الرئيسية / مقالات حول سوريا / هل يحل القمع مشكلة الحرية؟

هل يحل القمع مشكلة الحرية؟

ميشيل كيلو
دار الخليج
04/05/2011

هناك من يحاول اليوم أيضاً، في القرن الحادي والعشرين وزمن التحول العربي والعالمي الجارف والعميق، حل مشكلة الحرية بوسائله القمعية التقليدية، التي لو كانت صالحة وفاعلة لما وصلت أحواله إلى ما هي عليه من تهافت وبؤس، ولما عفا عليها وعليه الزمن . يتصدى من يفعل ذلك للحرية بالقمع، ويعتقد أن الأخير كفيل بتخليصهم منها أو من المطالبين بتحقيقها، كأن الحرية شيء يمكن قمعه، أو كأن القمع ينفع معها .

ومع أن معارضي الحرية يبررون موقفهم منها باعتبارات تبدو في أحيان كثيرة جذابة، منها أسبقية المهام الوطنية على أي شيء عداها، وبالتالي ضرورة إرجاء مسألة الحرية إلى ما بعد إنجاز هذه المهام والانتهاء منها، فإن تبريرهم غالباً ما يكون مضحكاً وسخيفاً، أقله لأنهم يقيمون تعارضاً بين الوطنية والحرية، ويجعلون للأولى رجحاناً على الثانية، كأن الوطن والمواطن يمكن أن يوجدا، إذا كانا غير حرين أو ناقصي حرية، أو كأن الحرية تقبل الإرجاء والتأجيل والتعطيل بقرار يتخذه أحد، أو كأنه يمكن، أخيراً، استعادة استقلال ضائع أو أرض محتلة أو وطن فقد سيادته بمواطنين عبيد .

وبما أن مبدأ المفاضلة بين القيم التي تنهض عليها الدول والمجتمعات ليس صحيحاً جملة وتفصيلا، فإنه لا بد من التذكير بأن نقصان أية قيمة من هذه القيم أو الافتقار إليها يقوضها جميعها، فلا وطنية حيث لا توجد حرية، ولا عدالة حيث تغيب المساواة، ولا مساواة حيث تنتهك المواطنة . . إلخ، ولا مفر من اعتبار القيم الناظمة للوجود الإنساني رزمة واحدة تكون ناقصة وبلا فاعلية في غياب أي منها، أو إذا تم وضع بعضها في مواجهة بعضها الآخر، أو وقع تلاعب فيها، أو تحولت من قيم إنسانية سامية إلى شعارات سياسية ظرفية أو آنية يسهل الحد منها باسم ضرورات عابرة تسوق وتباع للشعب باعتبارها أساسيات حياته ومقومات وجوده، التي لا يبقى شعباً إن هو فقد أياً منها، أو رفض الانصياع الأعمى لها، بالطريقة التي تراها السلطة القائمة .

مرّ العرب المعاصرون في معظم بلدانهم بهذه الأنواع المختلفة من الاحتيال واللعب السلطوي، الذي وضع لفترة طويلة الحرية في مواجهة الوحدة، والوحدة في مواجهة العدالة الاجتماعية، وفشل بسبب هذه الألاعيب في تحقيق أي واحد من هذه الأهداف، حتى أن أستاذاً كبيراً هو الراحل أنطوان المقدسي كان لا يكل من تكرار التحذير مما كان يسميه “اللعب النجس بالقضايا المقدسة”، في إشارة إلى نسخ الحرية بحجة الوطنية، وتقويض القومية باسم الاشتراكية، والفصل بين العدالة والمساواة بذريعة التنمية، واضطهاد الفرد باسم الدفاع عن الجماعة . . إلخ . وها هو هذا النهج المدمر يبلغ اليوم نهاية الشوط بتفاهاته التي كانت تسمي نفسها سياسة، بعد أن انكشف الستر وبان المخفي، وهو أنه لم يكن يريد الدفاع عن الوطن أو تحقيق الوحدة، وكان همه الوحيد الدفاع عن أمره القائم المرفوض، الذي استباح كل قيمه وأباح ارتكاب جميع أنواع القبائح والجرائم من أجل حماية وإدامة مصالح جزئية أفاد منها نفر قليل من اللصوص، ضربوا عرض الحائط بأي عرف أو تقليد أو قانون أو أخلاق، وتدثروا برداء لا يناسبهم هو المصلحة العامة والوطنية، وحين تبين للشعب كذبهم ودجلهم شرعوا يقمعونه باسم الأمن والنظام، ويتهمونه بالعمالة والسلفية، بدل أن يقروا بأن العميل لا يقاوم الظلم بل يسعى إليه بيديه ورجليه، ولا يثور ضد الاعتداء على كرامته لأنه بلا كرامة، ولا يطلب حقاً لأن حقه الوحيد يكمن في انتهاك حقوق غيره، وفي العيش في مجتمع لا تحكمه القيم، كالذي عاش معظم العرب فيه خلال نصف القرن الماضي، وذاقوا الأمرين من ظلمه وجوره .

