ميشيل كيلو
السفير اللبنانية >>> قال الأستاذ سعيد بخيتان، الأمين القطري المساعد لحزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا أمام جمهرة من الحزبيين إن المادة الثامنة من الدستور، التي تجعل «الحزب قائد الدولة والمجتمع» لن تلغى، إلا إذا خسر الحزب الانتخابات وقرر البرلمان إلغائها بأغلبية ثلثي أصواته.
لن أدخل في الإمكانية العملية لهذا الاحتمال النظري الفائق البعد عن الواقع، الذي بنيت سلطة البعث بكاملها كي تجعله غير ممكن التحقيق تحت أي ظرف وفي أي زمان ومكان. ولن أشرح النظام الانتخابي في سوريا. سأكتفي بإيراد طرفة وقعت في مكتب محافظ اللاذقية الأسبق الأستاذ وائل إسماعيل، تبين على خير وجه ما يحدث في الانتخابات، فقد رن جرس الهاتف، بينما كان يتجاذب أطراف الحديث مع صديقه المحامي عبد الخالق إلياس، الجالس قربه، فرفع السماعة وأصغى قليلا إلى محدثه قبل أن تجلجل ضحكته في المكان وهو يقول: أما أخبرتك أنهم لن ينتخبوا إلا الذين عينّاهم؟
سأكتفي بحديث الحزب والدولة، الذي يبدو أن القيادة في بلادنا، أو أوساطا محددة منها، لا تريد أن تراهما منفصلين، وتعتقد أنه لا علاقة لاندماجهما منذ عام 1963 في الأزمات المتتالية، التي عاشتها البلاد خلال العقود الخمسة الماضية، وكانت كثيرة ومتشعبة ومستشرية ويومية، حتى ليكاد انفجارها الحالي، بما فيه من عمق وعنف وتعقيدات غامضة وأكاذيب وحقائق وتشابكات خطيرة على شتى الأصعدة وسائر الميادين، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبشرية … أن يطيح بسوريا الدولة ويحولها إلى مزق قد لا يتاح لشعبها – لا سمح الله – أو لمن سيبقى منه بعد انتهائها، إن انتهت خلال الجيل الحالي، لملمتها من جديد، إلا بعد تكلفة يعرف الله وحده كم ستكون مرتفعة وباهظة، هذا إن كانت ستنجح.
ليس الحزب والدولة من طبيعة واحدة. هذا ما يعرفه كل تلميذ إعدادي. الدولة تكوين عام شامل ومجرد، هو في الفكر السياسي عامة – ماركسياً كان أم غير ماركسي – جهاز يضم مؤسسات مختلفة ومتخصصة يقف فوق المجتمـع وطبقاته ويبدو مستقلا عنهما وعن التكوينات السياسية (الأحزاب) والنقابية التي تمثلهــما أو يفترض أنهـا تمثلهما. أما الحزب فهو تجمع طوعي لأشخاص قـرروا إعادة إنتاج الحياة السياسية وفق برنامج خاص بهم، يعتقدون أن تطبيقه مصلحة لهم أو لجمهورهم أو للمجتمع بوجه عام.
هذا التــجمع الطــوعي لا يكون إلا جزئيا، مهما اتسع وتزايد عدد من ينتــسبون إليه، فهو إذن مغاير في طبيعــته للدولة، التي هي جهاز كلي يقف فوق الأحزاب، يمارس مهمتين رئيستين:
– إدارة شؤون المجتمع بأسره، انطلاقا من منظور محدد
– قد يكون طبقيا بمعنى مباشر وقد لا يكون، يتسع لعدد غير محدود من المواطنين، أو بالأحرى للمواطنين جميعهم، تنظم علاقاته معهم قوانين وأعراف وممارسات وآليات عمل وضمانات شخصية وعامة شرعية ومعلنة يسهر على حسن سيرها القانون والقضاء وأجهزة التنشئة والضبط المختلفة: من الأسرة إلى المدرسة إلى المؤسسات الزجرية من شرطة وجيش إلى المؤسسات الدينية إلى أعلى هرم السلطة… الخ.
