الرئيسية / آراء / خطاب الكراهية وسبل مواجهته

خطاب الكراهية وسبل مواجهته

مساهمة الأستاذ سعيد لحدو في مبادرة “معاً في مواجهة خطاب الكراهية بين السوريين” التي اطلقها اللقاء الوطني الديمقراطي في سوريا.

* سعيد لحدو
الكراهية وتعبيراتها المتنوعة بشكل عام، هي سمة خاصة بالإنسان من دون الكائنات الأخرى، لكنها ليست حالة فطرية فيه وإنما مكتسبة، تنتجها وتنعشها وتحتضنها ظروفٌ معينةٌ يمر بها الفرد أو الجماعة لتغدو في بعض الحالات صفة ملازمة لأخلاقيات هذا الفرد أو الجماعة. وهي من السلوكيات أو التعابير الحياتية الأكثر سلبية في المجتمعات البشرية. وبخاصة إذا تجاوزت الحالة الفردية، لتشمل مجموعة أكبر من البشر، تجمعهم محددات ذات صبغة أو صفات مشتركة كالعرق أو الدين أو الطائفة أو الطبقة الاجتماعية، وغيرها.
على المستوى الفردي يكون لخطاب الكراهية تأثير سلبي محدود. وبالطبع يكون من السهل مواجهته والتغلب على تأثيراته السلبية التي تكون عادة في حدها الأدنى. أما إذا جاء هذا الخطاب على المستوى الجمعي وشمل طيفاً واسعاً من النسيج الاجتماعي، فإنه يخلف تأثيرات هدامة في المجتمع الذي يبرز فيه هذا الخطاب، وبخاصة إذا قوبل برد فعل مماثل من مجموعة أو مجموعات أخرى في ذلك المجتمع، وقد يقود إلى حروب أهلية تؤدي إلى تفكك المجتمع إياه وتشرذمه، كما حصل في المجتمع السوري عندما انحرفت الثورة عن منطلقاتها ومبادئها الوطنية الأساسية، وذلك بعد عسكرتها وأسلمتها بدعم وتمويل وتدخلات خارجية، مما أدى إلى هيمنة التطرف والفوضى عليها، وتحول مسارها من المطالبة بالحرية والديمقراطية إلى عنف وتدمير وتهجير متبادل بلا هدف تنفيذاً لأجندات لا تمت لسوريا ولا للسوريين بصلة، مما شوَّه الصورة وأفسح بالمجال لخطاب الكراهية والتطرف الذي هو دخيل على طبائع وأخلاق الإنسان السوري الذي اتصف عبر العصور بالانفتاح والتمدن والتفاعل الحضاري مع مختلف العناصر والشعوب التي مرت على سوريا عبر آلاف السنين، وكان نتيجتها بناء حضارة اعتبرت مهداً للحضارة الإنسانية. إذ لم يكن اختراع أول أبجدية في التاريخ طفرة عابرة في حياة الإنسان السوري. لكن الظروف القاسية التي عاشها المجتمع السوري في العقود الأخيرة أعادته إلى عصر من السلوك والتوجهات الفئوية لا يمكن أن تشكل بأي حال مرحلة من التطور الطبيعي للمجتمع الذي رغم كل شيء، بقي فيه الإنسان السوري في الغالب ميَّالاً للتعبير المنطقي عن موروثه الحضاري، ومعبراً في سلوكياته الفردية عن تلك السمات الحضارية في التفاعل والتكامل مع عناصر التنوع والتعددية في بيئته الطبيعية. لكن مرور حوالي ستة عقود متواصلة من أسوأ أشكال التشويه التربوي والنفسي والثقافي والاجتماعي المتعمد والمدروس، ترك بلا أدنى شك آثاره التي تجلت في سلوكيات مجموعات عديدة أثناء الثورة من جهة النظام وأعوانه، كما من جهة من اعتبُر طرفاً في المعارضة، رغم عدم دقة هذا التوصيف الذي شمل جميع من وقفوا في الجهة الأخرى وفي مقدمتهم مجموعات الإرهاب والتطرف الديني والطائفي بكل أشكالها ومسمياتها، والتي جعلت من خطاب الكراهية إيديولوجيا خاصة بها تطبقها على كل من لا يبدي الطاعة العمياء لها ولراياتها السوداء.
