائمة تحت أتربة وصخور منقوشة لا قيمة لها. لم يرد على زوجته لأنها حزمت أمتعتها لتسافر إلى عند أهلها في حلب. وكان يودع ابنته على طريقته الخاصة.
غياب العائلة ترك فراغاً في البيت، أمضى وقته وحيداً مع تقلبات نفسية وحضور اجتماعي ضعيف. صورة ابنته المعوقة تلاحقه أينما وجد.
ـ وكلما رأى أطفالاً وحتى الكبار الناقصين يلقي عليهم نظرة ملؤها العطف والحنان.
عند المساء جهّز عشاءً خفيفاً أمام التلفزيون وانتبه إلى أن البرنامج عن المعالجة الطبيعية لمرضى الشلل الدماغي والمتخلفين عقلياً. نسي العشاء وراقب البرنامج بعينيه وشرع يعالج ابنته بيديه وذهب به خياله إلى أنها شفيت، وجربها برحلة علاجية إلى الحديقة.. يركضان معاً وراء الحشرات والفراشات حتى انتبه إلى أن البرنامج قد انتهى. فيشاهد آخر عن الطيور في الغابات. صباحاً لم يذهب إلى محله المهني بل إلى قلب المدينة ليتجول قليلاً لأن اليوم هو موعد قدوم العائلة من السفر. يريد أن يشتري لابنته غرضاً مسلياً، يعرف أنها تكسر اللعب وتمزق كل شيء تراه وفي نهاية تجواله حمل هدية اعتبرها مفاجأة قد ترغب بها..
تفحص أنحاء الغرف باحثاً عن مكان لا تصله الأيدي، متردداً أين يضعها. مرّ الوقت دون أن يشعر وإذ بصوت الجرس يرن فانتفض مذعوراً، وضع الهدية على الأرض، تنبأ بأن شيئاً ما قد حصل، قلبه بدأ يخفق خفقاناً غير طبيعي. سارع إلى فتح الباب.. أعصابه انهارت أكثر عندما مدت يدها باتجاهه تريده هو بالذات أن يحملها بدلاً من هذه المرأة السمينة زوجة عمه العاملة في المشفى.. وبيد فقدت توازنها، وإصبع تهتز مؤشرة إلى رأس ابنته الملفوف بشاش طبي وبعض الكدمات في وجهها..
ـ مـ.. ماذا حـ.. صل؟!.
ـ ابنتك كانت مقيمة عندي منذ ساعة وربع لا تزعج كثيراً إنها مسلية.
ـ لم أفهم شيئاً.. و.. وبقية العائلة؟!.
ـ لقد وقع حادث سير للحافلة التي كانت تنقلهم. وتوفيت زوجتك وابنك الصغير مع جماعة كبيرة من الركاب. ونجت ابنتك بطريقة عجيبة لم يتمكن أحد من تفسير ذلك!.
خارت قواه البدنية وفقدت وظيفتها لا شعورياً أنزلها بهدوء ماسحة مقدمته المخدرة. الخبر ضربه كالصاعقة. زرعه مثل فزاعة في الحقول. مداركه المتحولة إلى عقارب ساعة تخبطه بين اللا زمان واللا مكان، هناك محاولة جادة لسحبه من التيه. بعد عدة محاولات هز وتحريك، استيقظ بليداً على صراخ قريب منه، بدأت الحياة تدب فيه عندما شعر بحمل معلق في ثيابه انحنى بطريقة آلية نحو الأسفل وإذ بابنته تطلق أصوات لغتها البدائية بوجهه بعد أن تسلت وعبثت بالهدية. وخرج البلبلان الصغيران من القفص المكسور ليلقيا عليها تحية الشكر على هذا الصنيع الخير ويعلنان بدء يوم المعوقين العالمي بطيرانهما الحر وينثران حولهما لحن الخلود وتقودهما الطفلة ديلما بزقزقة حديثة أدخلت الروح إلى وجدان أبيها المصدوم.