نظريا، يتساوى المواطنون جميعهم أمام القانون في الدولة، مهما كان حزبهم، ولهم عندها حقوق متساوية، بغض النظر عن مكانهــم منها أو من المجتمع أو من السياسة، كما لهم حق مراقبة أجهزتها ومؤسساتها، واختيار من يديرونها، ومحاسبتهم أمام الرأي العام: عبر الصحافة الحرة والانتخابات المفتوحة، أو أمام القضاء. بينما تتوازن أعمالها وتنضبط بفضل فصل السلطات، وإخضاع السلطة التنفيذية بالذات لرقابة السلطتين التشريعية والقضائية من فوق، والرأي العــام المنظم أو العفوي، الحر في جميع الأحوال، من تحت، علما بأن السلطة التشريعية، التي تعمل على مستوى الدولة الكلي ولها حق الرقابة على جميع أجهزتها وضبط حركة سلطتها التنفيذية، هي في جوهرها مؤسسة مجتمع مدني، وظيفتها تمثيل المجتمع المدني، الذي هو مرجعيتها ومصــدرها ومكان تشكلها وحاملها، في حين تصون السلطة القضائية سيادة السيد الوحيد في الدولة: القانون، وتسهر على إخضاع الجميع بالتساوي والقسطاس لسلطانه غير المقيد أو المحدود بأي اعتبار أو ظرف أو مصلحة، وتضع عينها، مع السلطة التشريعية، على السلطة التنفيذية: الجهة الوحيدة في الدولة التي يحق لحزب من الأحزاب الإمساك بمفاصلها، ما دامت لديه أغلبية انتخابية، فإن فقدها ترك مكانه لغيره وغادرها.
أكاد أقول هنا أن مهمة الدولة في جوهرها تكمن بنسبة تسعين في المئة منها في مراقبة هذه السلطة وكبح جموحها وضبطها، خشية أن تسيء استخدام ما لديها من صلاحيات هائلة، وقدرة على التلاعب بالقوانين والمصالح عبر ممارسات من السهل أن تصير مصدراً رئيساً لفساد وإفساد دولتها ومجتمعها، وسبباً رئيساً لما يحدث فيهما من أزمات ومشكلات، خاصة وأن عملها يخترق مؤسســات الدولة بمجملها، ويهدد استقلالية السلطتين القضائية والتشريعية ووحدة المجتمع وسلامته، إن هي استندت إلى تكوين جزئي، ما قبل دولوي كالحزب، حتى أن بلدا كأميركا يحرص على متابعة انضباط هذه السلطة من خلال إصدارات دستورية مفتوحة، تتابع عملها وتفرض عليه قيوداً قانونية صارمة تكمل ما في الدستور الأميركي من نواقص وثغرات، أولا بأول، بينما تفعل دول أوروبية مختلفة الشيء نفسه بوسائل أخرى.
– الدولة هي الطرف الرئيس في عقد اجتماعي/ سياسي، تحول جزئية الحزب دون أن يكون طرفاً فيه. هذا العقد يقوم على الفكرة التالية: يعطي المواطن الدولة حقه في العنف، فتعطيه حقه في الحرية والملكية، وتالياً في الأمن الشخصي والعام. في العقد، تحتكر الدولة العنف كي لا تخرجه من المجال العام ولا تستخدمه هي أو المواطنين فيه، وتتمكن من إدارة الشأن العام وشؤون الخواص بالسياسة وتوازناتها ووسائلها، السلمية حصرا.
