14-07-2019
قبل عشرين عاما، أي عندما كنت في العشرين من عمري، قررت الانتساب الى المنظمة الآثورية الديمقراطية (مطاكستا) ليقيني أن هذه المجموعة من رهبان العمل القومي هي مؤسسة فريدة في باقة الاحزاب العاملة من أجل قضية شعبنا السرياني الآشوري وهي كثيرة. وبرأيي فإن فرادة المنظمة الآثورية تأتي من ميزات عشرة تختص بها دون سواها من الأحزاب السياسية سأسردها بالتفصيل:
أولا – الأصالة: ولدت المنظمة كأول حزب سياسي بين صفوف أبناء الشعب السرياني الآشوري وخلقتها الظروف الموضوعية التي راكمت صنوف الاضطهاد التي تعرض له هذا الشعب. فجاءت ولادة طبيعية لتحمل لواء الدفاع عن حقوق الشعب السرياني الآشوري، وفي الوقت نفسه لتضع الهم الوطني السوري نصب برنامجها من خلال رفضها سلطة الاستبداد، ومطالبتها بإقامة نظام ديمقراطي علماني يضمن حرية الشعب السوري بكل مكوناته.
ثانيا – التجدد: تكاد المنظمة الآثورية تكون من الأحزاب النادرة في منطقة الشرق الأوسط التي يتم فيها تجديد القيادات والهيئات دوريا وبالانتخاب، ودون حدوث تصدعات كما هي العادة في هذه المنطقة من العالم. ففي هيكلية المنظمة مسؤولون حاليون وسابقون لازالوا يتولون مهام تنظيمية، ويؤدون أدوارا استثنائية في جميع المراحل. من جهة أخرى أولت قيادات المنظمة اهتماما كبيراً بتمثيل المرأة والشباب في هيكليتها، كما جددت خطابها السياسي باستمرار، ونقحت مفرداته لتتسم بالواقعية، وأجرت تحديثات بنيوية في هيكليتها لتتسم بالمرونة وتواكب روح العصر.
ثالثا – التحرر: إن نضال المنظمة من أجل الديمقراطية والحرية في سوريا ليس طارئا، ولا هو وليد صدفة ومصلحة، بل هو حجر أساس في بنية فكرها السياسي، ونهج فرضته العقلية البعثية التي شطبت من المشهد السوري كل ما هو غير عربي (وغير بعثي لاحقا)، وبالتالي فان منطق الأمور يقتضي الوقوف ضد أي نظام لا يريد الاعتراف بحرية وهوية ووجود الشعب السرياني الآشوري في وطنه التاريخي. هذا وقد دفعت قيادات وكوادر المنظمة أثمانا باهظة بسبب هذه المواقف التي أكسبت المنظمة شرعيتها الشعبية والنضالية عبر عقود.
رابعاً – السلمية: ان العمل السياسي السلمي هو أداة المنظمة في التعبير عن نفسها، والدفاع عن قضاياها منذ لحظة تأسيسها إلى اليوم. وتعزز هذا النهج في قرارها اقفال مرحلة النضال السري وخوض غمار الانتخابات التشريعية مطلع التسعينات بشكل علني، وانخراطها لاحقا في ربيع دمشق، ومشاركتها مع باقي القوى الوطنية في تأسيس إعلان دمشق، ثم انضمامها للحراك الشعبي السلمي في بداية ٢٠١١ وتأسيسها للهيئات السياسية التي تمثل المعارضة تباعاً. ورغم مآلات الحرب الدامية التي طحنت سوريا والسوريين منذ أعوام، إلا ان المنظمة لم تنجرف الى متاهات منطق السلاح والتسلّح، ولَم تنجح كل محاولات الزج بها في أتون الاقتتال الداخلي، بان تحرفها عن ايمانها المطلق والراسخ بالعمل السلمي منهجا وحيدا واحدا للمطالبة بما تؤمن به.
خامساً – الانتماء: تحتضن المنظمة بين صفوفها جميع طوائف وتسميات وكنائس شعبنا، وتحظى بالكثير من الاحترام والقبول بين صفوف الاحزاب والمؤسسات الممثلة له في سوريا والعراق وتركيا وإيران ولبنان ودول الاغتراب. وقد بادرت المنظمة مراراً الى دعوة الأحزاب والمؤسسات والكنائس لعقد لقاءات منذ بدايات الحرب في سوريا، من أجل وضع الخلافات جانبا ورص الصفوف وتقريب وجهات النظر. ووظفت المنظمة كل امكاناتها وعلاقاتها السياسية والإعلامية لإسماع صوت السريان الآشوريين في المحافل الدولية، ولتجنيب بيئتها تداعيات نيران الحرب ما استطاعت الى ذلك سبيلا.
