جريدة الشرق الأوسط
كما جرى في مصر وليبيا واليمن والبحرين، وتونس طبعا، هناك من يريد استمرار الثورة لحد إسقاط النظام الحاكم تماما، وهناك من لا يريد ذلك، وهناك من هو حائر بين الغار والنار…
ما حصل في سورية منذ انتفاضة مدينة درعا، قلب حوران النابض، ليس شاذا عن هذه القسمة في المواقف.
وليس صحيحا أن من هو قلق من سقوط نظام الأسد في دمشق هو عميل للنظام أو خائن، بالعكس قد يكون كارها لنمط حكم بشار الأسد وتحالفه مع إيران، لكنه يخشى من أمور أخرى قد تحدث بعد انهيار النظام بالكامل.
الأمور ليست دائما تؤخذ بحسبة أخلاقية صرفة، ولا بقسمة «فسطاطية» خالصة، فحسابات المصالح والخسائر أعقد من هذا وذاك.
السؤال: هل نظام الأسد في دمشق قابل للإصلاح وفيه مرونة كافية تجعله يستوعب جرعات الإصلاح المؤلمة دون أن يتفتت؟!
الأنظمة اليابسة، القائمة على آلية الردع والتخويف، ومراقبة النشاط العام والخاص في أدق التفاصيل، يصعب عليها أن تلين عروقها وتتمدد لاستيعاب الدماء المتدفقة الجديدة، ولذلك تقاوم بعنف وعناد، لأنها تعرف أن طريق الإصلاح هو طريق زوال الكينونة ذاتها، كينونة النظام، لذلك نسمع الصوت العالي المتوتر من قبل ألسنة النظام الإعلامية وغير الإعلامية، والتصرف اللاعقلاني في مواجهة هذه الضغوط، واختراع نظريات مؤامرة «خارجية» متنوعة.
تركيا «الأردوغانية» صديقة النظام الأسدي الصدوقة، قالت إنها ضجرت من تعنت النظام في دمشق من المضي في الإصلاح، ومثلها قال الغرب، حتى أصدقاء سورية في لبنان مثل وليد جنبلاط، تحدثوا، بتهذيب طبعا، عن أنه لا مناص من الإصلاح في سورية للخروج من هذا النفق.
المفارقة أن هناك إلحاحا دوليا على الإصلاح وتعديل السلوك، حسب لغة أميركا، وليس على «التغيير» كما قيل في حق مبارك وبن علي والقذافي.. فلماذا تغيرت ردة الفعل تجاه سورية؟!
إسرائيل تخاف من تغيير النظام في دمشق، وكذلك إيران، وهذه مفارقة عجيبة! يضاف إليهما قلق دولي مبطن من تغيير النظام في دمشق، إما بسبب الخوف من اندلاع حرب عربية مع إسرائيل، أو بسبب اندلاع «فوضى صومالية» في بلاد الشام، ولذلك فإن الإلحاح على إصلاح النظام، لا تغييره، في دمشق.
الجديد في ملحمة بلاد الشام، هو أن الأقليات الدينية والطائفية في سورية ولبنان، حتى الكارهة لسياسات بشار الأسد، بدت أكثر قلقا وحرصا على الإصلاح في دمشق من الجميع، ويبدو – كما قالت الزميلة هدى الحسيني في مقالها الأخير – أن: كل واحد الآن يفكر حسب مذهبه حتى ولو أخفى ذلك.
وفي ظني أن هذه المخاوف من تفجر التعصب المذهبي والديني لديها ما يسوغها في سورية، ولكن لا يجوز أن نهمل التجربة التاريخية والاجتماعية في سورية في التسامح الطائفي، ولعله من المناسب التذكير هنا بأن فارس الخوري، المناضل والسياسي الوطني السوري الشهير، كان رئيسا للمجلس النيابي السوري عام 1936 ومرة أخرى عام 1943، كما تولى رئاسة مجلس الوزراء السوري ووزيرا للمعارف والداخلية في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1944، واعتبر تولي رجل سوري مسيحي لرئاسة الحكومة حينها حدثا عظيما ودلالة ناصعة على رقي المجتمع السوري ووطنيته. وقد أعاد تشكيل وزارته ثلاث مرات في ظل تولي شكري القوتلي رئاسة الجمهورية.
هذا الكلام قبل أن يصل حزب البعث إلى الحكم في سورية، وطبعا قبل حركة الراحل حافظ الأسد التصحيحية، وأكيد أيضا أن ذلك جرى قبل أن يولد جيل بشار والشباب السوري.
ما يجري في سورية دليل جديد على أنه لا يوجد شيء اسمه مواقف أخلاقية وفقط، هناك مصالح ظاهرة وخفية تحكم الجميع.