سعيد لحدو
++ ظاهرة القبيسيات هي آخر صرعة مُستَجلبة يتحفنا بها نظام الحزب (القائد للدولة والمجتمع) البعثي المنتفض من رماد انحطاط أربعمائة سنة عصملية. العروبي حتى العظم. والإشتراكي إلى أن يشاء الله أمراً كان مقضيَّا. أما الوحدة والحرية التي طالما تشنفت آذاننا بسماع نغمتها الرتيبة فقد نسيهما (الرفاق المناضلون) في جيب سترتهم العسكرية حين استبدلوها بالمدنية ليتربعوا على كراسي الحكم الوثيرة وعلى أكتاف ملايين السوريين الذين اعتقدوا، بطيب نية طبعا، أنهم ينتقلون بذلك إلى عصر المدنية والتقدم. لذلك فقد ارتضوا أن يوقعوا وثيقة طلاق أبدية مع ماضيهم القريب الذي كانت فيه ملامح القيم والمبادئ الوطنية قد بدأت بالتشكل أثناء الحكم الفرنسي وبعيد الاستقلال. حيث كان الاعتزاز الوطني هو المفخرة التي يسعى كل سوري للحصول عليها أياً كان دينه أو طائفته أو قوميته أو لغته أو موقفه السياسي. وكان الاحترام المتبادل والوئام الوطني هو السائد بين كل شرائح المجتمع وفئاته. حيث كان من الطبيعي أن يحتل الكردي أو السرياني-الآشوري، إلى جانب أخيه في المواطنة العربي أعلى المناصب في الدولة بجدارته وكفاءته دون أن يَضطر أو يُضطر للتلبس بالعروبة زيفاً ورياءً، والتماهي مع سياسة الحاكم المطلق، كما حصل فيما بعد ومازال.
بعد سبعة وأربعين عاماً من استئثار حزب البعث بالسلطة، وأربعين عاماً من تربع عائلة الأسد على عرش سورية، تم في ظل هذه السياسة (الشعائرية) قيادة الدولة والمجتمع إلى أسفل الهاوية. لقد أضحت الظواهر الشاذة عن طبيعة المجتمع السوري هي السائدة وبرعاية وتشجيع ودعم السلطة ذاتها. والهدف، أو أقله، النتيجة كانت على الدوام تفتيت الوحدة الوطنية التي كانت قد بدأت تتجلى في أولى صورها قبل هلوسة الوحدة مع مصر (الشعائرية) هي الأخرى، وحكم عبد الناصر الذي مهد الطريق لصعود نجم ضباط العسكر المغامرين، والبدء بتفكيك عرى الوحدة الوطنية وتدمير دعائمها.
لقد بدأت (الثورة) كما يحلو للبعثيين تسميتها، بالإنقلاب العسكري عام 1963 معلنة الثورة على قيم المجتمع المرتكزة على أسس الوطنية والديمقراطية. والتي كانت قد بدأت تتبلور في تقاليد إجتماعية وسياسية لا يعيبها الانتماء العرقي أو اللغوي أو الديني. ولا يفسدها الاختلاف بالرأي أو التوجه السياسي. فجاء حزب البعث ومنظماته الرديفة كإتحادات العمال والفلاحين والطلبة والاتحاد النسائي والمنظمات المهنية والرياضية وغيرها لتختتم بطلائع البعث واتحاد شبيبة الثورة، التي لم تكن سوى وسائل وأدوات بيد السلطة للتحكم بكل مفاصل المجتمع والسيطرة على حركته وتوجهاته بهدف تطويعه لإرادة المجموعة الحاكمة واستخداماتها الخاصة.
وهكذا تحولت تلك الجماهير إلى مجرد جموع تُحشد للتصفيق والتهويس (الشعائري) أيضاً، لسياسة الحزب والقائد الرمز. مفرغة الوطنية من مفهومها ومختزلة الوطن بكل مافيه وماعليه بالحزب وقائده. وبذلك تكرست سياسة التفرقة والتمييز بين أبناء الوطن الواحد كتقليد متوارث، ليتعزز هذا التمييز فيما بعد بأشكال وأساليب أخرى عديدة. حتى بات لكل فرد من العائلة الحاكمة جيشه الخاص بالمعنى الحرفي والمجازي. والسوريون يعرفون جيداً قصص سرايا الدفاع والوحدات الخاصة والحرس الجمهوري وسرايا الصراع والفروع الأمنية على تعددها. لننتقل بعدها إلى رابطة خريجي الدراسات العليا وجمعية المرتضى وظاهرة دعم بعض الجماعات الأصولية أو خلق معادلات سياسية لها كالحبشية والبوطية وما شابهها. إلى ظاهرة التشيع المتمددة أفقياً وعمودياً، الدخيلة على سوريا والمجتمع السوري. ولنخلص أخيراً إلى القبيسيات التي لن تكون بالتأكيد آخر المطاف. وهنا يجب أن لا نغفل عن الأهداف والغايات السياسية لهذه التحزبات التي تحمل غالباً طابعاً دينياً متطرفاً في المجتمع السوري الذي هو تاريخياً وبالفطرة مجتمع متدين ولكن بعقلانية وانفتاح، ولم يكن التطرف يوماً من شيمه المعروفة .
من المؤكد والمعروف للقاصي والداني أن أجهزة المخابرات السورية المتورمة بفروعها المتعددة، والتي يصرف عليها بأريحية زائدة وبدون حسيب أو رقيب، هذه الأجهزة المتحفزة والمتنبهة لكل حركة في المجتمع والتي تحصي على المواطن أنفاسه، لاتفوتها بدون أدنى شك أمور كهذه. وبخاصة إذا تحولت تلك الحالات إلى ظواهر بارزة ولافتة في المجتمع السوري، لتتمدد وتشمل قطاعات واسعة من الأجيال الشابة التي يفترض بها أن تكون القوة التي يعتمد عليها المجتمع، أي مجتمع، للنهوض والتطور وبناء المستقبل الزاهر. لا أن تتحول تلك الأجيال الشابة إلى قوى تجر المجتمع إلى الخلف لتعود به إلى ظلامية العصور الوسطى.
وهذا يقودنا إلى استنتاج منطقي حول دور تلك الأجهزة الأمنية في كل ما يحصل من تشوهات بنيوية وخُلقية للمجتمع السوري. وعن الأهداف المتوارية خلف هكذا ظواهر شاذة عن طبيعة هذا المجتمع. في الوقت الذي يلاحق ويسجن أو يضطر للمنفى كل من تجرأ بالتعبير عن رأي مختلف ولو بالكلمة. وقيادات إعلان دمشق وأمثالهم من الوطنيين في سجون النظام مازالوا خير شاهد.
27 أيار 2010