وهنا يمكننا تمييز أربعة أشكال من خطاب الكراهية وهي:
اقتصادي-اجتماعي
هذه الصيغة من نظرة الكراهية إلى الآخرين نجدها منذ أقدم العصور التاريخية في سلوكيات بعض فئات المجتمعات البشرية. وهي التي تعبر عن نفسها بالمستوى الاجتماعي بصيغة (رئيس\مرؤوس، زعيم\تابع، سيِّد\عبد، حاكم\محكوم، أبيض\أسود، مؤمن\كافر، طائفة\طائفة). ومع التطور اللاحق برز شكل آخر من المفارقة يمكن تسميته (مدينة\ريف). وهذا الأمر كان وما زال مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالوضع الاقتصادي: (غني\فقير).
هذه كما نرى مكونات الطبقات الاجتماعية التي أفرزها التطور الإنساني منذ بداية الاستيطان البشري وبناء القرى الزراعية أو المستوطنات الأولى التي استدعى وجودها متطلبات القيادة والتنظيم وتوزيع مهام العمل وتقاسم الثروة، التي لم تتسم على الدوام بالعدالة والمساواة، مما جعل الأقوى ينعم بالحصة الأكبر من الثروة في حين جهد العمل الذي يقدمه يكون في حده الأدنى، هذا إذا شارك في أي جهد. وبالطبع يتولد عن هكذا حالة نوع من الكراهية التي تنعكس في الواقع بأشكال مختلفة من السلوك حيث لن يكون العنف احتمالاً استثنائياً مستبعداً
ولعل أقدم مثال نسوقه على هذه الحالة هي ثورة العبيد بقيادة سبارتاكوس ضد الإمبراطورية الرومانية عام 73 ق.م. وبالطبع يروي لنا التاريخ الكثير من هذه الثورات والاحتجاجات عبر العصور، حيث كان الدافع الرئيسي لها هذا التمييز المبني على كراهية الآخر واحتقاره باعتباره أدنى مرتبة ولا حقوق له سوى الطاعة العمياء لسيده.
1. عرقي- قومي
في أواسط القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين برز مفهوم القومية كإطار تمييزي للمجموعات البشرية التي تتشارك في بعض المقومات الخاصة مثل الرقعة الجغرافية واللغة والعرق والعادات والتقاليد والمصالح المشتركة وغيرها. انطلاقاً من هذه المقومات نشأ مفهوم القومية والأمة ومعها برز الصراع القومي بين الأمم. هذا الصراع الذي كانت المصالح أساسه ودوافعه. ولكسب هذا الصراع الذي تحول إلى الشكل العسكري العنيف والحروب المدمرة، كان لابد من تغذية مشاعر الكراهية والحقد من قبل الحكام تجاه الأمم والقوميات الأخرى المغايرة التي توسم دائماً بالأمم المتخلفة والأقل شأناً في الوقت الذي يتم الرفع من شأن المجموعة التي ينتمي إليها ذلك الحاكم. وكان ذلك بدايات النهاية لعصر الامبراطوريات التي كانت تشمل مجموعات عديدة من الشعوب والأمم، لتدخل البشرية عصراً جديداً أصبحت الدولة القومية سمته الأساسية ، حيث تسود اللغة الواحدة والعرق الواحد والرقعة الجغرافية الواحدة لمجموعة من الناس تجمعهم هذه المقومات.
2. سياسي-إيديولوجي
لم تكد الدولة القومية في أوربا تستقر حتى ظهر مفهوم جديد بالتزامن مع الثورة الصناعية أو بالأحرى كنتيجة لها، وهو مفهوم الإيديولوجيا السياسية الذي بدأ به كارل ماركس وفريدريك إنجلز وفلسفتهما المبنية على صراع الطبقات في المجتمع البشري. هذه الإيديولوجيا التي كانت فلسفة أممية عابرة لحدود الدولة القومية ومناصرة لطبقة العمال في مواجهة طبقة رأس المال. وقد أوجدت بذلك نوعاً جديداً من خطاب الكراهية الطبقية، (رأسمالي\عامل)، تحت شعار (ياعمال العالم اتحدوا)، وأدخلت البشرية في صراع إيديولوجي مع انتصار الثورة البلشفية في روسيا، ومن ثم الصين وبعض الدول الأخرى. ولكن ما كان أكثر خطورة وتدميراً هي تلك التطبيقات الستالينية المدمرة والتي كانت طبقة العمال نفسها أكبر ضحاياها. وكان من أهم نتائجها انهيار النظام الشيوعي المبني على هذه الإيديولوجيا بتفكك الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول التي كانت تتبعه في أوربا الشرقية، وعودتها مجدداً للدولة القومية.
3. ديني-طائفي
كانت المنطقة العربية عموماً، وسوريا من بينها، منطقة مغيبة عن الوعي طوال أربعمائة سنة من الاستعمار العثماني، الذي نُظرَ إليه من قبل الغالبية المسلمة من السكان على أنه خلافة إسلامية لا تجوز مناهضتها. ولم تصل أفكار الثورة الفرنسية في التنوير والحرية إلى هذه المنطقة إلا بعد حوالي قرن من قيامها. ساعد في ذلك أولاً عودة المتخرجين المتنورين من الجامعات الأوربية إلى بلدانهم حاملين أفكاراً جديدة. وكذلك قيام الحرب العالمية الأولى والتدخل الغربي لتحرير البلدان العربية من الحكم العثماني والوعود بإقامة الدولة العربية. تلك الوعود التي انتهت بالانتدابات وما رافقها من إرهاصات على جميع الأصعدة، ومن أهمها التعرف على نمط الحياة الغربية وأشكال أنظمة الحكم وأسلوب تعاملها مع المواطن. وقد كان لهذا تأثير على نمط التفكير المحلي وبخاصة في سوريا التي بدأ فيها السوريون بتأسيس الأحزاب السياسية في ظل الانتداب الفرنسي. وكان من بين تلك الأحزاب حزب الإخوان المسلمين الذي كانت بدايات تأسيسه في حلب عام 1937 بتأثير مباشر من حزب الإخوان المسلمين في مصر ومؤسسه حسن البنا. وكان يدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة الدولة الإسلامية وعلى رأسها الخلافة. ومن لا يدين بالإسلام في هذه الدولة فهو إما ذمي من أهل الكتاب وعليه أن يدفع الجزية، أو كافر، وحكمه في هذه الحالة إما أن يسلم أو يقتل شرعاً.
هذا النمط من التفكير السياسي-الديني خلق هوة عميقة بين مواطني الدولة الواحدة عندما قسَّمهم إلى فئات بحسب معتقداتهم الدينية وليس بحسب انتمائهم الوطني. مما يعني انتقاص كبير في حقوق فئة من المواطنين وتفضيل فئة أخرى عليهم ومنحها كامل الحقوق. وهذا يخالف مبدأ المواطنة والحرية وحقوق الإنسان، مما وفر بالنتيجة المناخ الملائم لانتشار مشاعر وخطاب الكراهية ضد الآخر. وخلق أجواءاً مشحونة بالتعصب وعدم المساواة تحت سقف وطن يفترض فيه أن يكون للجميع.
لم يقتصر الأمر لدى الإخوان المسلمين على من هو غير مسلم، وإنما تعداه إلى الطوائف الأخرى الإسلامية غير السنية أيضاً. فكان الزمن، وفق هذا المفهوم، يعود بنا إلى بدايات العصور الوسطى حينما لم تكن البشرية قد أدركت بعد معنى حقوق الإنسان والمواطن ولا مفهوم الدولة الحديثة القائمة على أساس المساواة بين المواطنين كونهم مواطنين لا رعايا يتصرف بهم الحاكم المطلق كما يشاء.
ومن الطبيعي أن تتصاعد حدة خطاب الكراهية في ظل هكذا دعوات دينية متطرفة. لكن ما خفف حدة هذا الخطاب في سوريا تحديداً قبل قيام الوحدة السورية المصرية عام 1958، هو وعي المواطن السوري العام مقارنة بالدول العربية الأخرى، وتأسيس أحزاب وطنية أخرى ذات شعبية لا يستهان بها. وكذلك أحزاب قومية عربية عابرة للدين وللحدود تحت شعار (أمة عربية واحدة). لا بل كانت في مواجهة شبه دائمة مع حزب الإخوان المسلمين العابر للحدود أيضاً لكن على حساب القومية والعلمانية، حينما نادى بـ (الأمة الإسلامية الجامعة).
هذان الخطابان كانا متضادين ومتخاصمين على الدوام، لكنهما من جهة أخرى كانا متفقين في رؤيتهما للآخر أياً كان خارج إطار العروبة بالنسبة للقوميين، وللإسلام السني بالنسبة للإخوان المسلمين.
مع مجيء جمال عبد الناصر إلى سوريا وصلت فكرة القومية العربية أوجها، وتصاعدت أكثر مع وصول حزب البعث للسلطة بانقلاب 1963 ومعها تصاعد خطاب الكراهية ضد كل من هو غير عربي. وعانت المكونات الأخرى من الاضطهاد ونكران الحقوق الأساسية والحرمان من الكثير من الميزات التي كانت متاحة للعربي وحده. وباشرت السلطات سياسات التعريب الممنهج لكل المكونات الأخرى تحت ذرائع ومسميات (الوحدة الوطنية) التي كانت في الحقيقة نوعاً من التدمير الممنهج لتلك الوحدة. فقد كانت الهوية الوطنية السورية في طور التشكل في أواسط الخمسينات، مع كل ما يعنيه ذلك من تقدم وتطور على كل صعيد، حتى جاءت السياسات القومجية لتهدم كل ما بناه الوطنيون السوريون في مرحلة الانتداب وخلال قرابة عقد من عهد الاستقلال، من توجه جماعي نحو المستقبل الواعد. فجاء أولئك ليوقفوا مسيرة الهوية الوطنية بشعارات القومية والحرية والاشتراكية الفارغة من أي مضمون. ثم جاء حافظ الأسد ومن بعده وريثه ليقضوا على كل ما يمت للوطنية وللحرية وللحياة ولكرامة السوريين بصلة، ويجهدوا بكل ما أوتوا من وحشية ليوصلوا سوريا إلى الحال الذي نراها عليه اليوم.
من أجل أن يتمكن حافظ الأسد من تنفيذ مشروعه في الاحتفاظ بالسلطة والغنائم التي توفرها له ولأبنائه وعائلته أطول مدة ممكنة، عمل على التجييش الطائفي التدميري للحمة الوطنية السورية، وشرَّع الفساد والمحسوبيات وأباح الرشوة على أوسع نطاق، وقرَّب الفاسدين والانتهازيين ومنحهم المناصب والامتيازات، في الوقت الذي كان الوطنيون الأحرار يقبعون في السجون ويعذبون في أقبية أجهزة الأمن المتغوِّلة.
البترودولار وخطاب الكراهية
من جهة أخرى، فقد جرى أسوأ استخدام للدين في إطار ما سُمي بالصحوة الإسلامية، عندما ارتفعت أسعار البترول بصورة جنونية بعد حرب 1973، حيث وفرت المليارات الفائضة لدول الخليج للإنفاق على نشر النسخة الوهابية من الإسلام المتطرف في المنطقة ودول العالم الأخرى. وعوضاً عن استخدام هذه الأموال الفائضة في دعم المشاريع التنموية في الدول الفقيرة وبناء المدارس والجامعات والمستشفيات، سُخِّرَت لتمويل المشاريع الخاصة والجمعيات المغلَّفة بمسميات خيرية لشيوخ الدعوة الوهابية والإسلام المتطرف، والتفاخر ببناء آلاف الجوامع وأكبرها في العالم في مناطق غالباً لا تحتاجها، ناهيك عن تشكيل الجماعات الإرهابية المسلحة تحت عناوين الجهاد المقدس، وتقديم التمويل اللازم لها دون حساب، مع كل ما يرافق من خطابات مغرقة في الكراهية والعدوانية وتسفيه الآخرين وتكفيرهم، ممن لا ينتمون إلى هذا التيار المغرق في الجهل والتطرف والعنجهية.