واليوم، لم يعد أحد يشك في أن مشكلة الحرية لا تحل بالقمع بل بالحرية ذاتها، وأنها مسألة لا بديل لها ولا تعويض عنها، بدلالة أن إنساناً لا يستطيع العيش من دونها أو الاستغناء عنها، وأنها روح الحياة وجوهر الوجود، من يفقدها لا يبقى له كرامة أو حق أو خلق، ومن يتنازل عنها يخسر معها كل شيء، بما في ذلك شرفه الشخصي ومصالحه والنبيل من عواطفه . لذلك كان حل مشكلتها عصياً دوماً على القمع أو بواسطته وفي إطار نظمه، ونسف تحققها سائر العقبات والعراقيل التي وضعت في وجهها أو حاولت الحيلولة بينها وبين الإنسان، الكائن الوحيد الذي يعرف قيمتها ويحيا منها ولها، ولم يصمد في وجهها أحد أو شيء، حتى صار مسار الإنسان في الوجود مسار حرية، وغدا مطلبها محور جميع مطالبه الأخرى، وفشل كل ما ابتكره الحكام على مر العصور من قمع روحي ومادي في وقف تقدمها، وانطلق موكبها مخترقاً الأزمنة متوطناً النفوس والعقول، فتبدت في شتى الصور والأشكال خلال شتى الأزمنة والظروف، حتى ليمكن القول إنها نقطة البداية التي انطلق منها كل سعي بشري إلى الكرامة والتفتح والعقل، والضوء الذي اهتدى بنوره الضائعون والمظلومون والمغيبون عن الوجود، ونقطة النهاية التي قصدها بشر بلا عدد ضحوا في سبيل بلوغها بالغالي والنفيس، فالتقدم البشري ليس غير سعي إلى الحرية وابتعاد عن العبودية والذل والعنف، والقمع هو آخر شيء يستطيع حجب المطالبة بها أو الحيلولة بينها وبين التوطن في حياة ووعي الإنسان، ومنعها من التحول إلى هدف له، يرى في تحققه خلاصه إن كان مظلوماً، واستعادة إنسانيته إن كانت منتهكة أو منتقصة .

لو شاء المرء القيام بدراسة إحصائية للكلمة الأكثر جرياناً على ألسنة الخلق عبر التاريخ كله، لوجد أنها كلمة الحرية . ولو أراد معرفة مضمونها، لوجد أنها شكل أي مضمون ومضمون أي شكل، وأن الحرب ضدها هي حرب ضد الحياة والعقل بأوسع وأنبل معانيهما، وأن كل من قاومها جرفته أمواجها، حتى صار ممكناً القول بوجود نوعين من الساسة: واحد ملعون لأنه حاربها وقمع المطالبين بها، وآخر مبارك ومحبوب، لأنه سعى إليها مع الساعين وناضل في سبيلها مع المناضلين، فكان جزاؤه التكريم والخلود في ذاكرة بني البشر، بمن فيهم أولئك الذين لا ينتمون إلى قومه أو جنسيته .

واليوم، والعرب يذهبون إلى حال جديدة لحمتها وسداها حريتهم، التي غدت مطلب البسطاء والمظلومين وقطاعات واسعة جداً من غير المهتمين سياسياً، يعتقد بعض أهل الحل والعقد أن بوسعهم الإبقاء على أوضاعهم المانعة للحرية، وحجر شعبهم في معزل قمعي لن يكون غير سجن كبير، يعرفون هم أنفسهم أن جدرانه ستغريهم بتحطيمها، وأنهم سيحطمونها في أقرب فرصة تتاح لهم، وأن هناك مشكلات تكوينية تتصل بقيام ووجود الدول والشعوب والمجتمعات، وتتخطى في مجالها وطابعها المجال السياسي، الذي ينهض عليها بينما لا تنهض هي عليه، فالدولة نتاجها وتعبير عنها في آن معاً، لذلك يستحيل حل مشكلاتها بغير وسائل سياسة محددة يجب أن تفهم كفاعلية تكثف علاقات المواطن التعاقدية مع المجتمع والدولة، والتفاعلات التي تترتب عليها انطلاقاً منه وبالعكس، ضمن حاضنة تمد هذه العلاقات والتفاعلات بالروح الضرورية لاستمرارهما وارتقائهما يسمونها الحرية، فمن يسعى إلى قتلها يكون كمن يريد قتل المواطن والمجتمع والدولة جميعاً، علماً بأنه لن ينجح على الأمد الطويل مهما فعل، بدلالة تاريخ وواقع البشر، الذي هو أيضاً تاريخ تفتح الحرية وتحققها الواقعي .

ليست الحرية ترفاً يمكن التخلي عنه، وليست مسألة يمكن القفز عليها أو تأجيل تحققها بقرار أو سوط . إنها الزاد الذي لا يكون الإنسان إنساناً من دونه، والروح التي تبعث الحياة في بؤس وجوده فتجعله قابلاً للعيش والتطور، فلا علاج لمشكلاتها الكثيرة والمتشعبة بغير المزيد من الحرية، كما قال معظم الفلاسفة والمفكرين عبر الزمن .

كان أحد كبار مساعدي هتلر يقول: “كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي” . وربما كان لسان حال المستبدين العرب يكرر القول نفسه، ولكن بعد استبدال كلمة ثقافة بكلمة حرية . مشكلة هؤلاء أن الحرية لا تعالج بالقمع، وأنها هي التي تقضي عليه وتطيح رموزه وحملته .

شاهد أيضاً

بمشاركة الرفيقين كبرئيل موشي وعبد الأحد اسطيفو: هيئة التفاوض السورية تنهي اجتماعاتها في جنيف وتصدر بياناً ختامياً

04-06-2023 شارك الرفيقان كبرئيل موشي مسؤول المنظمة الآثورية الديمقراطية، عضو هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة …