لاشك أن السريان الآشوريين رغم وجودهم التاريخي الممتد لألاف السنين، يمكن اعتبارهم أكبر المتضررين نتيجة اشتعال المنطقة بنيران التطرف والفوضى، والضرر عليهم مضاعف مقارنة بالآخرين، وذلك لتمايزهم القومي والديني عن محيطهم. والتطورات الأخيرة في العراق وفي مدينة الموصل تحديداً والقرارات التي أصدرها تنظيم «داعش» بحق المسيحيين تؤكد المؤكد وتجسد أكثر من دليل على أن المسيحيين بصورة عامة والسريان الآشوريين بوجه خاص، من حقهم أن يتولد لديهم أكثر من مجرد القلق على مصيرهم.
نعم هناك أزمة وجود حقيقية يعيشها هذا الشعب على أرضه التاريخية جراء عدم الاستقرار وهشاشة الدولة الوطنية التي كان يجب أن تكون الحامية والحاضنة لكل مواطنيها. لقد كانت سنوات الاستقرار القليلة بعد نشوء هذه الدول في مطلع القرن العشرين وبعيد الاستقلال فرصة لتأكيد العنصر السرياني الآشوري قدرته على المساهمة الفعالة في بناء وتطوير الدولة الوطنية الناشئة على كل المستويات السياسية والفكرية. إلا أن النكوص نحو الدولة الأمنية الشمولية وتعميم الفساد والمحسوبيات على حساب سيادة القانون، أدى إلى تراجع هذا الدور. ودفع بالناس للبحث عن منافذ أخرى للحياة الكريمة فوجدوها في الهجرة ودول الاغتراب.
إن استمرار الوضع السوري بدون وجود أفق زمني واضح لحل سياسي … ينهي دوامة العنف، يعتبر عاملاً أساسيا في تسارع وتيرة الهجرة عند السوريين عموما، والآشوريين السريان بشكل خاص، الأمر الذي من شأنه أن يهدد باقتلاعهم من جذورهم نهائياً، فالمجتمع الدولي مطالب اليوم بالتصدي لمسؤولياته الأخلاقية والقانونية في حماية الشعب من إرهاب النظام والتنظيمات الإسلامية المتطرفة، عبر ممارسة ضغوط سياسية قادرة على فرض حل سياسي يحقق التغيير المنشود عبر مرحلة إنتقالية، وفق البنود الستة لإتفاقية جنيف الصادرة في 30/حزيران/2012.
لايزال من تبقى من الآشوريين السريان متشبثين بوطنهم، مؤمنين بأن لامستقبل لهم، إلا في ظل الدولة المدنية الديمقراطية، التي تعترف بوجودهم وهويتهم القومية، دولة عصرية حيادية اتجاه الدين والقومية، بهوية وطنية جامعة تعبر عن كل مكونات النسيج الوطني.
ماذا عن اختلاف رؤية المسيحيين السوريين وتباين مواقفهم حيال الوضع في سوريا؟
هذا التباين طبيعي وينسحب على بقية مكونات ، خاصة خلال السنة الأولى من عمر الثورة. إلا أن (المسيحيين السوريين)، كانوا في الغالب يتوجسون من أي تغيير قد يهدد استقرارهم النسبي وحرية ممارسة شعائرهم الدينية، وخشيتهم من البديل الإسلامي الراديكالي خاصة بعد صعود تيارات الإسلام السياسي، بالإضافة للتجربة العراقية بنتائجها الكارثية الماثلة أمام أعينهم بالنسبة لمسيحيي العراق الذي هجره معظمهم، وهذا ما قد يفسر قلة انخراطهم في الحراك الثوري المباشر، لكن بالمقابل لم يظهروا مواقف موالية للنظام بشكل واضح، بينما جاءت البيانات الأولى التي أصدرها رؤساء الكنائس لتلامس بشئ من الجرأة السياسية (في حينه)، تطلعات السوريين في سياق الإقرار بوجود مطالب محقة للشعب السوري وضرورة إجراء إصلاحات حقيقية ملموسة لم تستثن المستوى السياسي والحقوقي، إلا أن هذا الموقف بقي مرواحاً عند ذلك الحد وبات يصنف في خانة الموالاة خاصة بعد أن زاد منسوب العنف والقتل من قبل النظام،والذي استدرج بالمقابل عسكرة للثورة وعنفاً مضاداً، ولم يعد هناك منطقة رمادية.
ومع هذا كله، فقد برزت مواقف شعبية وحتى من رجال دين مسيحيين مؤيدة للثورة والثوار في عدة مناطق فقد النظام السيطرة عليها. أما بالنسبة للنخب السياسية من المسيحيين فالموضوع مختلف تماماً، إذ يمكننا هنا الحديث عن أحزاب قومية آشورية سريانية (مسيحية)، معارضة، كالمنظمة الآثورية الديمقراطية، المؤتلفة ضمن إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي … وفي الإئتلاف السوري ، والتي انخرطت بكوادرها ضمن الحراك الثوري السلمي منذ الأيام الأولى للثورة وتعرض كوادرها للاعتقال عدة مرات، ولايزال مسؤول مكتبها السياسي (كبرئيل موشي كورية) معتقلاً في سجون النظام لتاريخه.
كذلك فإن حزب الإتحاد السرياني الذي شارك في المظاهرات كان عضوا في هيئة التنسيق الوطني، ثم انضم لمشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية، ولايزال مصير رئيس الحزب الذي اعتقلته الأجهزة الأمنية مجهولاً لحد الآن. بالإضافة لما تزخر به القوى السياسية الوطنية المعارضة، القومية منها والماركسية والليبرالية الديمقراطية من شخصيات (مسيحية) بارزة مع عدد كبير من الناشطين في مؤسسات المجتمع المدني والمستقلين من الأدباء والفنانين، الذين نشطوا بفاعلية ضمن الثورة.
هل لديكم أرقام أو تقديرات حول هجرة الآشوريين من سوريا، والمسيحيين بشكل عام؟
شكل المسيحيون حوالي 25 ألى 30% من نسبة السكان حتى منتصف القرن العشرين، لتبدأ نسبتهم بالتناقص لأسباب عديدة، أهمها الهجرة، ولتصل في عام 1980 لحوالي 16%، ومع بداية الثورة كان المسيحيون يشكلون حوالي 10% من السكان، وفي ظل عدم توفر إحصائيات دقيقة وتسارع وتيرة الهجرة، فإنه يمكن الحديث عن هجرة نحو ثلث السريان الآشوريين والمسيحيين عموما على أقل تقدير.
كيف تنظرون إلى مستقبل التعايش بين المكونات السورية في ظل الواقع الحالي؟
إن هذا الموضوع مرهون بمآلات الصراع … وبطبيعة وشكل الحل. فالنسيج الإجتماعي تعرض لتمزقات كبيرة وعميقة بعد أن تراجعت طبيعة الصراع من صراع بين نظام وشعب مطالب بحقه في الحرية ، لصالح صراعات ذات لبوس طائفي وقومي بعد تصاعد الدور العسكري لقوى طائفية سنية وشيعية وأخرى قومية كردية. وشهدت بعض مناطق التماس ارتكاب جرائم وعمليات تصفية جماعية على خلفية مذهبية وأخرى قومية، لدرجة بات المشهد أقرب لما يمكن وصفه بحرب أهلية.
في ظل تردي الوضع الأمني، وانعكاس ذلك على واقع التعايش، ما هو تقييمكم لدور مؤسسات المجتمع المدني، وكذلك مؤسسات المعارضة، في الحفاظ على السلم الأهلي؟
هناك تحدي كبير، يصعب تجاوزه، إذا لم يأت الحل بموجب عملية تفاوضية تقتنع خلالها كل أطراف الصراع بأهمية وقف العنف، وحماية السلم الأهلي، وإنجاز التغيير الديمقراطي المنشود عبر مرحلة إنتقالية، تديرها سلطة إنتقالية مؤقتة تمثل جميع القوى والمكونات، تمارس بموجبها الإجراءات الكفيلة بتحقيق معايير العدالة الإنتقالية، والدفع باتجاه تحقيق المسامحة والمصالحة.
وبشكل موازي، يجب أن تلعب مؤسسات المجتمع المدني وبقية القوى الإجتماعية والرموز الدينية دوراً أكثر فاعلية وتجترح البرامج والأدوات الكفيلة بجسر الهوة بين مختلف المكونات، عبر تكثيف الحوارات البناءة التي تحقق حالة من التثاقف والتعارف ومحاولة تقوية الرابطة الوطنية الجامعة والمستوعبة لكل ألوان الطيف السوري، والإهتمام بتقديم خطاب عقلاني بعيد عن التجييش العاطفي عبر الإعلام ، الأمر الذي سيساهم في مد شبكة أمان إجتماعية ذات مناعة كافية وعصية على الإختراق من شأنها دعم مقومات الحلول السياسية السلمية.