الرئيسية / الصفحة الرئيسية / عندما يغادرنا مبدعٌ كالموسيقار جورج جاجان

عندما يغادرنا مبدعٌ كالموسيقار جورج جاجان

14-05-2021

بقلم سعيد لحدو
تعود الموسيقا السريانية بجذورها إلى حضارة مابين النهرين وطقوسها الدينية والمهرجانات التي كانت تُقام في تلك المناسبات الطقسية والتي كان أبرزها عيد الأكيتو (رأس السنة اللآشورية البابلية) فقد كانت الاحتفالات به تدوم (12) يوما، حيث تسير مواكب الآلهة التي كان سكان مابين النهرين يتعبدونها آنذاك مترافقة على إيقاع الموسيقا والترانيم الدينية.
بعد سقوط الامبراطوريتين الآشورية ومن ثم البابلية في القرن السابع والسادس قبل الميلاد، استمرت تلك الاحتفالات مع ما كان يرافقها من موسيقا دينية وشعبية، على المستويين، الشعبي عامة وكذلك على المستوى الرسمي في الممالك شبه المستقلة التي قامت فيما بعد على أنقاض الامبراطوريات الغائبة، كمملكة حدياب والحضر والرها، وأيضاً في الممالك الآرامية الأخرى العديدة التي نشأت في سوريا وشمال مابين النهرين في الألف الأول قبل الميلاد.
مع بداية تحول سكان سوريا ومابين النهرين إلى المسيحية في القرنين الأول والثاني بعد الميلاد، لم تجد الأفكار الدينية الجديدة اختلافات كبيرة في المعتقدات الوثنية في هذه المنطقة لأن تلك المعتقدات كانت قد تطورت خلال الألف الأول قبل الميلاد إلى التثليث ومنها إلى الإله الأكبر الأوحد. وبناء على ذلك فقد مورست كثير من الطقوس الوثنية القديمة بغلاف مسيحي وبتعابير ومسميات مسيحية، ليشمل ذلك حتى أسماء المجموعات البشرية التي أبدعت وبنت أعظم وأقدم حضارة في التاريخ البشري. فتخلى الناس طواعية عن أسمائهم الأصلية مثل آشور وكلدو وأرام، واعتمدوا الاسم السرياني بدلالاته المسيحية، ولكن بدون أن يتخلوا عن موروثهم الحضاري التاريخي بمضامينه وتعبيراته الثقافية والفنية الإنسانية التي وجدوها متوافقة مع الدين المسيحي الجديد الذي اعتنقوه. وشكَّل ذلك التحول افتراقاً بالاسم واستمراراً بالمضمون.
لقد كانت الموسيقا من أبرز تلك الطقوس التي حملها السريان كإرث إنساني. ومن أهم دلالاتها تلك القيثارة السومرية التي تم اكتشافها في جنوب بلاد الرافدين، ويعود تاريخها للقرن الخامس والعشرين قبل الميلاد. فكان لابد من استمرار هذا النوع من التعابير الطقسية والإرث الشعبي، وهكذا سارت الموسيقا جنباً إلى جنب مع التعبير الديني الجديد. فجاء برديصان الفيلسوف والشاعر والموسيقار الأبرز وهوالحديابي الأصل المولود في الرها في أواسط القرن الثاني الميلادي، والدارس لعلم التنجيم في منبج ومن أوائل المؤمنين برسالة السيد المسيح، ليضع، ومن بعده أيضاً ابنه هرمونيوس، الألحان والأناشيد الدينية كي تُتلى في المناسبات الدينية والشعبية. وقد حازت تلك الأناشيد على شعبية كبيرة استمرت حتى القرن العاشر الميلادي، رغم محاربة الكنيسة له فيما بعد باعتباره مهرطقاً وخارجاً على تعاليمها.
استمر الإرث الموسيقي في الكنيسة السريانية في عهد القديس مار أفرام الذي أخذ ألحان أناشيد برديصان الحائزة على شعبية كبيرة واستبدل كلماتها بأشعار جديدة من تأليفه لتكون متوافقة مع المعتقدات الكنسية المتفق عليها. وهكذا استمرت تلك الألحان مع ألحان جديدة كثيرة أضافها مار أفرام نفسه وكذلك القديس يعقوب الرهاوي وغيره من آباء الكبيسة السريانية في القرون التالية.
مع نهاية القرن السابع الميلادي توقفت حركة التطوير والتجديد في الموسيقا السريانية لتنحصر في إطار التراتيل الكنسية بوجه عام. وقد استمر الحال هكذا، (باستثناء بعض الأغاني الفولكلورية)، حتى أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين عندما بدأ أتباع الكنيسة الشرقية باستخدام الموسيقا لاحتفالاتهم ومناسباتهم المدنية أيضاً إلى جانب الكنسية، وتبعهم أبناء الكنيسة السريانية الغربية بعد ذلك مع دخول النصف الثاني من القرن العشرين عندما بدأت الأغاني ذات الكلمات التي احتوت على مضامين القومية والوطنية والكنيسة واللغة والطبيعة من أشعار الملفان نعوم فائق وآخرين غيره، لتتطور بعد سنوات قلائل إلى المفردات العاطفية وتمجيد الحب والجمال.
في هذه المرحلة برز الرواد الأوائل للأغنية السريانية الحديثة من كتَّاب مثل دنحو داود وأبروهوم لحدو ونينوس آحو، ومن ثم تبعهم جورج شمعون وشابو باهي. كما برز موسيقيون كان رائدهم الموسيقار الكبير كبرئيل أسعد ثم بول ميخائيل وجورج جاجان والموسيقار المبدع نوري اسكندر ونديم أطمجه من الأوائل في هذا المجال، إضافة إلى عائلة سلمون الموسيقية، ومطربين أسسوا للأغنية السريانية الحديثة منهم يوسف شمعون وأيفلين داود وجليل معيلو وجان كارات وحبيب موسى الذي لم يكن قد تجاوز الخامسة عشرة من عمره عندما غنى أغنية (شامو مر) عام 1968 التي اشتهرت كثيراً حينها. ثم صدرت في العام التالي مجموعة أغان جديدة من ألحان جورج جاجان. ثم صدر كاسيت آخر في العام التالي للمطرب جليل معيلو أيضاً من ألحان جورج جاجان.
في العام 1975 برع الموسيقار جورج جاجان مرة أخرى بتسجيل كاسيت جديد من ألحانه غنى فيه مجموعة من أشهر المطربين السريان في الجزيرة السورية بينهم جان كارات وفريد يوسف والياس ضوميط، الذي بدل اسمه لاحقاً ليصبح الياس كرم. وكان عمره آنذاك خمسة عشر عاماً بأغنيته الشهيرة (تدأو عابيرينا).
استمر الموسيقار جورج جاجان بإبداعاته الموسيقية بدون توقف وألف عشرين لحناً جديدأ ليتم تسجيلها بدعم وتمويل من المنظمة الآثورية الديمقراطية وصدرت عام 1988 بكاسيتين تم تسجيلهما بدمشق وغنى فيهما الياس كرم والياس كورية وعزيز صليبا. وقد اشتهر من بين تلك الأغاني (عاتق أو تانوريذَخ، وطاويعو إي شمشايو وعال ياد دقلث ولمَّت لي فوش بشلومو).
في الأعوام التالية لإصدار هذين الكاسيتين تحول الموسيقار جورج جاجان إلى الالتزام الديني وبدأ شغفه في الموسيقى يخبو شيئاً فشيئاً بسبب التوجه الديني الذي بات يقوى عنده وتوِّج ذلك برسامته كاهناً، وعندها توقف نهائياً عن التلحين. وباءت بالفشل كل المحاولات لإقناعه بالعودة إلى التأليف الموسيقي إلى جانب دوره ككاهن ، وذلك بغية الاستفادة من تلك الموهبة الخلاقة التي تميز بها في هذا المجال وبخاصة تلك الألحان العذبة التي لحنها خلال مسيرته الفنية السابقة والتي ارتكزت على الموسيقا الكنسية التي تشربها منذ الصغر كشماس في الكنيسة السريانية.
لقد خسر السريان بشكل خاص والموسيقا عامة مبدعاً فذاً ومؤلفاً موسيقياً من الطراز الرفيع برحيل الأستاذ والأب الروحي الموسيقار جورج جاجان الذي عمل طوال أكثر من ثلاثة عقود متواصلة على بناء قاعدة قوية ومتماسكة للأغنية السريانية الحديثة في سوريا نشأ على أنغامها الشجية جيل من الشباب والشابات المؤمنين بأمتهم وتراثها الحضاري وموسيقاها التي عبرت منذ بداية التاريخ البشري عن أحاسيس الإنسان ومكنوناته ومشاعره في كل مناسبة. وسيبقى عزاؤنا وأملنا الكبير بمن يعيش بيننا اليوم من موسيقيين سريان بارعين وملهمين من أمثال المبدع الكبير الأستاذ نوري اسكندر والموسيقار وعازف العود الفذ موسى الياس والدكتور أبروهوم لحدو….وغيرهم، ممن لا يزالون يعملون بكل حرص وجدية وحماس ليظلوا معطائين وخلاقين ومجددين في الموسيقا السريانية الحديثة.

شاهد أيضاً

المنظمة تهنئ حزب بيث نهرين الديمقراطي بذكرى تأسيسه

31-10-2024 زار وفد من المنظمة الآثورية الديمقراطية مقر حزب بيث نهرين الديمقراطي في مدينة أربيل …