الثورة وانكشاف المستور
كان للبترودولار أثر تمهيدي لتمجيد ثقافة الصحراء وأفكارها الأبعد عن الحضارة والمبادئ والقيم الإنسانية، ودعوات الجهاد والتكفير والغزو والغنائم والسبايا، والمتعارضة كلياً مع كل المواثيق والعهود والقوانين التي شرعتها الأمم المتحدة في هذا المجال خلال العقود الماضية. وهنا لنا أن نتخيل مدى الضرر النفسي والاجتماعي وعمق الشرخ الذي يمكن أن يصيب مجتمعاً كالمجتمع السوري في صلب ما تبقى له من وطنية وروح التسامح والإخاء جراء هكذا خطاب مشبع بالكراهية، وبخاصة إذا علمنا أن نظام الأسد كان يفسح بالمجال أمام هؤلاء عوضاً عن أن يكافحهم، وهو النظام (العلماني) كما يروِّج دائماً. كان يفعل ذلك ليبرر لنفسه أساليب القمع الوحشية في مواجهة الثورة الشعبية العارمة من أجل الحرية والكرامة، تحت حجج ومبررات مكافحة الإرهاب والتطرف، في الوقت الذي يطلق سراح أعتى الإرهابيين من سجونه ليؤسسوا تنظيماتهم المتطرفة ويوفر لهم مستودعات مليئة بالأسلحة والذخائر عندما يأمر جنوده بالانسحاب من مواقع معينة ليغزوها الإرهابيون ويستولوا على ما تركه لهم النظام من غنائم لاستخدامها في مكافحة الثورة وقمع الثوار.
ومع توفر خدمات الانترنت المتطورة وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي ووصولها لكل بيت وشخص تقريباً، بدأ المتطرفون وأصحاب الفتاوى يلقون بمواعظهم الغريبة وهم يتبجحون أمام الكاميرات كوكلاء لله، محرضين الشباب على الغزو والجهاد وكسب الغنائم من الكفار. فيندفع هؤلاء لتفجير أنفسهم وسط التجمعات المدنية وهم يبتسمون، لأن الشيخ قد وعدهم بالحوريات التي جهزت نفسها لاستقبالهم في الجنة.
وصلت كارثة التطرف الديني الإسلامي أوجها بعيد عسكرة الثورة السورية، وإطلاق سراح مئات القادة الإرهابيين المتمرسين من سجون الأسد في سوريا ونوري المالكي الموالي لإيران في العراق، ليبدأوا بتشكيل جيوشهم الخاصة من الجهاديين المتطلعين للارتقاء إلى الجنة بسفك دماء الكفار والمناوئين، ومناهضة ثورة الحرية والكرامة وإنهائها. ومن الملفت أن يتلقى هؤلاء الدعم المالي غير المحدود من منظمات وحكومات خليجية وفي مقدمتها قطر. كما تلقت الدعم اللوجستي من حكومة أردوغان في تركيا التي فتحت لها طرق تمرير السلاح والمتطوعين للجهاد على أوسع نطاق. مما رفع مستوى خطاب الكراهية إلى أقصى الحدود وأكثرها عنفاً ومأساوية. حيث ما يزال السوري يعاني منه علانية أو بصورة مضمرة في جميع المناطق السورية تقريباً. ولم يعد معيباً أن يجاهر المرء به على مرأى ومسمع الجميع.
سبل مواجهة خطاب الكراهية
لا شك أن هذا النوع من الخطاب هو أخطر ما يواجهه أي مجتمع على الإطلاق. ولذلك فقد سنت المجتمعات المتحضرة القوانين لتجريم صاحب هكذا خطاب ومعاقبته. أما في الحالة السورية فإن هذا الخطاب نراه يصدر عن السلطة ذاتها التي يفترض بها أن تواجهه وتحد من تأثيراته الهدامة للمجتمع وللفرد. لا بل تقننه بما تسن من قوانين وإجراءات حكومية تمنح بموجبها الحق والامتيازات لبعض الفئات والطوائف والأشخاص في الوقت الذي تحرم الآخرين منها.
هذا من جهة النظام ومؤسساته. أما من الجهة الأخرى، حيث تسيطر التنظيمات المتطرفة، فالأمر لا يحتاج إلى أية قوانين أو إجراءات تنظيمية، وإنما إرادة الفرد المسلح أو زعيم المجموعة أو من يمثله في أي وقت وفي أي مكان يمكنه ممارسة نفوذه فيه. لذا فإنه في هذه الحالة لا يجد المغايرون في الدين أو المعتقد أو الطائفة أو القومية أو حتى بالرأي أمامهم سوى الهجرة خارج تلك المنطقة إذا توفرت لهم هذه الإمكانية، أو مواجهة مصيرهم.
إن مواجهة هكذا نوع من الخطاب لن يكون سهلاً في ظل هذه الظروف، إن لم يكن مستحيلاً. فالنظام الذي يفتقر إلى أي نوع أو شكل أو حس بالمسؤولية الوطنية، يجهد بكل ما يملك من قوة للمحافظة على وضعه الذي تعب، ومنذ عشرات السنين، لترسيخه بالشكل الذي هو عليه الآن. وهو مازال يقاوم أي تغيير مهما كان بسيطاً، طالما استمر داعموه الروس والإيرانيون على موقفهم، في الوقت الذي لم يمارس المجتمع الدولي أي ضغط حقيقي للوصول إلى حل سلمي للانتقال إلى النظام الديمقراطي الحر، ووضع الحلول العملية وسن القوانين اللازمة لكل المشاكل التي يعاني منها المجتمع السوري اليوم، وفي مقدمتها مشكلة خطاب الكراهية.
على الطرف الآخر نجد أن المشكلة هي ذاتها، حين يمارس داعمو تلك المجموعات الخطاب ذاته تجاه الآخر المختلف أو المعارض، فكيف لهم أن يجبروا من يستخدمونهم لسلوك مغاير!!!
يبقى الأمل، على ندرته، عندنا نحن السوريون العاديون المجردون من أية سلطة أو قوة، ومع ضعف الإمكانيات، أن نفعل شيئاً يكون له تأثير فعَّال في الساحة السورية المحتلة من قوى لا مصلحة لها في مواجهة هكذا خطاب. لا بل يهدم المرتكزات التي بنت عليها خطابها التحريضي ضد الآخر. ومع ذلك فإن هذا لا يعفينا من المسؤولية لمحاولة زرع بذرة المحبة والتسامح وقبول الآخر المختلف في تربة الوطنية الحقة، واستمرارنا بتغذيتها بالإرادة الصلبة والإصرار الدائم لامتلاك أية مساحة ممكنة على أرض الوطن وفي عقول وضمائر السوريين، لتوفير المناخ الملائم لنمو هذه البذرة، وانتشارها مع الأيام لتشمل كل السوريين، كما كانت قبل أن تهب علينا عواصف الكراهية والحقد والجهل.
في هذا المجال علينا أن نستفيد من تجارب الآخرين الناجحة في تخفيف حدة التوتر المجتمعي بين الفئات المتصارعة على أساس النظرة الفوقية، أو التقييم المسبق أو غيره من مسببات الكراهية. ولنا هنا في تجربة نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا خير مثال، مع ملاحظة الفارق الكبير بين الحالتين. ورغم هذا الفارق، فإن هكذا تجربة تدفعنا لابتكار حلولنا الخاصة عندما يحين الوقت للمواطن السوري أن يقرر. أو أن تلهمنا الأيام القادمة قائداً وطنياً على شاكلة مانديلا.
وحتى ذلك الحين، علينا أن نبحث عن السبل التي توصلنا إلى مبتغانا بكل إصرار وجدية ومن أهمها من وجهة نظري وفق الظروف التي نمر بها حالياً التالي:
• لقاء جامع لكل القوى والأحزاب والشخصيات الوطنية لصياغة خطاب وطني جامع يتسم بالموضوعية والتسامح ورفض أي شكل من أشكال الكراهية للآخر المختلف وتدشين تجمع بما يشبه رابطة الوطنيين السوريين يضم كل من يرى نفسه منسجماً مع هذا التوجه الوطني الإنساني، مع حيادية تامة تجاه أي موقف سياسي خارج هذا الإطار.
• تشكيل لجنة من الحكماء مهمتها مراقبة سلوك ونتاج وخطاب كل المنضوين تحت هذا العنوان لتحديد مدى انسجامهم مع المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الرابطة.
• إنشاء موقع خاص لهذا التجمع مفتوح للجميع لنشر كل ما يتعلق بهذا التوجه.
• القيام بنشاطات وفعاليات للتوعية والتنوير في هذا المجال وبيان مدى الأضرار التي يلحقها خطاب الكراهية بسوريا الوطن وبالسوريين كمواطنين.
• العمل بجدية باسم هذا التجمع للتواصل مع القوى الفاعلة والدول المهتمة لشرح مهمة هذا التجمع وطلب المساعدة لتجسيد هذه الطموحات والمبادئ على أرض الواقع.

 

شاهد أيضاً

المنظمة تهنئ حزب بيث نهرين الديمقراطي بذكرى تأسيسه

31-10-2024 زار وفد من المنظمة الآثورية الديمقراطية مقر حزب بيث نهرين الديمقراطي في مدينة أربيل …