بينما جزئية الحزب تحول بينه وبين أن يكون طرفا في عقد هذه مهامه: نفي العنف من المجتمع واستبداله بالسياسة، فإن طرفه الآخر، المجتمع المدني، الذي يصير في الدولة مجتمع مواطنين أحرار مالكين ومسالمين، يبقى خارج أية علاقة تعاقدية مع أي حزب، فإن صار حزب ما هو الدولة، ودمج سلطاتها الثلاث وأخضعها للسلطة التنفيذية، التي تفلت أكثر فأكثر من أية رقابة، انتفى أي أثر لأي تعايش أو تعاقد وعاد العنف ليحل محل السياسة والسلام الأهلي، وانتفى معه الشأن العام بما هو شأن مجتمعي تديره الدولة بمعونة المواطنين الأحرار، وزالت المساواة بين هؤلاء، الذين لا يعودون أحراراً ومتساوين، لأنهم غير متساوين بالفعل في الانتماء والولاء للحزب، وغابت بغيابها العدالة والحرية، وتلاشى المجتمع المدني إلى حد الاختفاء، وحدث فرز في الحياة العامة، كثيرا ما تحدث عنه الكتاب والمفكرون، يخفي في مرحلة أولى المجتمع وراء الحزب، ثم الحزب وراء لجنة قيادية ما، ثم هذه وراء قائد فرد واحد أحد، يعيد إنتاج السياسة وأدواتها عبر أجهزة تخفي بدورها كل ما له علاقة بالدولة.
وعندما تنتج السياسة من السلطة، من خارج المجتمع والدولة، فإنها تتبنى العنف وسيلة تخال أنها تستطيع بمساعدتها امتصاص التوترات المتفجرة الناجمة عن غياب العقد الاجتماعي والقيم التي ينهض عليها: الحرية والمساواة والأمن وتاليـاً العدالة، وعن غياب الدولة أيضا، التي تخسر مع تقلص وضياع بعدها الاجتماعي عموميــتها وطابعها الشامل والمجرد، ولا تعود محلا تنتج فيه السلامة العامة والحرية، وتتحول إلى سلطة سلطانية شخصية تنحدر بالمؤسسية عموما، وبمؤسساتها الخاصة إلى درك وظيفي أدواتي ضيق، يخدم أكثر فأكثر مصالحها من دون غيرها، فتقلع عن أن تكون مؤسسـات دولة وتنقــلب إلى مزرعة يديرها حزبيون لصالح جيوبهم وزبانيتهم، وتغدو السلطة مكانا لإنتاج الفساد والعصبيات الدنيا، ومنتج أزمات وموزع مغانم لمن يمسكون بأعنتها من ذوي النفوذ، وتكتسب الحياة العامة طابعاً إقطاعياً وشرقياً. هذا التطور، الذي لا يمكن وقفه وتتناقص القدرة على ضبطه والسيطرة عليه، يأخذ البلاد والعباد من حال سيئ إلى حال أسوأ، وينشر بدل روح التسامح والأمان، التي ينتجها التعاقد، روح العنف الذي لا يفتأ يتصاعد حتى ينقلب إلى حرب أهلية أو إلى نزاعات وصراعات عامة وخاصة، معلنة وخفية، تعمل بآليات حرب أهلية كامنة.
هذه الآلية لا تنطبق على حزب من دون غيره، كحزب البعث مثلا، بل هي لصيقة بجميع الأحزاب التي تضع يدها على الدولة، شيوعية كانت أم قومية أم ليبرالية أم إسلامية، بما أن أي حزب لا يستطيع، نتيجة تعارض وتناقض بنيته مع بنية الدولة، احتواءها وتحويلها إلى دولة له، ترى نفسها بدلالته وتعمل انطلاقا من جزئية طابعه، لأنها بذلك تلغي نفسها كدولة.
بالمقابل، تستطيع الدولة احتواء الحزب، أي حزب، كما تسمح له بالسيطرة على سلطتها التنفيذية، إن حاز أغلبية شعبية تؤهله لذلك، شريطة تخليه عنها بمجرد خسارة تفويضه الانتخابي. يعني هذا أن الحزب له الحق في السيطرة على السلطة التنفيذية وحدها، ليس كي يجعلها له: حزبية مثله أو من حزبه، بل ليطبق بواسطتها برامجه وينفذ خططه.
بينما لا يحق له بأي حال السيطرة على السلطة القضائية أو فرض الحزبية على العاملين فيها، فهذا يبطل استقلاليتها ووظائفها الرقابية ونزاهتها وحيدتها وعموميتها، ويجعلها أداة في يد قلة ويلغي طابعها كضامن رئيس للعقد الاجتماعي، والساهر الشرعي على قانونية تنفيذه. بالمقابل، يمكن للحزب احتلال مكان خاص في السلطة التشريعية، حيث يستطيع النائب أن يكون حزبيا، ولا يجوز إطلاقا، ما دامت الدولة تستحق اسمها وتمارس مهامها، أن يستولي الحزب عليها، مثلما هي الحال في سوريا اليوم، وأن يحولها، بما يجافي طبيعتها ودورها، إلى وسيلة للسيطرة يراقب من خلالها الشعب ويدمجها بالسلطة التنفيذية، التي تلغي عندئذ بصورة تامة أية رقابة قد تمارس عليها: رسمية كانت أم شعبية، مثلما هي حال سوريا منذ أربعين عاماً ونيف.
الحزب شيء والدولة شيء آخر: هو جزئي وهي عامة. هو يضم مواطنين خواص وهي مؤسسات عامة، هو ينفذ برنامجاً جزئياً. فمن المنطقي أن لا يتمكن الجزئي من السيطرة على العام، وإلا أفقده هويته ووظائفه ومسخه، بينما يغني العام الجزئي ويثريه، إن هو اندرج فيه وعمل بروحيته واكتسب شيئاً من طابعه. واليوم، يخبرنا الأستاذ بخيتان أن السلطة ستبقي على المادة الثامنة من الدستور، التي تخضع الدولة لحزب البعث وتجعلها بعثية، متجاهلا أن نتيجة هذا الأمر هي إلغاء الدولة وتفتيت المجتمع، وأنه هو الذي وقف بالأمس ويقف اليوم وراء معظم مآزق وأزمات سوريا، والذي أحبط أي جهد لإخراجها من مشكلات خطيرة أنتجها هو نفسه، وأنه سيحبط أخيرا أي سعي يستهدف إخراجها من أزمتها الراهنة، وسيحكم بالفشل على أي حوار وطني، لأنه سيقيم تعارضا لا سبيل إلى جسره بين ما يريده المحاورون من غير البعث، ويتلخص باختصار شديد في تلمس نظام انتقالي يضمن إنهاء الاحتجاز السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والروحي القائم، منذ نيف ونصف قرن في سوريا، الذي لطالما تمت معالجته بوسائل غير مناسبة، قمعية معنوياً ومادياً، بينما يريد الأستاذ الحفاظ على مصدر الأزمة، ويعلن أنه لن يسمح بمناقشته، ولو ذهب الحوار إلى الجحيم! إما حزب هو جزء من الدولة أو دولة هي جزء من حزب.
هذا هو خيار سوريا اليوم. وبما أننا خبرنا طيلة العقود الماضية نتائج إلغاء الدولة بسبب سيطرة الحزب عليها وتحويلــها إلى سلطة خاصة به، فإن الخبرة تحتم علينا الدعــوة إلى انضواء جميع الأحزاب في الدولة، وإلى إعادة إنتــاج نفسها في حاضنتها وبدلالتها، لتكون دولة لجــميع مواطنيها بلا استثناء، تقوم على الحرية والعدالة والمساواة، الأسس التي إن قام البعث عليها دخل في مرحلة نوعية جديدة، ستنتشله من الوضع الصعب الذي ألقاه فيه تمسكه بمحاولة فشلت في جميع التجارب المماثلة لتجربته، هي سيطـرته على الدولة.