سادساً – العقلانية: رغم انزلاق خطاب بعض المعارضة السياسية، ومعظم ما يسمى بـ “المعارضة المسلحة” نحو التطرّف الديني، حافظت المنظمة الآثورية على رصانة خطابها الوطني الجامع رغم خصوصيتها المسيحية. وبقيت تطالب بسوريا علمانية ديمقراطية تعددية، منددة بالممارسات العنفية التي أفضت إلى أسلمة معظم الحراك الشعبي السلمي وعسكرته. كذلك فإن المنظمة لم تلجأ الى الخطاب الشعبوي الغرائزي، القائم على تخويف الناس من الآخر لتحقيق مكاسب آنية رخيصة، بل ظل الانفتاح على هذا الآخر المختلف دينيا وقوميا هو بوصلة عملها السياسي.
سابعاً – النزاهة: رغم إغراءات المال وسخاء “الممولين” الاقليمين والدوليين، لم تلطخ شظايا الفساد المالي أي مسؤول في المنظمة أو حتى أيا من المحسوبين عليها. وبقيت المنظمة بعيدة عن روايات الفساد الإغاثي (وما أكثر ملفاتها وخفاياها). لا بل نجحت قيادة المنظمة ومن خلال أدائها وطروحاتها، في كسب ثقة وتعاطف الشارع الاشوري السرياني في المهجر. ورغم معارضة جزء كبير من هذا الشارع لخيارات المنظمة المعترضة على نظام الأسد، الا أن هؤلاء واصلوا دعمهم لمنظمتهم، ما جعلها تعتمد في تمويل نفسها على مساهمات فروعها في دول أوروبا وأميركا، وعلى مساعدات المغتربين ومؤسساتهم وأنديتهم، مع التذكير أن جميع أعضاء المنظمة ومعظم قادتها متطوعون.
ثامناً – المبدئية: لم تبدل المنظمة تحالفاتها وخطابها ومواقفها حسب المواسم والظروف، بل حافظت على تحالفاتها السابقة المبنية على الندية والاحترام المتبادل، وأضافت اليها باقة من التحالفات المتينة الجديدة. وظل الخطاب العلني هو نفسه خطاب الصالونات والمجالس، وبقيت الجرأة في توجيه الانتقادات الى قوى المعارضة في أخطائها بقوة الاعتراض على ممارسات النظام.
تاسعاً – الاستقلالية: ليس للمنظمة الاثورية أي مرجعية إقليمية أو دولية تمولها وتحركها وتأتمر بأمرها أو تخضع لها أو تبتزها بالمال والمواقف. ومع التشديد والتأكيد ان مسؤولي العلاقات الخارجية في هيئات المنظمة، تمكنوا من نسج صداقات مميزة مع عدد كبير من اللاعبين الإقليميين والدوليين. الا ان هذا لم يجعل المنظمة رهينة مخطوفة ومحسوبة على هذه الدولة أو تلك. فقد بقي القرار السياسي قرارا حرا مستقلا يناقش ويتخذ ويذاع من مقر المنظمة في القامشلى وليس في أي عاصمة أو دولة ذات سطو وسلطة.
عاشراً: أن تجتمع هذه الميزات في مؤسسة آشورية سورية عمرها اثنان وستون عاما، بعد عقود من التضييق والترهيب، وبعد ثماني سنوات من مآسي الحرب، لهو معجزة حقيقية. وهذا ما جعل من المنظمة الآثورية الديمقراطية حالة فريدة في المشهد السوري، وأكسبها تأييد واحترام العديد من الفصائل السياسية والنخب الثقافية على امتداد الساحة السورية.
ختاماً، تحية لكل من حرث أرض القيم والمبادئ بنضاله وتضحياته من جيل الكبار، وتحية للقياديين السابقين والحاليين، وهم المناضلون الدائمون. تحية إلى كوادر المنظمة الآثورية في كل مكان، ممن يزرعون اليوم بصمت ومثابرة ويقبضون على جمر الثبات، لتعيش الأجيال القادمة مواسم الحصاد، حصاد الحرية لسوريا وحصاد الاعتراف بوجود شعبنا السرياني الآشوري على أرضه التاريخية.
أسامة موسى – صحفي